تآلبوا عليه بأجمعهم. لم يكونوا كثراً. وما من مقدام يتخلل اقتحامهم. إلا أن صدورهم المتلضية كانت تتقدمهم! ولم يشفها إلا من بعد أن زجوه في السجن.
قال لصديقه :
– لا تدع أحداً من الأصحاب أو المعارف للاتصال بي أو زيارتي – كما تود يا عزيزي
رد الصديق كمن يلبي أمنية مغدور به ..
– ولا بقدر نظرة أو إيماءة يوجهها أحد منهم إن خرجت من السجن يوماً ما.
– ولم هكذا أيها العزيز؟
– ما أراه لا ترونه…
تنهد ثم استطرد :
– إني لأقرأ متلمساً عما يجول في خلدهم، وما يسعون له…
ساد صمت لثوانٍ …
فأزمع الصديق أن يبدده. بعد أن رأى عزيزه وقد شرد بذهنه ناقلاً بصره إلى ناحية الضوء
المنبعث من كوة صغيرة تعلو الجدار .
إلا أن صرخة السجان وهو يتقدم بخطى غير اعتيادية، يأكل وجهه الإمتعاض. قد بددت انسجام وداعة لم يطل لينقطع سريعاً..
– لقد انتهت الزيارة
توادع الإثنان من وراء السياج الحديدي. وقبضتا الصديق تصر على قبضتي عزيزه. وصدر كل منهما ملتصق بأعمدة السياج .
توسط مثواه، منساب ضوء الكوة على جسده ومثواه ..
يوضؤه في استرسال.. متمتماً بعبارته المعهودة :
– لا حول ولا قوة إلا بالله…
«إنهم ليلاحقون أنفاس كائن من كان.. تهم بالتوجه أو الاتصال بي..».
حدث ذاته ماضٍ إلى البعيد بفكرة آخذة إياه ذكريات قديمة، مترسخة في ذهنه، مما حدثه به جده عن أسلافه في غابر الزمان. الذي غيّب في سجن موبوء. ومع عدة أفاعٍ.. تترصده.. تتحين الفرص للنيل منه .
ومما أخبره الجد :
فبات يكابد الأمرين من ويلات عدو قد كاد له حتى أودعه سجن المملكة العتي. في ظل أفاعٍ تحيك له الدسائس صبح مساء وهو يلتحف الصبر. متقياً ليلاً غوائل نهارهم. متجنباً نهاراً مكائد ليلهم وحبائله
في عمق سحيق.. لا يكاد يرى شيئاً، ولا من بصيص نور! قد ساخ تحت الأرض بدرجات بلغت الألف! وهو متوجه إلى حيث بهجته وانشراح صدره، لسانه يلهج، ينتظر السجان يخبره مواقيت الصلاة.
استغرق لائذاً بدعائه متململاً:
أحمدك يا رب حمداً كثيراً كثيراً، لك وحدك لا أحد غيرك أحمد وأثني على كل ما أعيشه وسأعيشه من غوائل الأيام وأرزائها، فأنا لك ممتن على تفريغك لي لعبادتك والتهجد لك.
يتوضأ الضياء المنسكب في حضرته، يقف قبالته رافعاً رأسه.. ينظر ملياً، خاصة لحظة الإشراق من كل صباح. متجددة دقائق وتفاصيل حياته. مسترسلاً.. مستغرقاً في صلاته.. منهياً إياها بدعائه الطويل وترتيله للقرآن .
تتدفق المشاعر الفياضة إلى دواخله، فيرتحل فكره إلى أيام مرابع طفولته، متذكراً رفيقه «عتيق» الذي مكث في قعر البئر طيلة أيام ثلاثة بلياليها. بعد أن هوى فيها وهو يحاول أن يسحب دلو الماء. وكان دلواً كبيراً.. ولثقله تباطأ ولم يتمكن من إيصاله إلى الأعلى. فهوى إلى الأسفل .
أمضى أيامه لا يعرف ماذا يصنع سوى النداء والصراخ بحرقه.. ولا من تسلية له سوى فوهة البئر. ينظر لها ملياً.. معايناً السماء. موجهاً نداءه إلى باريه. مستجدياً الفرج. يستغيث طالباً الخلاص من هذه البئر وقعرها المرعب. والماء بارد جداً، وثمة ما يلسعه عند قدميه. والليل عليه خوف متفاقم، يكاد أن ينفطر له قلبه. يشخص معايناً النجوم. فلا يرى سواها في ظلمة ووحشة مثواه.
«صبرا على قضائك يارب»
من أحشائه انبثقت آلامه. بها عبق المكان. تنفس الصعداء فبعد قليل سينبعث آذان الظهر عبر الكوة. فتحادث مع ذاته في تسريه :
– فلتصدح يالآذان متألقاً باسم الأكبر جل جلاله… عبر الأيام والأعوام، ولترتسم معاناتي بنهاية ما… غير أن في الأفق تلتمع صورة جدي «الأكمل»… محمولاً على سرير..! في نهاية رحلته مع السجن. حتى وإن كان آخر مطاف رفيقي «عتيق» في أن يهتدي إليه أحد المارة، وكان عابر سبيل اشتد عليه الظمأ مع راحلته .
عبدالرضا السجواني