عندما سمع صوت الباب وهو يرتج.. هبّ واقفاً، وكأنه يتأهب لشيء سيقوم به حتماً، أساريره.. فقسمات وجهه تنبئ عن ذلك، إذ الغيظ استولى على كل كيانه، أزاح قطعتي الستارة ناظراً من خلال منتصفها وعبر الزجاج إلى باب الحوش، إنهم هم.. لقد جاؤوا.. اندفع إليهم كالمجنون.. كعادته دوماً معهم، وفي كل أمر يريد تنفيذه.. استعجال وطيش، ما إن وضعوا أرجلهم على عتبه باب «الفيلّا» حتى انفجر فيهم سيل من الصراخ المألوف، يحتوي على عبارات متقطعة مفهومة المغزى منذ زمن:
– «أما تستحون، إلى الآن وأنتم في الخارج، الساعة التاسعة، الناس كلها في بيوتها، على لحم بطوننا.. ننتظر وننتظر، وأنتم تتجولون.. الدنيا ظلام، ألا تتركون عاداتكم الوسخة هذه».
خرج كل هذا الكلام من فمه دفعة واحدة، ولم يستغرق بضع ثوانٍ لشدة غيظه، ولم يستطع أن يكمل كلامه ويخفف من هذا الغيظ، إلا ولسان زوجته كالمدفع قطع كلامه بغيظه:
– لِمَ تنبح هكذا، ما بك الآن أيضاً، عند الصباح صراخ.. وفي مجيئك ظهراً نفس الشيء، والآن…، هل تحولت إلى كلب مسعور في آخر أيامك؟
– بك جوع؟ يوجد بالثلاجة لحوم.. وكل شيء.
وأردفت إحدى بناته الثلاث بتأنيب:
– ألا تستطيع الذهاب إلى السوق.. أتريد أن تسجننا في هذا البيت؟
سكت، لم يرد مناقشتهن أكثر.. سيأكلنه بكلامهن. فقط هضم غيظه وخرج من البيت تلقائياً، وهنّ في استخفاف له، وكعادته كلما اصطدم مع زوجته ولم يشف غليله، تأخذه قدماه أحياناً إلى رمال المنطقة الناعمة، بعيداً عن البيوت، ويجلس في مكان ما يحس بالارتياح فيه، إلى أن يمل فيرجع إلى البيت، أو يذهب إلى أحد معارفه مكفهر الملامح.
رمى بجسمه على الرمال الباردة.. وفي هذا الليل البهيم، أخذ يسترجع كلامهن الذي أحسه كالرصاص وقع في قلبه، وخاصة كلام زوجته. «من هو المخطئ الآن، ألا يحق لي أن أهنأ بلقمة في بيتي، أليست لي كلمة مسموعة.. مثل (بو حمد، وبو علي، حجي سالم)؟ كل منهم هو الذي يمشّي بيته.. وكلمته مطاعة، محترمة. لقد أصبحت كلباً في نظرها.. كم من مرة تفوهت عليّ بكلمات كهذه، كيف أسكت على تصرفاتها؟ في الصباح لا تنهض مبكرة إلا بعد خروجنا، وربما تظل نائمة إلى وقت الضحى، أما في الساعة الواحدة فهي عند فلانة أو علانة. وأنا الكلب اليوم.. بعد عوائها ذاك».
