- مِهادٌ:
يرتبطُ المكانُ – في الطرح الفلسفي والأنثربولوجي – ارتباطاً شديداً بالذات الإنسانية، لا من حيثُ كونه موطأً للحياة، بل لارتباطه بالإشكاليات الأساسية للذات الإنسانية، وعلى رأسها: «الهُوية، والحرية والانتماء، والاغتراب». فضلاً عن مسؤولية المكان – واضطلاعه – بالتحقق الحضاري – والمدني – للأمم والمجتمعات، «إن المكان هو المُشكّلُ الأول لفكر الإنسان ووجدانه، يترتبُ على هذا أنّ المكانَ هو الذي يُشكّلُ الموروث الثقافي للأعراف والتقاليد والعادات والسلوك، بل وملكة التّخيل لدى الفرد والجماعة». (1) ومن منطلق هذا لا ندهشُ من سطوة المكان على بعض الفنون إلى حدّ انتسابها إليه – وإلى حد تقسيم الفنون إلى زمانية ومكانية – ورغم اشتمال القصة القصيرة على ما نُسمّيه العناصرَ الشكلية، أو العناصر البِنائيّة – وهي الحدث والشخصية والزمان والمكان – يظلّ المكانُ عنصراً بِنائيّاً مائزاً وسط عناصرها، ممَّا حدا ببعض النقاد إلى اعتبار القصة القصيرة الأقربَ إلى الفنون المكانية، «فإذا كان الشعرُ أقربَ ما يكونُ إلى الفنّ الموسيقي في دلالته الزمنية، فإنّ القصة القصيرة – والفنّ السردي عموماً – ظل متراوحاً بين تغليبِ الطابعِ الزمني، أو الطابع المكاني، أو التّوسط بينهما». (2)، كما ظلّ عنصر المكان دليل تأثّر القصة بالفنّ التشكيلي – واستيعابها لهذا الفنّ – وتعالقها الفني بالرواية، حيثُ تستعيرُ منها «مقاربَتها الحميمية للواقع، وتمثيل نماذجه الإنسانية العديدة، وتصوير خصوصية المكان والزمان» (3)، وهذا لا يعني قدرة الناقد على الاستبداد – أو الاكتفاء – بعنصر المكان وحده في التحليل النقدي لعملٍ قصصي ما، فهذا ممّا لا يمكنُ للناقد أن يحققه نظراً للتلاحم العضوي الشديد بين العناصر البنائية للعمل القصصي، بما يعني فاعلية كل عنصر في الآخر، وتفاعله معه تأثُّراً وتأثيراً.
ومن ثمَّ، فإنه على الرغم من أنّ كلّ دراسة نقدية إنّما تقومُ على مبدأ الاختيار – ممَّا يبرزُ أثر الذاتية في الطبيعة الموضوعية للنقد – فإنّ الدراسةَ النقدية التي تعمدُ إلى طرح رؤيتها حول عنصر المكان في عملٍ قصصي ما مُجبرةٌ على رصد مظاهر التأثر والتأثير – المتبادلة – بين المكان وسائر العناصر البنائية لهذا العمل القصصي.
وقد استطاعَ الفضاءُ السَّردي في المجموعة القصصية «كائنٌ كالظلّ» أن يستقطب انتباهي النقدي – بسماته ودلالاته الرمزية – بما يكفي لتحريضي على محاولة البحث في مدى مساهمته في إبراز المسار الرؤيوي للكاتب – في هذه المجموعة – ومن هنا كان هذا الفضاءُ مرتكزَ هذه الدراسة النقدية التي سنعتمدُ فيها على منهجٍ إجرائي يسعى لتحليل العناصر الشكلية لأبرزِ قصصِ هذه المجموعة ارتكازاً على فضاء مكانيٍ دال – وقدرة على إبراز الرؤية النقدية – ومن ثم البحث عن الدلالة المُكتَنزة في هذه العناصر، وفي عملية التفاعل والتأثير المتبادل بينها.
- في وقفةٍ لابد منها مع عنوان هذه المجموعة «كائن كالظلّ» ننتبهُ إلى تَّنكير مفردة «كائن» – التي وقعت موقع المبتدأ – بما يتضمنُ الإشارة إلى العموم – دون تخصيصٍ لهذا الكائن – وبما يتضمنُ دلالة تهميش هذا الكائن – في الوقتِ ذاته – ولعلّ دلالة التّهميش تظلّ هي الأقوى – في الافتراض النقدي – لتعالقها الدلالي مع مفردة «الظلّ» التي أشارت – بدورِها – إلى كائنٍ عابرٍ، غير مستقلٍ.
- ويُضمر عنوانُ المجموعة دلالةً إشاريةً إلى مكانٍ له طبيعةٌ خاصة، من أهم سماته: افتقاد الخصوصية – حيثُ الظلّ لا يملكُ بل يتبعُ – ومن ثمّ افتقاد الحميمية والشخصانية، بما قد يُنبّهُ الناقد إلى دلالة مُضمرة – في هذا العنوان – هي تصدّع الذات الإنسانية لهذا الكائن ومعاناته لوناً ما من ألوانِ الاغتراب.
تشتملُ هذه المجموعةُ على حوالي ستّ عشرة قصة قصيرة، هي – وفق ترتيبها في المجموعة – كائن كالظلّ، جونو، نسمة من الشمال، حلم وحقيقة، صديقي اللدود، مقطع من نيسان، شيطان، نزهة قصيرةٌ مع رجل أخرس، أفروديت، تلصص، زبرجدة، حياة، ثقوب في الذاكرة، عينُ في فنجان، رجلٌ يشتري السعادة، بائع الذرة.
ونشيرُ في البدء إلى أول ما يُلاحظُ في عناوين هذه القصص، وهو: تنكيرُ الأسماء – التي وقعت في موقع المبتدأ – نسمة، مقطع، شيطان، نزهة، رجل (مرتين)، زبرجدة، حياة، ثقوب، عينٌ، بائع. تبدو صيغة التنكير أساسية في عناوين هذه القصص، ممّا يدفعنا إلى افتراض تبعيّتها النّسقية لصيغة التنكير في عنوان المجموعة – من جهة – ومن جهةٍ أخرى تدفعنا إلى ملاحظة الوضعية التّهميشية – العابرة – للذوات الإنسانية – والأشياء – التي طُرحتْ في هذه الصيغة.
ونقفُ وقفةً قصيرةً مع الخطوط الأساسية لكلّ قصة من هذه القصص في محاولة للتعرف على المسار المضموني العام لها، ومدى قدرة المكان الفني على التعبير عن هذا المسار؛ فالمكانُ الفني «يمتلكُ خصوصية بنائيّةً ودلالية تختلفُ عن المكان الواقعي مهما بدتْ درجةُ التّشابه الظاهري بينهما» (4).
- تطرحُ قصة «نسمة من الشمال» نموذج الذات المغتربة عن وطنها من خلال فتاة لبنانيةٍ تعيشُ في الإمارات، وتدورُ أحداثُ القصة في سيّارتين: سيارة الفتاة، وسيّارة الراوي – وهو راوٍ داخلي في هذه القصة – وتنحصرُ هذه الأحداثُ في التقاء الشخصيتين عدة مراتٍ عابرة – على الطريق – تجمع بينهما موجةٌ إذاعية تبثّ مختلف أغاني فيروز وبعض الأخبار السياسية، حيثُ تضطّلع هذه الأغاني بالتعبير عن النمو الانفعالي للشخصيات – ونمو الحدث في الوقت ذاته – كما تضطلعُ نشرة الأخبار بإبرازِ أبعاد التأزّم السياسي للوضعية العربية الراهنة بما يُعدّ عاملاً من عوامل اغتراب الشخصية.
