صالحة غابش

أحلام طفلة – صالحة غابش

استسلمت لمداعبات الفرح الذي اجتاح نفسها.. وهي واقفة أمام المرآة تهندم حالها.. وتطمئن على أناقتها.. على ثوبها الجديد المكتنز بالألوان الزاهية، والذي استطاعت – بصعوبة – أن تقنع أمها بارتدائه.. فهي لا تريد أن تكون أقل من الأخريات جمالاً وأناقة.

انطلقت تجري عبر الوطن المنسي.. تعانق قدماها ترابه، تنساب خطواتها بين أشجار النخيل المتطلعة إلى العلياء.. تطوف أمام نخلة وتخرج من وراء أخرى، تقفز تارة على نخلة عجوز هوت بفعل هبوب السنين.. وقلبها الصغير يغني أعذب الألحان.. وعيناها تعانقان ألواناً جميلة تتكون في الأفق الذي ترنو إليه بعينيها الحالمتين حلم طفولة مرتسمة كأحلى ما يكون الأمل.. السعادة.

وتستمر في قفزاتها الطفولية.. والفرح كأنه طيور غناء ترفرف حولها.. ولكن.. ينقبض قلبها قليلاً تخاف ألا تلتقي بهن.. بصديقاتها اللواتي أبرمت معهن صداقة وأخوة دون علمهن.. تخاف أن تمر هذه الجمعة أيضاً دون صويحبات جديدات كيوم الجمعة المنصرم، تخاف أن تعود بثوبها الجميل هذا دون أن تريه لهن لتقول من خلاله بأنها تملك أيضاً ثوباً جميلاً مثلهن.. ولكن ما لبثت أن تلاشت غيمة الحزن التي خيمت لثوانٍ حين لاحت لها من البعد حافلتان واقفتان.. وصديقاتها ينزلن بصحبة عدد من معلماتهن حاملات حاجياتهن وألعابهن التي أحضرنها ليتمتعن بها في هذا المكان الأخضر المطل على البحر.. وليشعرن بصفاء، بعيداً عن فوضى المدن.

وعاد طوفان السعادة يجتاح فؤادها.. وودت لو أنها تلتحق بجمعهن، همست «آه.. ليتني أكون من بنات المدارس».

رأت البنات ينتشرن في المكان انتشاراً سريعاً.. وأرخت مسامعها لصيحاتهن ولهوهن.. وأغاريدهن.. اقتربت قليلاً منهن.. ودّت لو أنهن يعرنها اهتماماً.. التفتت إحداهن إليها.. لكنها كانت لا تزال بعيدة عن الحدود التي نبهتهن المعلمات إلى عدم تخطّيها.. جلست الطفلة على صخرة مطلة على جانب من البحر تنظر إلى أشياء جميلة تحدث أمامها.. ومكثت برهة استسلمت فيها لخيالها الطفولي الخصب الذي طار بها في أجواء حالمة.

حياة.. صبغها خيالها بأبهى الألوان وأزهاها.. تخطو خطواتها حاملة كتبها على ظهرها.. تدخل المبنى الكبير المسمى المدرسة.. تنخرط وسط الجمع الهائل من بنات جيلها.. تشاركهن في النهل من مياه العلم الرقراقة.. يداها تتشابكان مع أيدي زميلاتها فتعتلي معهن ربوة الفرح الطفولي، مبتعدة عن الحياة التي لا تترك لها فسحة تعيش فيها مع طفولتها، وتفرض عليها أعمالاً.

صدى كلمات والدها تقطع مسافات زمنية طويلة لتداعب مسامعها: المدرسة بعيدة، ولا آمن أن تقطع ابنتي كل هذه المسافة على قدميها لتصل إليها.

وصدى كلمات أمها: خير لها أن تبقى بالبيت.. تساعدني.. وتتدرب على أعمال المنزل منذ الآن.

وسكت الصدى.. وأسدلت ستار الواقع على خيالها.. البنات ما زلن بعيدات.. ولكن أحلامها الكثيرة تقربهن إليها.. الخوف والتردد يقفان حاجزاً بينها وبين تقدمها.. لا تدري ممّ تخاف؟ .. ولكن كلما فكرت في التقرب شعرت بقلبها الصغير يكاد يقفز من بين ضلوعها.. مما جعلها تحس بأن لا مكان لها بينهن.. نهضت ونفضت عن ثوبها ما علق به من تراب ثم نظرت إلى أثوابهن، وما زالت أثوابهن أجمل من ثوبها الجميل.. الجديد، وعادت أدراجها وهي تتمنى.. وتتمنى.. وتتمنى مدرسة في قريتها لتكون مثلهن، تقرأ وتكتب حروفاً مفهومة بدلاً من الخربشات التي تملأ كل ورقة تحصل عليها.. تتمنى فستاناً.. جميلاً.. رقيقاً.. كفساتينهن التي تشبه فساتين بنات «بابا ياسين» (ليتني أعرف أن ألعب تلك الألعاب الممتعة التي يلعبنها) وحاولت أن تلعب إحدى لعباتهن.. ضحكت حين أخطأت.. وهكذا أخذت لحظات الحزن ولحظات الفرح تتصارع في نفسها البريئة.. فتغلب تارة وتنهزم تارة.. ولكن طفلة الوطن المنسي ما زالت تحلم.. وتحلم!!

1984م