الحياة سفينة تعوم فوق بحر غامض عجيب، لا أمان له، يصوّر لك الأحلام حلوةً كخيوط أشعة شمس الغروب الذهبيّة اللامعة المرسلة عبر أطياف الشفق الأحمر الخلاّب، يدغدغ قلوب العاشقين، ويزيد من هيامهم، ويصوّر لهم الأحلام في إطار من خيال متجدّد، كلّما غاب عنهم عاد حاوياً أحلامهم العذبة.. وتارةً تجد هذه السفينة في يمّ هادر ثائر، يأتي على كلّ شيء، يجرفه بتياره الغاضب، لا يرحم ركّابها.
وتكمل الحياة خطاها على هذا المنوال بصورها الحلوة الجميلة والمرّة القاسية، تتهادى في مسيرتها، تشقّ الطريق بهيكلها الثقيل المحمّل بهموم أنفاس حائرة قُدّر لها أن توجد في مجتمع تكالبت عليه صنوف المادّة، وأغوته مظاهرها الخدّاعة، فجرفت أفراده إلى هاوية الشقاء والتعاسة، ولم تعد هناك فرحة ولا بسمة.
وكانت علياء من بين تلك الأنفاس الحائرة، وُجدت، وخلقت، لتعيش بين رحابه طفلةً، تداعب أفكارها أحلام طفولة بريئة، لا تدري من أمر الحياة شيئاً، سوى اللّعب مع رفيقاتها اللاتي يقاسمنها فرحة الطفولة وبهجتها.
ومرّت السنون، لتصبح علياء بعدها شابةً حلوةً جميلةً في عمر الزهور، وتفتّحت لها أبواب الحياة، ووعت ما يجري حولها، أيّ حياة هذه التي ستحياها؟ فمجتمعها قاسٍ وعنيد لا يقيم وزناً للفتاة! إذاً فهي لا تملك من أمر حياتها سوى الأحلام والأوهام.. ولكن هل يقدر لهذه النفس البريئة المتفتّحة للحياة أن تخمد، (ويُقضى عليها بما تعارف عليه المجتمع)، هل يحطّمها كما حطّم الكثيرات أمثالها؟ لم تكن تدري.
وتتابعت الأيّام في مسيرتها، وإذا بالقلب يفتح مصراعيه للأمل المنتظر، للأمنية التي طالما راودته، ولعبت بأوتاره، ولفّته بردائها الدافئ العطوف، وإذا به فجأةً يتعلّق بالحبّ الطاهر البريء لجارٍ يقربها سنّاً، وعاشت على الأمل تحرق شمعة شبابها لتنير لأملها الطريق، ليأخذ طريقه إلى التحقّق. وبادلها سعيد – وهذا اسمه – حبّاً بحبّ، وأوسع في قلبه مكاناً لهذا الحبّ، وأصبح الورق رسول غرامهما، يبثّان أشواقهما فوقه بمداد من عصارة قلبيهما، وكثرت عبارات الشوق والحنين المقرونة بالخوف من مصير مجهول ومن كلّ شيء. وتراكم العديد من الأسئلة الحائرة: إلى متى نبقى هكذا حيارى تائهين؟ وأيّ مصير سوف ينتظرنا؟ وأيّة حياة ستجمعنا؟ وكيف ستكون النهاية؟ ومتى يحين اللقاء؟ ليتنا نعلم!
وذات يوم سمعت طرقاتٍ خفيفةً على الباب، ولم يكن بالبيت أحد غيرها، فأسرعت تفتح الباب للطارق، وكانت المفاجأة مذهلةً: إنّه هو سعيد بدمه ولحمه.. يا إلهي! ماذا أتى به الآن؟ تورّد وجهها الأسمر بحمرة خجل، وخفق قلبها، وتسارعت دقّاته، فلم تستطع أن تنطق بحرف واحد، فقد أذهلتها المفاجأة. وتدارك سعيد الموقف، فقد أحسّ بنفس الشعور، وهو الذي كان يمنّي نفسه برؤيتها عن كثب.. أمّا الآن فعلياء أمامه وجهاً لوجه، ها هي أمنية تتحقّق، (إنّها حقيقة لا خيال..) ويسألها:
– أين أخوك؟
فتجيبه بشيء من الخجل:
– إنّه غير موجود.