وينفرد عنصر المكان – في هذا الطرح – بالتعبير – الرمزي -عن معاناة الشخصية الرئيسيّة – الفتاة اللبنانية – من الشتات والضياع. وتبرزُ الطاقاتُ الرمزية للمكان بدءاً من السطر الأول للقصة – وعلى مدارها – حيثُ تبدأ بقول الكاتب:
«شمالاً كما يميلُ الطريق.. تميلُ إلى جانب القلب»، هكذا يتصدر المكانُ الجملةَ الأولى من القصة، في جملة تصفُ بدء تكوين المسار العاطفي تجاه هذه الفتاة، ويضطلعُ المكان – كذلك – بتصوير المسافة الإنسانية بين الطرفين، ورصد تصاعد درجة الأحداث، كما في المواضعِ الآتية، التي تتوالى مع تطور إيقاع القصة:
«تسبقني بسيارتها الأنيقة»، ثم «تقدمتُ بمحاذاتها»، ثمّ «توقفتُ بجانبها».
- على صعيدٍ آخر – في هذه القصة – يطرحُ الكاتبُ المكانَ رمزاً للذات الجمعية – العربية – فيوظِّفُ مفردةَ «الشارع» توظيفاً رمزيّاً للدلالة على هذه الذات، كما يطرحُ لحظات التوتّر والتوافق – والتعاطف والتجاهل – بين الشارع والفتاة اللبنانية طرحاً رمزيّاً دالّاً على موقف الضمير الجمعي من تأزّم الوضعية السياسية للبنان – ودالّا في الوقت ذاته على تصدّع الروابط العربية – وذلك كما في هذا المشهد الدال:
«رمت الهاتف جانباً وضربت على المقود بقبضتها.. لمّت شعرها المُنسدل على وجهها وظلّت ممسكةً به أعلى رأسها.. تجمّدَ الشارعُ من خلفها وضجّت الأبواق.. أطلقت شعرها وتنهّدتْ.. أراهنُ على أنها غير مبالية بما أحدثته من ازدحام..»، وفي موضعٍ آخر يقول الكاتب:
«بضع أيامٍ مضت.. والشارع يشكو غيابَها..»
وفي هذا السياق يطرحُ الكاتبُ محاولة الفتاة دخول الشارع باعتبارها محاولة اندماج في الذات الجمعية – أو محاولة للانتماء – يقول:
«كعادتها حذرة، تريد الدخول إلى الشارع..».
كما يوظّفُ مفردة الشارع للتعبير عن انحياز الشاب – عاطفياً وفكرياً – للفتاة، يقول محسن سليمان:
«الشارع من حولي ضجيجٌ لا أسمعهُ.. لا أسمعُ سوى الصوت المنبعث من سيارتها..».
ويظل المكان – كاتجاه جغرافي – مُضطلعاً بالتعبير الرمزي عن التحول في المسار النفسي لشخصية الفتاة، والتعبير عن أزمة الذات الجمعية – في الوقت ذاته – نطالعُ هذا من خلالِ تردّد مفردة «الشمال» بأصدائها الدلالية المتنوعة – على مدار القصة – من ذلك قول الكاتب: «تجدد الاشتباكات بين الجيش اللبناني ومنظمة فتح الإسلام، في الشمال».
وقوله: «تفتحُ النافذة، تهبّ نسماتُ باردةٌ من الشمال، تداعب خصلات من شعرها»، هذا فضلاً عن تصدّر هذه المفردة عنوان القصة – نسمة من الشمال – وهكذا يضطلعُ المكانُ بالتعبير الرمزي عن افتقاد الحرية، والتعبير عن التأزّم والاغتراب، وتصوير التوق إلى الحياة والحب.
من جهةٍ أخرى وظّفَ الكاتبُ مفردات المكان في تصوير الصراع الجدلي بين ما تعانيه هذه الفتاة اللبنانية من الاغتراب – في دلالته السياسية والاجتماعية – وبين انغماسها في البحث عن الذات. نطالع صورة من هذا الصراع في هذه الأسطر التي صوّرَ فيها رحيل الفتاة وغيابها:
«كيفَ ستسمعني..؟ لقد غادرت بأميالٍ.. ألمحُها وكأنّها تجلسُ بجواري.. تُثبّتُ الحزامَ على صدرها وتعدّل من جلستها.. تبحثُ بين الإذاعات عن أغنيةٍ تفتقدها.. أسألُها متى تستقرّين… لا تجيب.. تستمرّ في البحث… هي لا تدري متى تستقرّ…»، في هذه الأسطر طرح الكاتبُ التعالق بين المكان وبين الهوية، أو لنقل إنه جعل المكان مرادفاً للهوية والاستقرار وتحقق الذات، ومن ثم يبرزُ عنصرُ المكانِ – في جملة «تستمر في البحث» – عنصراً إشكالياً يتعدّى الحدود الجغرافية إلى حدود التعبير الرمزي عن الحرية والكينونة، «فالإنسانُ لا يحتاجُ إلى رقعةٍ فيزيقيّةٍ جغرافيةٍ يعيشُ فيها، بل يميلُ كذلك إلى البحث لنفسه عن رقعةٍ من الأرضِ يضربُ فيها وتتأصلُ فيها هُويته، ومن هنا كان ارتباط البحث عن الهُوية بالبحث عن المكان». (5)
نلاحظُ على مدار هذه القصة التفاعل بين الدلالة الرمزية للبعد المادي للمكان – الشارع والسيارة – والدلالة الرمزية لأغنيات فيروز، حيثُ تبدو هذه الأغنيات بمثابة الجوقة أو الكورس المُعلّق على الأحداث، أو بمثابة الراوي الخارجي المطّلع على الخفايا النفسية للشخصيات. على ضوء هذا التوجّه النقدي نلاحظُ أنّ كل مقطع من أغاني فيروز – في هذه القصة – يحملُ تطوراً في المسار الدرامي للقصة، وموقفاً نفسياً – وفكرياً – لإحدى الشخصيتين، كما في هذا الموضع الذي يقول فيه الراوي:
«تلامسُ المقودَ بأطراف أصابعها وتحركها على هوى فيروز.. أحاولُ مجاراتها في ما تسمع، حيثُ تتحدُ الإذاعاتُ جميعها على أغنيات فيروز كل صباح… أبحث عن صوتٍ يطابقُ صوت الأغنية الصادرة من سيارتها، وذلك الكوبليه الذي يمدّني بالحيوية كلما سمعته:
«سلّملي عليه… سلّم.. إلّو إني بسلم عليه..»،
طُرحَتْ أغنيةُ فيروز – في هذه الفقرة – باعتبارها مساراً ممكناً للتوحّد – أو القرب – بين الشخصيتين، وباعتبارها المرتكز الوحيد لوحدة الصف العربي – حيثُ تتحدُ عليها الإذاعاتُ صباحاً – وذلك في مقابل الشتات السياسي».
ولأنّ أغاني فيروز مُفعمة بمشاعر الحنين – إلى الزمان والمكان والوطن – ومفعمة بمشاعر التوق إلى الحب والسلام مع الوجود – يضعها الكاتبُ في مقابلة حادة مع القصف والاشتباك العسكري، مُبرزاً قهر السلاح للغناء – أو قهر العنف للسلام – وذلك حين يقول:
«أسكتُّ الأغنية وغيرتُ الموجة فوراً.. يخرجُ صوتٌ عنيفٌ لا يتلاءمُ مع نداوة الصباح، يتقطّع الصوتُ مع ضعف الإرسال وتداخل الموجات… تجدد الاشتباكات بين الجيش اللبناني ومنظمة فتح الإسلام».
كما طرح الكاتبُ أغاني فيروز باعتبارها ملتقىً للتوافق بين شخصية الفتاة اللبنانية والراوي – ومن ثمّ انحيازه إلى قضيتها – يقول:
بقيتُ وحيداً استمعُ إلى شدو فيروز وهي تغني عن لبنان هذه المرة:
«بحبك يا لبنان .. يا وطني بحبك».
على صعيدٍ آخر طرح محسن سليمان أغنية فيروز باعتبارية رمزية بدتْ فيها الأغنيةُ صوتاً خارجياً يتنبّأُ بالأحداث – أو ينذر بها – كما في هذا الموضع الذي حملت فيه كلمات الأغنية إشارة إلى غياب الفتاة ورحيلها، يقول: «لا أرى أحداً سواها.. أتحدُ روحياً مع أنغام أغنية لفيروز لأول مرة: «يا ناطرين الثلج.. ما عاد بدكن ترجعوا.. صرّخ عليهم بالشتي.. بلكي بيسمعوا..»