وسرح قليلاً، وهو يداعب الرمال الناعمة براحة يده، ويخط عليها ما يخط، أو ينقش شيئاً ويمسحه.. وهو غارق في تفكيره، إلى أن ملَّ فنهض، نافضاً التراب عن ثوبه ومشى، هكذا هو، عندما تتأزم عليه حالته وتضيق به الدنيا، وتستحيل إلى سواد قاتم، يأخذ دربه إلى بيت «بو حمد» ويستعير منه (تيسه)، فينتزعه بقوة من بين عنزاته الكثيرات..، ويسحبه إلى بيته طوال هذه المسافة، وفي هذه الرمال الناعمة التي تغوص فيها الأرجل.. من أجل أن يدخله على عنزاته. عشرات المرات كرر هذه العملية، و«بو حمد» مستغرب منه كل الاستغراب: (لِمَ التيس كل يوم يا «فلاح» عنزاتك كلهن «عشار».. بطونهن كبيرة). وهو يصر في كل مرة وبشدة على أن يصطحب التيس معه. ولا يأبه أبداً بتلك الرائحة النتنة التي تزكم أنفه أسبوعاً على الأقل، والمنتشرة في كل بوصة من جسد هذا التيس القذر، الذي لم يلمس جسمه الماء منذ سنوات على وجه التقريب أو ما سقط سهواً من رذاذ المطر، أو إن كان قد خاض في مياه المجاري. أما صوته المستقبح ذاك فهو يفضحه على طول الطريق التي يمر بها، والمتناثرة البيوت حولها.. يصل به إلى البيت ويدخله بشدة مستعيناً برفسات رجله. والتيس يشتاط غضباً فيندفع نحوه كالجن الأزرق يريد نطحه، ولكنه يحاذر ويختبئ وراء الباب أو الجدار.. وهو في جسده النحيل البارزة عظامه، وفي طوله الزائد.. ودقة قدميه. وحين يأتي به إلى «الزريبة» ويفتح الباب على مصراعيه، ويدخله بالإكراه، تكون العنزات قد وقفت تبجيلاً واحتراماً لمقدم «رب الزريبة»، الموقر والمطاع، يدخل مطمئناً.. مكرماً وفي شموخ. ويمارس حياته باعتيادية مألوفة، ويقوم بدوره طبيعياً، دونما تنغيص أو مضايقة، أو حتى بنظرة ازدراء ترميه بها إحدى العنزات المطيعات. و«فلاح» يتأمله في رضا.. إلى أن يستكين ويهدأ من ثورته، فيذهب إلى الداخل ليرتاح ويبحث له عن لقمة إذا كان جائعاً، أو يرتمي على فراشه بعد تعبه. هذا ما يصنعه في كل مرة، ولكن الليلة جاء بالتيس كعادته، وكان كل شيء على ما يرام، حتى تقديم فروض الولاء والطاعة، من قبل المعزات للتيس لم يتغير فيها شيء. وتوجه إلى الداخل، غير أنه لم يقر له قرار، لشدة غيظه وحنقه على زوجته وبناته. يشعر بضيق قاتل يكاد يخنقه، وشيء ما يحسه يضغط بقوة على صدره.. ويوشك أن يقطع أنفاسه، لا بد أن يزيحه.. ينهيه، ليسترد راحته.. رغبة عارمة تجتاح نفسه الليلة في فعل أي شيء، لم يكن له عهد به من قبل.
لم يجلس أو يرتاح قليلاً، ولم يتناول شيئاً يسد به فجوة الجوع التي لازمته قبل ساعات. سائر آتٍ في البيت، من مكان لآخر، يرمي جثته لثوانٍ على الكنبة، ثم ينتصب واقفاً مرة واحدة، ويكرر دورانه من زاوية لزاوية، ومن بقعة لأخرى، وهو يشتعل في داخله. وقف ينظر من خلال زجاج النافذة إلى الأشجار المنتصبة في الحوش، تتخللها أزهار الياسمين والفل..، ألفها موحشة تزيد من ضيقه. أخذه فكره إلى البعيد.. يوم أن كان صبياً لم يبلغ الحادية عشرة بعد، عندما أصر أن يؤدب «معتوق»، ابن المطوع «سالم»، عندما رماه بعلبة فارغة أصابته في رجله وهرب. ظل ينتظر طوال الليل ليحل النهار ويقتص من ضاربه، إلى أن وجده في اليوم التالي، فأمسكه في غفلة واعترك معه وشفى غليله، ورفع رأسه بين أقرانه.. ولكن منذ متى ورأسه منتكس بعدما كبر، أخبره «بو حمد» مراراً عما تصنعه زوجته وهيامها على وجهها في كل مكان «كدلالة» من بيت لبيت، والخياط والسوق كل يوم. كان هذا قبل سنين.. منذ أول أيام زواجه. وكم من مرة انزوى معه هذا أو ذاك من أصدقائه أو أهله في ركن، وهو يحدثه عن زوجته.. «لا ترخ لها اللجام..، لقد تمادت وأصبحت تحادث الرجال الغرباء في كل مكان.. ناس قد رأوها…» ونصائح «سالم المحلاج» المتكررة له، لم يأبه لأي منهم، عدّ كلامهم هذياناً، إلى أن أصبحت تفعل كل ما تريده أهواؤها.. وكيفما بدا لها، وهو يترأف عليها «لتسعد في حياتها».