ويودّعها بنظرة، أدركت مغزاها، وأغلقت الباب، وأسرعت إلى غرفتها، فألقت بجسدها على السرير، وحدّقت في السقف طويلاً، وطال سكونها، وعمق تفكيرها، واستسلمت للأحلام، تنسج حولها صوراً رائعةً للحبّ.
سنوات وسنوات وهي تتمنّى رؤية سعيد، ولم تكن تدري أنّها ستواجهه وجهاً لوجه، ويكلّمها، وتكلّمه، هل هي في حلم أم في حقيقة؟ وتجيب: بل حقيقة، ها هو وجهه كما عرفته – منذ زمن – لم يتغيّر، وشعرت في هذه اللحظة بالذات بأنّ الهمّ قد انزاح عن قلبها، وبأنّ تيّار الحياة يتدفّق من قلبها مهلّلاً نشيطاً.
ومرّت الأيّام، وقلب علياء يخفق بحبّ «سعيد»، كانا لا يستطيعان اللقاء حتّى ولو كان في الخفاء، فليس هناك من يشجّع مثل هذا اللقاء، فهما على يقين بأنّهما لو تقابلا دون أن يعلم بهما أحد، لكانت هناك عيون متربّصة تراقبهما، ومن أجل ذلك كثرت زياراته لأخيها عليّ، فلعلّ عينه تقع على الحبيبة، فيفوز منها بنظرة، تريح قلبه المعذّب وروحه الهائمة.
وأقدم على الخطوة التي سـتقرّر مصيريهما، وطلب يدها من أبيها، ولكنّ توقّعه كان في محلّه؛ الرفض بالطبع، فهذا الوالد من هذا المجتمع المتكالب على المادّة، وهو يريد لابنته زوجاً ثريّاً لا شاباً فقيراً كسعيد. وكَتَم سرّه في نفسه، فقد باءت جميع المحاولات لانتزاع كلمة الرضا من فم أبيها بالفشل، بل وصل به الحال إلى أكثر من ذلك، فقد طرده من بيتهم عندما أتى لزيارة عليّ.
وذات ليلة كانت وحدها في غرفتها الصغيرة، وشمعتها مضاءة حولها، تقرأ متّكئةً على طاولتها إلى جانب النافذة المفتوحة، والرياح العابرة تهبّ، وتلعب، وتلتقي برؤوس تنكسر، وعقول تحلم، ونفوس تتألّم، وأهواء تضطرم، وضروب من الشقاء تعوي، تلتقي بها، وتحرقها بتيّارها اللعوب، لا ترحم الشقيّ ولا التعيس، كلّهم سواء عندها.
وتقاطرت عليها ضروب الهواجس، وامتزجت بتفكيرها المبهم، تقرأ رسالته هو، وبينما هي في غمرة من الفرحة.. الفرحة بقراءة أسطره، إذا بها ترى الظلام الحالك يحيط بها فجأةً، ليحلّ مكان الضياء الذي كان يلفّها في ما سبق، حيث كانت تشعر بابتهاج رائع، ابتهاج برسالته، ولكن لِمَ كلّ هذا؟ وتابعت القراءة، لقد أدركت من أوّل أسطرها أنّها ليست كالرسائل التي تلقّتها في ما مضى، إنّها تختلف عنها كلّ الاختلاف، فلعلّ في الأمر سرّاً، وكان ما تخشاه، فإذا بها تجد السرّ.. السرّ الغامض وراء هذه الرسالة.. نعم، لقد وقعت عيناها على كلمة الرحيل.
آه ما أقسى هذا! أصحيح هو عازم على الرحيل! أحقيقة أم هراء! ولكنّ الكلمات تؤكّد أنّه حقيقة.