كيف ستسمعني..؟ لقد غادرت بأميالٍ..».
لقد بدت أغنيةُ فيروز – في هذا الطرح – جزءاً من مسار الأحداث، ومواجهةً – ومقاومةً – للدلالات السلبية المُشعة من المكان، واستبداده بالشخصية وهيمنته على أقدارها، الأغنيةُ – في هذا الطرح – محاولة لإحداث التوافق والالتئام في الذات الإنسانية. لكن رؤية الكاتب اقتضت تغليب سطوة المكان على الغناء، وقهر الاغتراب لكل محاولة للتوافق والالتئام؛ فتنتهي القصة باختفاء الفتاة اللبنانية – موحية باستمرار شتاتها – مع استمرار الشاب في الرجاء والأمل في عودتها، مع بقاء النافذة مكاناً يستقبل للأمنيات، ورياح التغيير، والنسمات – بتعدد معانيها – يقول الكاتب:
«أمنياتٌ ترددتْ في خاطري بعد أن هبّت النّسمات عبر نافذتي.. أتمنى عودتها بأسرع وقت.. تشحن ذهني بأمنياتٍ كثيرةٍ..».
- أمّا قصة «نُزهة قصيرة مع رجل أخرس»، فهي تدورُ حول فتاةٍ عشرينية تفتقدُ الثقة في رجال مجتمعها – بعد عدة تجارب فاشلة قاسية وتُشرعُ قطيعتَها النفسية – والعاطفية – مع المجتمع حدّ التّوحد المأساوي الذي دفعها إلى الاستعاضة وتحقيق الإشباع العاطفي من خلال الإعجاب بدميةٍ على شكل رجل – في أحد المتاجر – وقد أسقطت على هذه الدمية ما تمنّته – وافتقدتْهُ – في الرجل الحقيقي؛ ومن ثم اكتفت بالدمية بديلاً، ولم تفلح محاولة أمها وأختها في تغيير قناعتها – رغم تمزيق الأخت للدمية وانتزاع الفتاة من المتجر – فقد اختزنت الفتاةُ دميتَها في عقلها ومشاعرها، وحملتهَا إلى غرفتها وسريرها، معلنة عن وصول تأزّمها النفسي والروحي إلى ذروته. ولعل السطور الأولى من القصة تشيرُ إلى درجة هذا التأزّم – وإلى أطراف الأزمة – تقول الفتاة – حيثُ إنها الراوي الداخلي:
«أتوارى في هدوء..
قبل أن تنهرني أمي..
أحاول أن أملأ ناظري منك..».
أشار الكاتبُ – في هذه الجمل الثلاث – إلى الأطراف الثلاثة التي تُشكّلُ أعمدة الصراع في هذه القصة: الفتاة، الرجل الدمية، الأم – التي رمزت إلى الضمير الجمعي ومدى مسؤوليته عن أزمة الفتاة وكيفية مواجهته لهذه الأزمة – أمّا الأفعالُ فقد جسّدت الموقف النفسي – والمادي – لكل طرفٍ من هذه الأطراف؛ فدلّ فعلُ «التواري» على خوف الفتاة وانزوائها في عالمها النفسي – وتعرضها للقهر – ممّا يبررُ محاولتها «أن تملأ ناظريها» من الدمية، كما أبرز الفعلُ «تنهر» وقوف الأم موقفاً سلطويّاً – تقليديّاً – يفتقر إلى التعاطف والتّفهّم؛ ممَّا يطرحُ الأم رمزاً للمجتمع التقليدي، ويطرحُها طرفاً مُعادياً مُهدداً بالاستلاب.
وإنّ ابتداء القصة بالفعل «أتوارى» بمثابة الابتداء بعنصر المكان – فالتواري يحدث في حيّز مكاني ما – كما أن هذا الفعل لم يقف عند حدود دلالته الحرفية، بل تعدّاها للتعبير عن إشكالية هذه الشخصية، وأعني انزواءها ووحدتها واختيارها القطيعة موقفاً من الآخر.
يرتكزُ الكاتب على عنصر المكان في تصوير إشكالية هذه الذات المُتصدعة، منتقلاً بهذا المكان من حدوده المادية إلى مصاف فنية يكونُ فيها فضاءً مكانيّاً تعتمل فيه مشاعر الذوات الإنسانية، وتمتزجُ فيه أفكارها ونوازعها العاطفية؛ فيخرج من سمته المحدود ويكتسي صبغة معقدة من النسيج الروحي للشخصية «فمن خلال هذه العلاقات التي تربط المكان بغيرهِ من العناصر الفنية، ومن خلال هذه الأبعاد العديدة التي يتخذُها المكانُ ينتجُ ما يُسمّى بـ «الفضاء المكاني» الذي يتكونُ من شبكةٍ من العلاقات والرؤى ووجهات النظر التي تتضامنُ مع بعضها لتشييد الفضاء السردي الذي ستجري فيه الأحداثُ». (6)
- المكانُ – في هذه القصة – ضيّقُ محدودٌ – وداخليّ – بلغة السينما – فالدمية الرجل – أو الرجل الدمية – يوجدُ في: الركن، الباترينة، مدخل المتجر، الرّف، سرير الفتاة، لكن هذه الأماكن تتعارضُ بضيقِها ومحدوديتِها مع القيمة اللَّا محدودة التي تمنحُها هذه الدمية من حيثُ هي رمز الحلم والخلاص والاستعاضة عن نقص الواقع وقبحه؛ ومن ثمّ يتضح لنا ارتكاز القصة على المفارقة بين ضيق المكان واتساع الحلم، حيثُ لم يحُل ضيقُ المكان دونَ اضطلاعه الرمزي بالتعبير عن دلالات الخلاص والتحقّق الحُلمي الاستعاضي – إن جاز التعبير – وهو تحقق زائفٌ عند حضور الوعي، لكنه تحقق كافٍ عند اضطراب الوعي تحت وطأة التصدع والوحشة؛ ذلك أنّ المكان لم يطرح كموقع جغرافي، لكنه طُرح من وجهة نظر الشخصية – أو من منظور الشخصية – أي رؤيتها الخاصة للمكان في كل أبعاده – فقد أسقطتِ الفتاةُ على المكان قيمةً – ودلالة – مستمدة من قيمة الدمية في حياتها، وهكذا تتغير دلالات اتساع المكان المادي – وضيقه – حين يتحول داخل القصة إلى مكانٍ فنيٍ «لأننا في الأدب نرى صورةَ هذه الصفات، وهي صورةٌ تُوحي غالباً بدلالاتٍ تختلفُ عمّا توحيه هذه الصفاتُ نفسُها في الواقع، فقد يدفعُ هذا الاتّساعُ – في الواقع – إلى الإحساس بالمتاهة، في حين يوحي داخل العمل الفنّي بـ الحرية… ولا شكّ أنّ مثلَ هذه الإيحاءات ترتبطُ ارتباطاً وثيقاً بمنظور الشخصيات القصصية وانطباعاتهم وطبائعهم وأحوالهم الشخصية وحالاتهم النفسية». (7)
كما اضطلعُ المكانُ – في هذه القصة – بتصوير تفاصيل اغتراب الفتاة واستغراقها النفسي في نموذج الدمية – مقابل المزيد من قطيعتها مع الذات الجمعية – طرحَ الكاتبُ هذه التفاصيل من خلال تصوير تعلّق الفتاة بمواضع عرض الدمية – في المتجر – وانتمائها إلى هذه المواضع، وتشبّثها بالبقاء فيها، بما يعد انتماءً نفسياً وعاطفياً تامّاً لهذه الدمية. نطالع هذا في مناجاة الفتاة للدمية:
«في الركن الذي أنتَ فيه… للمرة العاشرة أو الحادية عشرة أقترب… أُبّث إليك الخطوات.. أحلمُ بك تنتشلني من ذروة العشرين إلى عالمٍ أجهله ولا أكره الخوض فيه..».