إلى أن أصبح لها أطفال، وهي كما يشاء مزاجها دوماً، وعلى عهدها السابق، تترك أطفالها عند أمها، وتذهب إلى من تشاء حتى ساعة متأخرة من الظهر أو الليل، ولم تكترث لتأنيب أمها على ذلك، وتمادت في كل أفعالها وتصرفاتها مع زوجها، يحكمها مزاجها. إن أرادت الاعتناء في شؤون البيت، من طبخ لكنس لغسل الأواني والملابس وغيرها فعلت، وإذا أحست بكسل ما فهي تستلقي على فراشها وأطفالها يتصايحون، في قذاراتهم وارتمائهم هنا وهناك، وكم هي المرات التي تكون فيها كسلى. وفي اليوم الذي أراد فيه أن يقوّمها، ويقطع هذه العادات من حياتها، كان كل شيء قد انتهى، فلم تأبه له ولم تكترث لكلامه أبداً، ولم يستطع هو أن يسيطر عليها، وأخذت تمارس حياتها طبيعياً من دون اهتمام بأي شيء، إلى أن كبرت البنات الثلاث، والطامة الكبرى أنهن ظهرن تماماً بمثل أمهن، في كل سلوكها وتصرفاتها، علمتهن كل ما تتصف به، والأكثر من ذلك أن كل واحدة منهن أصبح لها صديق يمر عليها بسيارته…، فكيف يكبح جماحهن بعدئذ بعد أن أصبحن أربعاً في مهب الريح.
«لقد فات الأوان وانتهى كل شيء يا فلاح..». قالها أحد المقربين له، بعد أن وجده بلا حول ولا قوة، غير قادر على فعل أي شيء إطلاقاً، كلمة واحدة منه لأي منهن، ولو كانت نصيحة، يقابلها لسان سليط كلسان أمهن تماماً، ما إن ينطلق في وجهه حتى يخرسه.. سوى من أنفاسه. رعب يغزوه حينئذ، فينعقد لسانه وتتجمد قدماه. ويضطرب أكثر.. وتزداد نبضات قلبه، فيأخذ بنفسه مبتعداً إلى الحوش.. أو إلى حجرة ما، أو إلى الحمام، يوصد الباب عليه، يتألم ويبكي في داخله. كثير من الناس أخذوا يتكلمون ويطلقون العبارات عليه «إنه ليس برجل، لقد ركبت عليه، إنه لا شيء.. أصبحت هي الآمرة الناهية.. حتى بناته لا يقدر عليهن..». كلام الناس حمّله همّاً أعظم في الآونة الأخيرة، لم يعد يطيق حياته هذه وما يجري فيها.
رأى البيت أكثر كآبة، حتى برامجه التلفزيونية ألفاها كريهة. كل شيء استحال في عينيه إلى ذبول.. وصدره يغلي، تحول إلى عود ثقاب سريع الاشتعال، ولو بلمسة خشنة، تذكر جوعه.. رفعن رؤوسهن إليه ثم أنزلنها..، خرج من الصالة، حتى في الطعام لا يصنعن له أي حساب.. عند أي شجار.
كنّ على وشك الانتهاء من تناول طعام العشاء، وإذا بالبنت الصغرى تحمل صينية صغيرة، وتضعها في الصالة وتنادي على أبيها.. يلتفت، يأتي إلى حيث الصينية.. يرى الطعام موضوعاً بغير طريقته المألوفة. يتمعن فيه، فيجد عظاماً بها زوائد من اللحم البسيط، ورغيفين مقطعين. كانت تلك شرارة سرعان ما أشعلته، لينطلق إليهن كالمسعور.. أو كمن جنّ جنونه، ويهوي عليهن بيديه الاثنتين الطويلتين، وأينما أتت من على أجسادهن، وهو يزعق من أم رأسه «كلب أنا ولست رجلاً..»، ويدفعهن بكل قوته من الباب.. هذه تلو الأخرى، وصفعاته تتتالى عليهن، وهنّ في صراخ ورعب.. وفي ظلام الحوش.. مكرراً «أنا لست رجلاً.. أنا كلب»، ويسحبهن من شعورهن ويقتادهن إلى حيث «الزريبة»، ويدفعهن إلى الداخل برفسات رجله الطويلة بكل قوة. والتيس في هتافه الحانق.. على هذا الاقتحام المفاجئ، ثم يوصد باب «الزريبة»، في حين يأخذ التيس دوره في نطحهن برأسه الكبير الذي يتخلله قرناه الطويلان، وصراخهن يتعالى وخوفهن قد تزايد أكثر…، والنطحات مستمرة بشكل سريع غاضب، تارة تأتي في الفخذ وتارة أخرى في البطن، وتسقط هذه وتقع الأخرى عليها، وهو لم يزل يهتف «أنا كلب.. لست برجل…».
ويرتمي على الرمل وأنفاسه متقطعة، وصدره يعلو ويهبط.. «كلب.. لست برجل».
7/11/1984م