وغشى الظلامُ عيني علياء، وتساءلت وهي تنهار: ألا يوجد أمل؟ وتمتمت في سرّها: الأمل، لقد قلت يا سعيد، إنّك ستضحّي بكلّ شيء لأجلنا. بحقّ حبّنا لا تتركني وحيدةً! لا، لن ترحل. سأقنعك، وسنضع الجميع أمام الأمر الواقع.. وانتابتها حيرة قاتلة… أيّ خبر هذا الذي تقرؤه! وأيّ موقف هذا الذي هي فيه! إنّه – لا شكّ – أخطر ممّا يتصوّر، يتركها وحيدةً، ويرحل؟ يرحل، ليمزّق قلبها المعذّب، ويطعنها في الصميم، يرحل، ليزيد من شقائها وتعاستها، ويتركها لقمةً سائغةً لأفواه جائعة! لا.. مستحيل أن يرحل، مستحيل أن يذهب، وليكن ما يكون مهما كلّف الأمر. لقد كانت مفاجأةً قاسيةً، تفرض نفسها على مسرح قلبها، بينما في داخل أعماقها راحت تصرخ مستنجدةً، لتستيقظ من حلم فظيع، وتتحرّر من الكابوس الرهيب الذي خيّم على صدرها، ثمّ عادت إلى سابق وعيها، وراحت تفكّر في شيء تفعله.
كان كلّ شيء في البيت ساكناً، فقد انسحب كلّ فرد إلى فراشه، ولكنّ علياء ظلّت ساهرةً، ترسم في خيالها خططاً للهرب، إذ يجب ألاّ يطلع الصباح عليها قبل أن تنفّذ ما يجول بخاطرها، ولكن كيف السبيل إلى ذلك؟ إنّها خائفة، خائفة من أن يستيقظ أحد في البيت، فيكتشف تغيّبها، ولكنّها صمّمت على الخروج، فالليل طويل، ولن يشعر بها أحد، وفتحت نافذة غرفتها بحرص بالغ بعد ما تأكّدت من إغلاق باب غرفتها جيّداً، ومرّت لحظات تردّد، تناولت عباءتها المعلّقة، ولفّتها حول جسمها، ثمّ تسلّلت من النافذة، وهبطت إلى الأرض.
كان كلّ ما حولها ساكناً، وقرّرت أن تغامر بالتوجّه نحوه.. بينما هنا وهناك كانت أصوات ساهرة تمزّق صمت الليل، ومن خلال السحب المبعثرة كان نور خافت مرسل من القمر ينير بعض جنبات الطريق، وعندما تأكّدت تماماً من خلوّ الطريق مشت عبر الزقاق الضيّق المظلم والمؤدّي إلى بيت سعيد، تطلب لقاءه، كي تثنيه عن الرحيل، ولم تعلم ما يخبّئه القدر لها. لقد رحل قبل وصولها بلحظات، تراءى لها غبار السيّارة التي أقلّته، فأطلقت لساقيها العِنان، علّها تلحق به، ولكنّ القدر أبى إلاّ أن يحول بينها وبين ما تريد، فإذا بسيّارة مسرعة مجنونة في سيرها، تأتي بلا إنذار سابق، لتسدل الستار المخيف على قصّة حبّ لم تكتمل، وإذا بالجسم البضّ ملقى تحت عجلات ضخمة جائعة، وإذا بصرخة مروّعة تطلق في جوّ السّكون الشامل والظلام المخيّم، فتوقّفت العربة، وإذا بجمع غفير من الناس يحتشد، ليشهد قصّة الحبّ كاملةً، وإذا الأب أمام الزهرة المتفتّحة فاغراً فاه مروّع الوجه غائر الوجنتين زائغ البصرُ محطّم القلب.. لقد أدرك السرّ المطويّ وراء كآبة ابنته التي كانت تلفّها في ما مضى، وإذا به الآن أمام جسم ملقى، يصارع الموت، وينشد اللحاق بمَن ذهب.
وبعجز بالغ رفعت رأسها، لتلقي نظرة وداع أخيرة على الطريق الذي سلكه الحبيب الراحل، تشيّعه بنظراتها الواهنة الحائرة، ودموع غزيرة تنسكب على وجنتيها، تبكي مَن رحل دون أن يلقي عليها نظرة وداع، وشَحَب وجهها، وابتسمت في آنٍ واحد، لم تعد ثمّة حياة، كان ثمّة شيء آخر لم يكتب له النجاح، وتلاشت ابتسامتها تدريجيّاً، وتعاقبت أنفاسها، وتعاظمت نظراتها.. كانت تستشعر بأنّ لها جناحين، وما عليها إلاّ الطيران واللحاق بمن رحل.
1970م