وتقول: «لا حاجة لي في هذا الركن سواك.. أنتهز فرصة إغلاق الأنوار.. أمي تبحثُ بين الردهات… كنتُ بقربك في مشهدٍ صامتٍ إلا من ضربات في صدري ورعشةٌ بين أوصالي تُبطئُ من سيري إليك…».
ويوظّفُ الكاتبُ سريرَ الفتاةِ كفضاءٍ مكانيٍ يجسّدُ الذروة الأعلى من التوحّد بين الفتاة والدمية – بما يجعل كلّاً منهما ظلّاً للآخر – تقول الفتاة: «أمي تنتحبُ مهرولةً وتتمتم بقسمات على أنها تعتزمُ ربطي داخل السرير.. هه مسكينة أمي لا تدري بأنك ترقد في سريري بملامحك الحلوة وبشرتك الخالية من القسمات».
وفي تصعيدٍ للأحداث – الواقعية والنفسية – يُوظّفُ المكان – في القصة ذاتها – للتعبير الرمزي عن لحظة الانعتاق من السائد – ومواجهته – والتعبير عن ذروة التماهي بين الفتاة وكيان الدمية، ووفق هذا التصور يبدو «الرف» حيزاً مكانياً يرمزُ – بثباته – إلى الفكر السائد والذات الجمعية، ومن ثم يكون انتقال الدّمية – وتحولها – من هذا الرف، بمثابة الخروج على أُطر الضمير الجمعي. تقول الفتاة: «أحرركَ من الرفَ الذي تقبعُ فيه.. أنفثُ عنك الغبار.. أحطمُ بك كل قيدٍ وعرفٍ.. ترمقني بنظراتٍ معسولة لم أعهدها في الرجال، أشدك من أطرافك.. تسقطُ على صدري وأبثّ فيك الحياة… تشدني إليك بقوة وتنظر في عينيّ صامتاً.. أجل أنت الرجل الذي أردتُ.. هو أنت.. أهربُ معك وإليك حيثُ لا يبقى في المتجر كائنُ سوانا.. أدخلُ معك قالبك الكارتوني».
- إنّ هذه الفتاة – التي تُمثّلُ نموذجاً للذات الإنسانية المتصدعة – لا تكتفي بتشابهها مع الدّمية – في صمتها وانزوائها المكاني – بل تتعدى هذا الحدّ من الاغتراب إلى ذروة أكثر مأساوية، هي محاولة التَّماهي مع الدمية من خلال «الدخول في القالب الكارتوني» الخاص بها، حيثُ يبدو هذا الدخولُ وكأنه خروجُ من عالم الأحياء وانتماءٌ لعالم الدُّمى. ووفق هذا التَّلقّي يرمزُ القالب – كفضاءٍ مكانيٍ – لهذا التحول الفاجع الذي يمثّلُ ذروة الاغتراب. ويتخذ الصراع درجة حادة حين تحاولُ أخت الفتاة أن تنتزعُ الدميةَ من بين ذراعيها، فتتحررُ الفتاةُ – وتُحررُ دميتَها – من أسر المكان، كما يتحرر المكانُ من صفته الواقعية – التي تُجبره على الثبات والتموضع – وتعلنُ الفتاةُ رحيلَها بالدمية – محمولاً في عقلها ومشاعرها – ومن ثم انتصارها على المكان، وتحويله من مكانٍ ماديٍ إلى مكانٍ حُلمي يستجيبُ لإصرارها على الخلاصِ من استبداد الثوابت تقولُ:
«أختي تقتل فيك الحياةَ وتنتزعك من بين ذراعي.. أُعيدُك إلى مكانك في هدوء.. نزهة لم تدم طويلاً لكن أحدثتْ الكثيرَ.. أراك الآن تبتسم.. ألتفتُ حواليّ. أراك تشيرُ إليّ من جميع الرفوف والباترينات.. أخرجُ من المتجر وأنا أحملك.. ألتفتُ خلفي أراك تبتسم وتودّعني.. وفي السرير تبتسم وتستقبلني.. أرمي بجوارك رجلاً آخر وأتراقص حواليك..».
يشتملُ هذا الموضع من – نهاية – القصة على أكثر من فضاءٍ مكاني له دلالته الرمزية، من ذلك:
- ذراعا الأخت، وهو فضاءٌ مكاني يرمزُ إلى قهر الضمير الجمعي.
- المكان المادي للدمية: «مكانك، المتجر».
- المكان ببعده الحلمي، ويتمثل في: ذراعي الفتاة : «ذراعي – أحملك، حواليّ، جميع الرفوف والباترينات، السرير، بجوارك، حواليك».
- إنّ التقابل الضدي بين البعد المادي للمكان، والبعد الحلمي انعكاس للصراع بين واقع الشخصية وعالمها الداخلي – أو الواقع المادي ووقائع الروح – أو انعكاس للصراع بين الآخر والشخصية. ولا نستطيع تجاهل الإشارة إلى ختام القصة بثلاثة نماذج مكانية مقابل ابتدائها بالأطراف الثلاثة التي يدور بينها الصراع – كما سبقت الإشارة – الفتاة، الدمية، الأم. وهذا التناظر – العددي – يشتملُ على تناظر دلالي؛ حيثُ تبدو الأم معادلاً للأخت – وكلتاهما رمز الضمير الجمعي – المكان المادي للدمية معادلٌ للدمية ذاتها – في صورتها الحقيقية – المكان في بعده الحلمي ويعادل الفتاة العشرينية بتصدعها واغترابها وتوقها إلى الخلاص.
- تبدأُ قصة «حياة» بفضاء مكاني مميز مُتماهٍ مع الحدث الرئيسي فيها. يقول الكاتبُ على لسان الراوي الخارجي:
«جمودٌ في المكان كحال الميت.. الوجومُ يسبغُ وجوه الحضور، الحزنُ على أشده أسفاً على الجسد المُسجّى انتظاراً للصلاة.. لا صوت يعلو فوق المصاب.. يدخلُ أفواجٌ من المحزَنين يصدرون همساتٍ بحوقلة وحسبنة وعيون منكسرة على فرد من أفرادهم سيُوارى التراب».
- يبدو الفضاءُ المكاني – في الموضع السابق وكأنّه إيذانٌ بما سينبعثُ في القصّة من المشاعر والأصوات – والملامح والأحداث – فضلاً عمّا هو مُلاحظ من التماهي بين سمتِه العام – الجمود – وطبيعة الحدث – الموت – وهذا ما أعلنه الكاتبُ عبر هذا التشبيه «جمود في المكان كحال الميت». ونلاحظُ أنّ الكاتب قد طرح – في الموضع السابق – جميع العناصر البنائية لهذه القصة، وذلك من خلال لقطة عامة – وهي تقنية من تقنيات الفن السينمائي – ثم يمضي في سرد أحداث القصة مرتكزاً على توظيف اللقطات المتوسطة، ثم القريبة – الكلوز أب – بما يتناسب مع نمو الحدث، وتصاعد درجة تأزمه، وصولاً إلى الذروة. من أمثلة ذلك قولُ الراوي: «الوالدُ يستندُ على سارية المسجد مطرق الرأس»، «الإخوةُ يجلسون في طرف بعيد من المسجد يتبادلون نظرات الفقد والشفقة»، ثم تأتي اللقطة القريبة – كلوز أب بتعبير السينما – حيثُ دفن المائت: «أُنزل الميت إلى مثواه الأخير.. وُضعت اللحود وسُدّت بالطين وأُهيل على قبره التراب..».
- برزُ الفضاءُ المكاني -عبر هذه اللقطات – لا باعتباره مسرحاً للحدث – بل باعتباره عنصراً فنيّاً له دلالته الرمزية المُتّسقة مع طبيعة الحدث؛ فقد طُرحت ساريةُ المسجد باعتبارها متّكئاً، وطُرح الموضع البعيد من المسجد معادلاً فنّياً لشعور الإخوة بالوحشة والخوف من الموت، وبدا القبرُ بدلالته المادية – التهاماً للحياة – وبدا المكانُ كله مقبرةً كبيرةً، ممَّا ينسجمُ مع تكرار الكاتب لمفردة «التراب» كما في قوله: «فردٌ من أفرادهم سيُوارى الثرى»، «أُهيل على قبره التراب».
ويظلُ هذا الفضاء المكاني بأثره وهيمنته النفسية والعصبية على شخصيات القصة حتى يضطلعُ فعلٌ ما بتحويل الأحداث إلى فضاء مكاني آخر، وذلك في قول الكاتب:
«جاء أحدُ المحسنين ووزّع قنينات الماء.. نفضوا عنهم التراب.. انفضّ الجميع دفعةً واحدةً.. ركبوا سياراتهم القريبة من قبور الأموات.. الجميعُ يريدُ الخروج من باب المقبرة الكبيرة.. اكتظت السيارات وعَلقت في الازدحام.. تأفف الجميع.. بعصبية خرج الوالد غاضباً من الازدحام.. ضاق الإخوةُ ذرعاً وخرجوا يصرخون.. صاح الأصدقاءُ والإخوةُ والمعزون.. أطلقت السيارات أبواقها غاضبة».
طُرح فعلُ توزيع قنينات الماء وكأنه فعلٌ أسطوري تتغيّر به مسارات الأحداث ومواقف الشخصيات – ومصائرُها – إذ أعقب هذا الفعلَ نزوعَ الشخصيات – وإقبالها – على الحياة، ومبادرتها – من ثمّ – للخروج من سياقات الموت – وفضائه المكاني – ولنتأمّل الموضع التالي الذي تُختمُ به القصة، يقول الكاتبُ:
«جاء أحدُ المحسنين ووزّع قنينات الماء.. نفضوا عنهم الترابَ، انفضّ الجميعُ، ركبوا سياراتهم، الجميعُ يريدُ الخروج من باب المقبرة الكبيرة، اكتظت السيارات… إلى آخر الفقرة».
- يدفعنا هذا التقارب الزمني – ومن ثمّ الارتباط – بين حدثي توزيع الماء، ونفض التراب – وما تلا ذلك من أفعالٍ تصوّرُ الإصرارَ على الخروج من المقبرة – أقول: يدفعنا هذا إلى افتراض وجود تناص ضمني مع الآية الكريمة «وجعلنا من الماء كلَّ شئٍ حي»، إذ بدا الماءُ هنا وكأنه المحرضُ على انبجاسِ شعور الشخصيات بالرغبة في الحياة، ممَّا يتسقُ مع دلالته في الفكر الأنثربولوجي – والفلسفي -، حيثُ «الماءُ هو الأم أو الرحمُ، وهو من ثمّ ولادةٌ وانبعاثٌ … الماءٌ نوعٌ من الوطن الكوني» (8)، ومما يُوغلُ بنا في هذه الفرضية النقدية طبيعة الأفعال في هذه الفقرة، وعلى رأسها فعل «النفض» والانفضاض بما يضمران من رغبة وعمدٍ وصحوة مباغتة.
- على صعيد الفضاء المكاني، بدت السيارات – في القصة – رمزاً للخلاص – أو الفرار – إلى الحياة – بما يُعدّ ضدّيّاً لدلالة القبور – وهكذا توزعت أحداث القصة على فضائين مكانيين، رمز أحدهما إلى عالم الموت – المقبرة الكبيرة – ورمز الآخر إلى الرغبة في الحياة – السيارات، ومن ثم فإن عنونة القصة بعنوان «حياة» – في صيغة التنكير – لهو انتصار للفضاء المكاني الدال عليها، كما يتضمنُ دلالة إشارية هي وصف الحياة الإنسانية بالتناقض والضدية التي بدت في التحول من مقام الحزن إلى مقام الرغبة والنزوع إلى العيش.
- في قصة «عين في فنجان» يضطلعُ الفضاءُ المكاني بوظيفة التعبير الرمزي عن العلاقة الخلافية المتوترة بين الفرد والمجتمع، حيثُ تبدو الشخصيةُ الرئيسيةُ متباينة مع الفكر السائد في كيفية تعاطي الحياة، والنّظر إليها. يطرحُ الكاتبُ رؤيته حول هذه الإشكالية من شخصيته الرئيسية، وهو شابٌ اعتاد الجلوس مع رفاقه في «كافيه الهلال» – الذي يتوسّط مولاً كبيراً – وفي جلساته معهم، يكتشف الفارق الأساسي بينه وبينهم؛ إذ يكتشف انغماسهم في قشرة الحياة ممثّلة في الاهتمام بمراقبة الفتيات والنساء، والتعليق على جمالهنّ استثارةً وشبقاً. ويُعلنُ الشابُ انفصاله واختلافه – ورفضه – لهذا السائد من خلال اختيار فضاءٍ مكاني مغايرٍ، وهو الفنجان؛ حيثُ عبّر بتحديقه في الفنجان عن مساره المختلف.
بدأت هذه القصةُ بإعلان الشخصية الرئيسية موقفها الرافض لمجموعة الأصدقاء – بما قد يرمزُ إلى رفض دائرة أكبر من المجتمع – وذلك في قولها – كراوٍ داخليٍ:
«تزعجُني أصواتهم وهم يتضاحكون.. أرى في همساتهم رغاءً كزبدِ البحر، يتكوّمُ ثم يتلاشى ويعود إلى أصله مع انفضاض الليلة.. أتململ..».
- يُمثّلُ كافيه الهلال أهمّ ملامح الفضاء المكاني – في هذه القصة – لأنه موقع التقاء الذوات المُتباينة فيها، كما يتعدّى إلى قيمة رمزية أكبر بهيئته الخارجية التي تتخذُ شكل الهلال، بما قد يرمزُ إلى عموم مجتمعنا العربي. يلي ذلك في الأهمية مواضع أخرى متعلقة بالكافيه: الويتنج ليست، المول الضخم – حيث يقع الكافيه في منتصفه – الدرج المتحرك، المقاعد، الطاولات، الشارع.
عند تأمّل هذا الفضاء المكاني نلاحظُ أنه يتكونُ من دوائر – مكانية – نستطيعُ ترتيبها من الخارج إلى الداخل – بغض النظر عن الدرج والويتنج ليست – وهي:
الشارع، المول الضخم، كافيه الهلال، الطرف الداخلي من «الهلال» – حيثُ يجلس الراوي وصديقه منها – نصل من خلال هذا إلى أنّ الراوي وصديقه يجلسان في منتصف هذا الفضاء وفي أصغر نقطة منه، بما قد يرمزُ إلى قدرة هذا الراوي على رصد حقيقة الذات الجمعية، أو يرمزُ إلى شعوره بالتّشيؤ والتهميش والانفصال الذي يصفه في أكثر من موضع في القصة، منها قوله: «تزعجُني أعينُهم وهي تلتهمُ الجميلات وغيرَ الجميلات العابرات من بين المقاعد والطاولات».
- لقد استطاعَ الكاتبُ تصوير الصراع بين الطرفين: الراوي، والمجتمع – ممثَّلاً في رفاق الكافيه – من خلال الفضاء المكاني، حيثُ طرحَ الفنجان فضاءً رمزياً تلوذُ به ذاتُ الروي، وتعلنُ انفصالها عن الفضاء المكاني المنتمي للكيان السائد. كما استطاع الكاتبُ أن يصوّر هذا الصراع – والاختلاف بين الطرفين – من خلال رصد حركة عين كل منهما، باعتبارها إيقاعاً دالّاً على هذا الخلاف، وذلك كما في المواضع الآتية:
«الطابعُ الأغلب هنا هو النظر إلى النساء الوافدات في المول»
«تزعجني أعينهم وهي تلتهمُ أجساد الجميلات وغير الجميلات»
«أحدُهم يجلسُ في الجوار وعيناهُ لا تملَّان النظر إلى مرور النساء وأنا عيناي تنتظران مرور النادل»
«تظهر امرأةٌ تقفُ على الدرج المتحرك وتصعد إلى المول.. تظلّ الأعينُ تراقبُها وتلتهمُها حتى يظهر النادل ويضيّعُ تلك الأعين الطائشة».
وبينما تعلنُ أعينُ الرفاق منحاهم الحياتي والفكري واهتماماتهم، يعلنُ الراوي من خلال حركة عينه موقفه المغاير – وهو موقف انفصالي من الآخر – بكل مستوياته في القصة – يبدو ذلك في قوله:
«أنا أرتشفُ من قهوتي وعيناي ساكنتان»
«كنتُ أجلسُ على الطاولة المحجوزة وعيني في فنجان»
- تدورُ الأحداثُ في قصة «حلم وحقيقة» حول موظّف بمطار دُبيّ قررُ – لأوّل مرة – أن يسافر بالطائرة، وأن – على حد تعبيره – يرى الأرضَ من السماء؛ فيقومُ برحلةٍ إلى «مومباي» – بالهند – ويركبُ الطائرة مع مجموعة من الهنود – الذين يعملون في مدينته دبي – ويقضون إجازتهم في وطنهم. هذه الأحداثُ – كما نرى – لا تتسمُ بالإثارة المادية العنيفة، لكنها تعدُ برحلة عميقةٍ تحملُ الكثيرَ من الكشوف والرؤى؛ فنحنُ – في هذه القصة – إزاءَ ثلاث رحلاتٍ:
- الأولى: رحلة لرؤية الأرض من السماء.
- الثانية: رحلة مواطن إماراتي – وموظف في المطار – يسافر إلى الهند (ويرى الهنود في وطنهم لأول مرة).
- الثالثة: رحلة الهنود العاملين في دبي والمسافرين لقضاء إجازتهم في وطنهم.
هذا التَّضافر والتَّشابك بين الذوات الإنسانية المتباينة يقتضي من الناقد – والمُتلقّي – أن يتوقّع فضاءً مكانيّاً ذا سماتٍ خاصة، مرهونة بمنظور الشخصيةِ القصصية للمكان بأبعاده المختلفة.
يتصدّرُ «المطار» هذا الفضاء المكاني،
«أسير داخل مبنى المطار الشبيه بزجاجة ممتلئة، نصفُها مطمور تحت التراب ويتسرّب منها البشرُ إلى الخارج.. أشعر بذلك، فأنا قطعة منه، وأعتبر نفسي من مواليده الأوفياء..”.
وإنّ تشبيه المطار – في المقطع السابق – بزجاجة مطمورٌ نصفُها في التراب يجعله شبيهاً – بدرجة ما – بالقبور – التي كانت مسرح الأحداث في قصة «حياة».
ويبدو في منظور الشخصية الرئيسية – وهو الراوي الداخلي في الوقت ذاته – ببُعديه: المادي – فهو ملتقى الغرباء – والنفسي؛ حيثُ يراه مسرحاً يطالعُ من خلاله اغتراب الذات الإنسانية، ويرى ذاته عابرة وسط العابرين. يقول الراوي:
«أعراقٌ وأجناسٌ وألوانٌ.. أفواجٌ سياحيةٌ تمرّدت على الملابس المحتشمة.. شاب وفتاة يقفان على السلّم المتحرك يتعانقان ويتبادلان القبلات.. عجوز تلتقط صوراً للذكرى.. عمال وخادماتٌ يفترشون الزوايا وينامون.. الأطفالُ يحبّون اللعبَ رغم الأرضية الصلبة… جميعُهم قادمون ومغادرون وعابرون عن طريقِ دُبيّ.. أو لعلّي أكونُ العابرَ بينهم..».
مرة ثانية يطرحُ الكاتبُ دلالة التَّماهي بين موظف المطار والمغتربين الهنود. يقول في مشهدٍ يصفُ فيه لهفة الهنود للسفر إلى «مومباي»:
«صاح الموظف: مومباي.. مومباي.
فجأة ظهر الهنود يتراكضون سعداء، تجمهروا أمامه يتدافعون، يحملون جوازاتهم وتذاكرهم.. وشيئاً من الحنين إلى بلادهم.. تلك التي لفظَتهُم وجعلتنا بينهم أقليّةً..
أنتَ معهم؟ .. قالها دون أن ينظر إليَّ..
نعم..».
بدت الشخصيات – في الموضع السابق – ذواتاً إنسانية مغتربة؛ فالهنودُ «لفظتهم بلادُهم»، والمواطنون «أقليّةٌ بينهم»، والشخصيةُ الرئيسية – موظف المطار – متماسٌّ مع هؤلاء الهنود في اغترابهم: «أنت معهم / نعم».
وفي موضعٍ آخر يسوقُ الكاتبُ على لسان أحد الهنود المسافرين إلى «مومباي» قوله: «أشعر بالغربة في بلدي
ولا أشعر بالغربة في بلدهم…»
ويطرحُ على لسان الموظف مونولوجاً يبرزُ معنى إشكاليّاً من معاني الاغتراب، يقول:
«تذكرتُ طمأنة الأهل والأصدقاء: لن تكون غريباً… تعرفهم جيداً..».
ويستدعي في ذاكرته مشاهدَ امتزاجه بالهنود عبر تفاصيل الحياة اليومية – في الإمارات – يقولُ:
«امتداد بصري يقول إنني في مشوار بسيط لا يتعدّى سوق نايف أو «الرولة».. أقسمُ أنها ليست بغريبة على الإطلاق.. بل تمت لي بصلات كثيرة.. تأكدتْ لي في ساعات الرحلة القصيرة وفي الأشباه التي رأيتُها طوال عمري واللهجة الدارجة.. الملامح السمراء العريقة.. الأطعمة الحراقة واليد الحانية التي سحبتني إلى الحياة..».
هكذا يطرحُ الكاتبُ إشكالية الاغتراب عبر الطرفين: الوافدين، والمواطنين؛ فالهنودُ – مثال الوافد – يعانون الغربة في بلادهم، ولا يشعرون بها في دبي – لطولِ إقامتهم فيها – والمواطنُ الإماراتي – ونكاد نقول الخليجي عامة – يعاني من مزيجٍ معقّدٍ من المشاعر – نتيجة هذه الوضعية – فهو يشعر أنه أقليّة في بلده – لكثرة الوافدين الغرباء فيها – ويشعرُ أنه جزءٌ من هؤلاء الوافدين، وأنه معهم، وأن بلادهم تشبه – في تفاصيلها – بلاده. وهكذا يطرحُ الكاتبُ إشكالية الاغتراب من زاوية جديدة – في افتراضي – فهو يعرضها من منظور المواطن المُحاط بالغرباء، لا من منظور المسافر المرتحل عن بلده.
- وسطَ هذه المستويات المتداخلة من مشاعر الاغتراب، يبرزُ الفضاءُ المكاني عنصراً بنائيّاً ثريّاً بما يحملُ من دلالات وإيحاءاتٍ رمزية، حيثُ يضطلعُ بكشف التصادم بين الذوات المتباينة، كما يكشف عن وهم الاتّساق بينها، بما يضفي المزيدَ من التّعقيدِ على إشكالية الاغتراب. نطالعُ هذه الكشوف في هذه الانطباعات التي رصدها الراوي حول البعد الاجتماعي لمدينة «مومباي»، خاصة منطقة «كولابة» التي بدتْ فضاءً مكانياً مُعادياً له، وفضاءً كشفيّاً – في الوقت ذاته – حيثُ أبرز العنصر البشري في صورة حقيقية صادمة، يقول الراوي:
«شحاذون ومتشرّدون ونبلاءٌ وباعةٌ الوهم يملؤون الأمكنة.. يجلسُ الراهبُ وحيداً على حافة الرصيف يتابع البشرَ بحدةٍ، أرعبني شكله البائس وجسده المشعر وأصابني بالغثيان».
«يخيمُ الليلُ في كولابة وينام البائسون في الشوارع.. مجموعةٌ من الصبية يتقاسمون الفتات من القمامة وبعضهم ينتظر في يأسٍ».
«أجهلُ كيفَ تكون كولابة آخر الليل.. يتملّكني الخوف.. من الأفضل أن أُكمل السهرة وحيداً في الفندق».
«الباعةُ يغلقون محالهم ويسحبون الأبواب الحديدية ويحكمون إغلاقها.. آدميون لا تؤويهم سوى الأزقّة».
ويواصلُ الفضاءُ المكاني الاضطلاع بدوره الكشفي عن حقيقة المدينة – وثمار الرحلة – فتتوالى مشاهد القبح والعنف والغواية، حتى يصل الفضاءُ المكاني إلى ذروة كشفية، فيقول الراوي:
«تكشَّفت المدينةُ الآن وبانت عورتُها..».
بدت المدينةُ فضاءً يعادي حرية الشخصية وينالُ منها «إنّ العلاقةَ بين الإنسان والمكان تظهرُ وصفها علاقةً جدلية بين المكان والحرية، وتصبحُ الحريةُ في هذا المضمار هي مجموعُ الأفعال التي يستطيعُ الإنسانُ أن يقومَ بها دونَ أن يصطدم بحواجز أو عقبات، أي بقوى ناتجة عن الوسط الخارجي لا يقدرُ على قهرها أو تجاوزِها». (9)
بدت لحظةَ الكشف – في العبارة السابقة – بداية منحنى مغاير في مسار الأحداث – في هذه القصة – حيثُ فتحت للشخصية الرئيسية أفقاً رؤيويّاً جديداً يرى من منظوره حقيقة اغترابه وعلاقته بالآخر، ومن ثم حملت نهاية القصة هذه الجمل المتدفقة المشحونة بالوعي والتأزّم الدرامي، يقول الراوي:
«مطاراتهم تُصدّرُ إلينا البشرَ بالآلاف.. أبحث عن مكان يحتويني بينهم وأجد المكان بصعوبة».
«ينهرني أحدُهم ويُطالبُني بالالتزام.. وحيداً أقف بين الوجوه السمراء المتعطشة للسفر إلى دبي مدينة الأحلام والثراء..».
ونصلُ إلى الذروة الكشفية والرؤيوية في قوله في نهاية القصة:
«أقفُ خارج المطار.. أحدُهم يقفُ على الرصيف المقابل وكأنه يشيرُ إليّ.. لا أُلقي له بالاً.. أنظرُ في ساعتي بملل.. أتقاسمُ المقعدَ مع مجموعة من العمّال.. ينظرون إليّ وكأنني الدخيلُ بينهم».!
هكذا بدت المطاراتُ – في العبارة السابقة – طرفاً في إشكالية الاغتراب، من حيثُ تقوم بتصدير الوافدين إلى الوطن، كما بدا الرصيفُ والمقعدُ أماكن كشفية تبرز مشاعر الانفصال والنفور بين الطرفين.
وهكذا – وفيما يخصّ الفضاء المكاني – بدأت الأحداث داخل المطار، وانتهت خارجه، حيث بدا الداخلُ معادلاً رمزياً للحلم – والوهم والاحتمال – وبدا الخارج معادلاً رمزياً للحقيقة – أو الواقع – وعلى صعيد الحدث بدأ بجلسة حميمية بين الموظف والهنود، وانتهى بجلسة مفعمة بمشاعر التنافر والشعور بالغربة. بدأت القصة بعنوان – فرعي – هو الحلم الذي تجسد في هذا المشهد القصير: «كنت أمشي بين حشد من الهنود»، وانتهت بعنوان فرعي – آخر – هو الواقع، الذي تجسّد في جلسة الموظف بين الهنود وكأنه دخيلٌ بينهم.
- قصة «بائع الذرة» هي قصة الفتى «أنوار» الذي يبيعُ الذرة المشوية، ويبيعُ شعيرات الذرة الذهبية لمقلّدي الزعفران من التّجار وفي مشهدٍ يفيدُ من تقنيات السينما – في سرعة اللقطات وتدفق الأفعال والإثارة الدرامية – تشتري سائحة أجنبية ذرة مشوية من الفتى أنوار، وتضع في يده مائة درهم، ممّا يدفعُ أحد الأفغان لسرقة الدراهم من «أنوار» الذي يهرولُ وراءه بقطعة حديد، فتدهسه سيارة السياح الأجانب، فتنحني عليه السائحةُ حزينة فيدسّ يده في جيبه ويخرج لها شعيرات الذرة الذهبية التي تتطايرُ على جسده، فيتحلقُ حوله الأفغان وينكشونها، وقد بدتْ فوق جسده كزغب طائر صغير.
- يتقاسمُ الفضاءُ المكاني البطولة – في هذه القصة – مع الشخصية الرئيسية فيها – الفتى أنوار – وتبدأُ القصة بما يبرزُ دوره الأساسي في المسار الدرامي في القصة. يقول الكاتبُ – على لسان الراوي الخارجي: «من المدى المُتعرّج المؤدّي إلى سوق الجمعة.. ومن فوق رؤوس الجبال تشرقُ الشمسُ على جبين الفتى وعربته المُحمّلة بكيزان الذرة ودلو الماء وكرسي خشبي».
يبدو الفضاءُ المكاني – في الفقرة السابقة – مُعادياً للذات الإنسانية – بصلادته وحدّته وقسوة تفاصيله التي تبرزُ في: «تعرّج المدى المؤدي إلى السوق، رؤوس الجبال» وهذه السماتُ تبرزُ – بدورها – انعدام التكافؤ بين هذا الفضاء وبين هذه الشخصية التي تتسم بالهشاشة – ماثلة في ضعف التكوين وصغر العمر وانعدام الخبرة – ممَّا يؤذنُ التوقعَ النقدي بخاتمة تراجيدية تجعل الفضاء المكاني بمثابة النّذير.
- طُرح المكانُ – في بعديه الطبيعي والمادي – في هذه القصة – باعتباره حاويةً للحياة، وحاويةً للموتِ – في آنٍ واحد؛ ومن هنا بدا الفضاءُ المكاني مُعادياً للشخصية الرئيسية – الفتى أنوار – وبرزَ باعتباره الخصم في مسيرة الصراع، أو رمزاً للمخاطر – أو القدر الغامض – الذي يواجه الإنسان، ويحول بينه وبين الحياة. تجسد الصراعُ في تلك المواضع التي صورتْ مواجهة الفتى أنوار لسلسلة من الأماكن المُعادية أثناء محاولته كسب الرزق، وذلك كما يبدو في المخطط التالي:
ولابد أن نشير – في هذا السياق – إلى مهارة الكاتب في انتقاء الأفعال المُسندة إلى هذا الفتى الصغير بما يُجسّد مواجهته لعنف المكان واستعصاء سُبل الحياة، من ذلك ما يلي: «يدفعُ عربته، يسحبها، ينكشُ، يشقّ، يجرّ، يدفع دفعاً، يقفزُ، يخترقُ، يعبرُ، يلتقطُ أنفاسه، يحمل، يركضُ..».
تتجلّى الدلالة الرمزية للفضاء المكاني باعتباره مُحتضناً للحياة، ومنبثقاً للموت في هذا الموضع الدال من القصة، حيثُ يشيرُ الكاتبُ إلى موت والد أنوار – في بنجلاديش – يقول:
«الفيضانات أغرقتهُ وأغرقت شقيقته والعريس وأغرقت المال والعُرسَ».
لم تكتف الفيضانات بهذا العدد من ضحاياها، بل بادرت بوأدِ طفولة «أنوار» حيثُ: «أصبح هو الأب والأخ الكبير والمُعيل لأسرته الكبيرة».
- ويبدو الفضاء المكاني منبثقَ إشكالية الحياة والموت – مرة أخرى – متمثِّلاً في جبال الفجيرة؛ فأسرة «أنوار» تقتاتُ من هضاب جبال الفجيرة وسهولها، وفي الوقت ذاته فإن الإدانة تُوجّه إلى هذه الهضاب لأنّها من مفردات الفضاء المكاني الذي اغتال الفتى أنوار، على الصعيد المعنوي أولاً – اغتيال الطفولة – وصولاً إلى نهايته التراجيدية.
******
الخاتمة
نتوصلُ من خلال هذه الدراسة النقدية حول المجموعة القصصية «كائن كالظل» إلى النتائج الآتية المتعلقة برؤيتنا النقدية:
أوّلاً: فيما يخصُّ الشخصياتٍ الرئيسية: تبدو ذواتاً إنسانية متصدّعةً تكابدُ ألواناً مختلفة من الاغتراب، ممّا أجبرها على مواجهةٍ حدّية حادةٍ مع الآخر – الأفراد أو المجتمع برمته – ودفعها إلى القطيعة مع مُحيطها في صور متباينة منها: الصمت، والعزلة، والتوحد، والمرض النفسي، ونعتقدُ أن «تعقد الحياة المعاصرة من أهم الأسباب المؤدية إلى تفاقم الشعور الإنساني بالاغتراب» (10) وهي ذوات ضائعة، باحثة – في غيرِ جدوى – عن وجودها وخلاصها، لكنه بحثٌ غير مجدٍ، حيثُ تظلُّ للآخر ظلّاً، أو كالظلّ. والشخصيات – عبر هذه القصص – في حالة سفرٍ – معنوي وماديٍ – ومن هنا يطالع الناقدُ خليطاً من الغرباء في أرضٍ واحدة – هي الإمارات – منهم: الفتاة اللبنانية، والفتى الأفغاني، ومجموعة من الهنود – فضلاً عن الغرباء في المطار والكافيه. ولعل طرح – كثيرٍ من – شخصيات هذه المجموعة القصصية بلا أسماء مما ينسجم ومناخات الاغتراب والتشيؤِ.
ثانياً: غلبة بنية المونولوج على كثير من قصص هذه المجموعة، بما يتناسب مع عوالم الاغتراب والتصدع النفسي.
ثالثاً: إذا تأمّلنا الفضاء السردي – في هذه القصص المختارة للدراسة النقدية – وفي قصص هذه المجموعة عامة – وهو «مجموعُ الأمكنة السردية، بحيثُ يُعدّ المكان ُ مُكوّناً من مكونات الفضاء الذي يتّسعُ ليشمل العلاقات المكانية أو العلاقات بين الأمكنة والشخصيات والحوادث» (11)، أقول إذا تأمّلنا هذا الفضاء لاحظنا خضوعه لمبدأ التقاطب، الذي يعني «وجود مكانين متقابلين (واسع / ضيق، مفتوح / مغلق، منخفض/ مرتفع)… » (12) ويتجسّدُ هذا التقاطب في قصة «بائع الذرة» – خاصة – وقصة «حلم وحقيقة». كذلك نلاحظ تميّزَ الفضاء السردي بسماتٍ تتسقُ مع الوضعية الدرامية للشخصيات – ومع المسار الدرامي للأحداث كذلك – فالأمكنة في هذه القصص – غالباً – خارجية – بلغة السينما – ممّا أضفى المزيد من إيحاءات العزلة والاكتئاب والوحشة؛ وذلك مثل «الكافيه»، «المطار»، «السيارة»، «المقابر»، «السوق»، «الجبال والهضاب»، «شوارع المدينة» وكل هذه الأمكنة أحاطت الشخصيات بمناخات استلابية يُنتزعُ فيها الشعورُ بالحميمية والاستقرار والدفء والألفة. وقد بدت الشخصيات – في هذه القصص – في حالة سفر وترحال، ممّا جعل الأمكنة السردية تبدو كلها مُصغّراً للمطار، أو ظلّاً له. ومن منطلق هذه الرؤية النقدية أفترضُ أنّ هذه المجموعة القصصية للكاتب محسن سليمان تنتمي إلى كتابةٍ جديدة، يُطرح فيها الاغترابُ كإشكالية للمواطن المقيم في أرضٍ مختلطة الأجناس والأعراق، في مقابل الكتابة – السائدة – التي تصور الاغتراب باعتباره إشكالية المُرتحل عن وطنه.
رابعاً: نسجلُ ملاحظتنا حول تميز المعجم الداخلي – للمجموعة القصصية ككل – من حيث اشتماله على مفردات تتعلقُ بأبرز الموضوعات المطروحة فيها، من ذلك المفردات التي تعلّقت بمضمون العنوان: «كائن كالظل»، ومنها: الشبح، الغامض، الضباب، الغائب، فضلاً عن مفردة الظل ذاتها. كما اشتملت على مفردات دارت حول الفلكِ الدلاليّ للاغتراب، فضلاً عن المفردات الدالة على الأمكنة، والتي أبرزت مدى هيمنة الفضاء السردي وسط العناصر البنائية لهذه المجموعة القصصية، ومدى تناغمه مع الدلالة الأدبية – بمفهومها النقدي الدقيق – وهي «مجموعُ كلِّ عنصرٍ من العناصر التي تدخلُ في تكوينِ العمل الأدبيّ، وشبكةُ العلاقاتِ المُتبادَلة بينَها، وطريقةُ أدائها لوظائِفها، وكيفيةُ انتظامِها في هذا النَّسقِ لتُحقّقَ فاعليةً جماليّةً خاصة». (13)
خامساً: اتصاف الطرح القصصي – في هذه المجموعة عامة – بالتكثيف وسرعة الإيقاع، والإفادة من تقنية الفن السينمائي والفن التشكيلي، والتَّماس مع الشعر في الارتكاز على الإشارة والإيجاز، واللغة الحدسية، ونقاط التماس بين الفنين تؤكدُ تعالقهما الأجناسي؛ «فالقصة القصيرة تشبهُ الشعر في أنهما «ابنا» اللحظات الآنية التي تُومضُ كالبرقِ، فتقتنصُها الصورة الشعرية، و(القصصية المكثّفة) لتُديمَ حضورها وتبسطها أمام العين كي تتأمّلها، فتأسرُها القصيدة، وكذلك القصة القصيرة، كأنها بوارقُ الحدس ولمعة الكشف في العمق الرامي لحضورٍ آنيٍ ما بين المبدع والمتلقّي». (14)
الهوامش والإحالات
- د. نبيلة إبراهيم، خصوصية التَّشكيل الجمالي للمكان في أدب طه حسين، مجلة فصول، المجلد التاسع، العددان الأول والثاني 1990 م. ص 49
- د. محمد السيد إسماعيل، بناء فضاء المكان في القصة العربية القصيرة. كتاب الاتّحاد، الهيئة المصرية العامّة للكتاب 2010م. ص 14
- د. محمد السيد إسماعيل، بناء فضاء المكان في القصة العربية القصيرة. ص 5
- د. محمد السيد إسماعيل، بناء فضاء المكان في القصة العربية القصيرة. ص 18
- د. نبيلة إبراهيم، خصوصية التَّشكيل الجمالي للمكان في أدب طه حسين، مجلة فصول، المجلد التاسع، العددان الأول والثاني 1990 م. ص 49
- حسن بحراوي، بِنية الشكل الروائي، المركز الثقافي العربي، ط1 1990 م. ص 32
- د. محمد السيد إسماعيل، بناء فضاء المكان في القصة العربية القصيرة. ص 17
- د. خالدة سعيد، حركيّة الإبداع، دار العودة، بيروت 1979م. ص 135
- يوري لوثمان، مشكلةُ المكان الفنّي، ترجمة سيزا قاسم. مجلة ألف. العدد السادس 1986 م. ص 82
- د. كاميليا عبد الفتاح، إشكاليات الوجود الإنساني، دار المطبوعات الجامعية، الإسكندرية 2008م. ص 60 – 61
- د. سمر روحي الفيصل، بناء الرواية العربية السورية، منشورات اتّحاد الكتّاب العرب 1995 م. ص 203
- حسن بحراوي، بنية الشكل الروائي. ص 39
- د. صلاح فضل، إنتاج الدلالة الأدبية (قراءات في الشعر والمقص والمسرح)، الهيئة العامة لقصور الثقافة، سلسلة كتابات نقدية، رقم 23، 1993م. ص 5
- د. جابر عصفور، زمن الرواية، مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1990 م. ص 42