عبدالله صقر أحمد

الإمْية – عبدالله صقر أحمد

في صبيحة يوم شتوي، انتعل جمعان نعليه الجلديتين الرثتين، وأسرع في ثقل يذرع الطريق الرملية، بعد أن أقفل باب بيته في وجه الصباح.

كانت الشمس قرصاً في الأفق، ولم تنشر الدفء بعد، ولهذا فرك يديه اللزجتين إثر الوجبة الدسمة المتواضعة التي تكثر العجوز في وضع الزيت لها، وحركها بشكل يساعده على تدفئة جسده للحظات، مما زاد من سخرية الصغار الذين حملوا حقائبهم المدرسية وتخطوه في نشاط.

كل يوم يخرج في الصباح يذرع الطريق الرملية هكذا.. يبتعد ثم يأتي بحوائجه.. وكان منذ زمن.. قبل الآن لا يعتني بهندامه.. الكندورة والغترة والإزار الذي يلف وسطه من الداخل.. والطريق الرملية التي غزت معظمها العمارات والطرق المعبدة.. وربما الزحام والشقاء أيضاً، والآن بالنسبة له تغير كل شيء.. وظل يرى كل طارئ جديد فيقلده قدر الإمكان.. ذلك أنه لم يعد يلبس (الصديري) ولم يعد يهتم (باللاس) الذي يضعه على أحد كتفيه كلما جرجر ساقيه في مواجهة الريح.. كان هذا أيام زمان مضت إلى غير رجعة. الآن فقط يتغير في أن يجعل وضع عقاله بشكل يكاد يؤدي إلى سقوطه من فوق رأسه.. ويجعل لمقدمة غترته قبل حاجبيه ثمة تماوجات ثلاثية تكون ذات لمسة فنية مختارة.. وكان غالباً ما يثير دهشة وحيرة العجوز كلما انتظر أمام المرآة ليضع اللمسات الأخيرة لهندامه، ثم يودعها بتحية خفيفة ويخرج بحركة حيوية نشطة مع نحنحة رجل مسن!

وكانت السجائر قد اختطت طريقاً في رئتيه من الدخان، لتقلباته بين أنواعها، تركها أخيراً بعد أن انطلق يسعل في خشونة مشككة، ولولا العجوز لما أمكنه ترك تلك السجائر اللعينة والتي يحلو له أن يضعها في فمه مقلداً بها الشباب الذين يضعونها في زاوية الشفتين في زهو..

كانت أيام العمر تمضي في كسل أكثر من أن يتمناه، وأحياناً تؤرقه الحال التعسة كلما همّ لينام بالقرب من العجوز التي غالباً ما يأخذها النعاس في غفلة من أمرها، فتتركه يعاني الأرق وحيداً. وإذا جاء الصباح تبدد كل ما كان يقض مضجعه..

كانت العجوز كلما حانت نهاية أشهر الشؤون الثلاثة تذكّره بذلك، فيخرج مسرعاً إلى المركز ليتسلم مستحقات الإعانة، وبين الزحام يرى الوجوه.. معظمها مر أمامه ذات يوم.. وقليلها رآه الآن.. وربما تذكر بعضها الآن فيترك لأصحابها تحيته الخفيفة المتواضعة.. وينطلق مبتعداً عن الزحام بعد أن يدس بطاقتيه في جيبه والنقود.. وعندما يعود يكون قد أحضر حوائج البيت..

هذا الصباح لم يخرج جمعان لاستلام مستحقات الإعانة الاجتماعية، بل كان كعادته يخرج كل صباح ليتطلع ويرى كل ما هو جديد، وقد ساعدت النقود التي كانت في حوزته في أن تكون وجهته سوق السمك ليبتاع منه لأيام عدة مقبلة ما يخزنه في البراد الصغير الصدئ. ذلك أن الشتاء قارس هذا العام، وخروجه كل يوم أمر في غاية الصعوبة، وجسده الضامر، النحيل، لا يساعده على تحمل البرودة كما كان صغير السن في السابق.

وسوق السمك بالنسبة لجمعان، يعتبر ملتقى جماعياً للذين كانوا ذات يوم ذكرى عزيزة في حياته، وأعزهم إلى نفسه بائعة السمك تلك التي تدعى «عفير» وكان يكن لها احتراماً لا ينقطع. ولا يألو جمعان جهداً جاهداً في الذهاب إليها لشراء ما يريده من أنواع السمك. وهي ذات اليد الطليقة التي تسعفه في نادر أزماته المالية دون ضجر أو كبرياء الحاجة.

وفي كل مرة يركن إليها، كان يداعبها بألفاظ متواضعة، ضاحكة، غير محرجة، فتقابله هي ضاحكة بلا كلفة:

– (الله يلعن إبليسك.. يمعان!)

وأحياناً يجد أن مساعدتها لوقت ما أمر لا بد منه، فتترك له مكانها ليبيع وفق الأسعار التي تذكرها له حتى تعود بعد قضاء حاجة.

وفي هذا اليوم وجد نفسه مشدوداً إلى ذلك الملتقى الجماعي، وسط جو على درجة من البرودة، وهو يوم ليس كالأيام الشتوية الأخرى التي مرت من قبل.

كانت «عفير» تنظر إلى الجو المحيط بها عندما استقبلته، على أنه يوم غير عادي، وربما كان ذلك نذير شؤم بالنسبة لها.

– انظر الغيوم في السماء..

قالت ذلك تحدث جمعان، لكن جمعان كان يدرك مغبة الأحداث إذا ما وقعت، فودعها في قلق، وعاد إلى البيت يحمل حوائجه.

وعندما فتحت العجوز إليه الباب، ناولها ما يحمل والتفت ينظر إلى السماء، التي لبدتها تلك الغيوم المتطايرة بفعل الرياح الشمالية التي شرعت تهب بقوة، وتعصف بالبحر وتتلاعب بأمواجه.

أقفل الباب وهو يساوره القلق على مصير أولئك الصيادين الذين في وسط البحر، فيما أخذت رياح الشمال تزأر وتعصف بكل شيء!

دبي 18/1/1979م

وكان الدفتر .. رادي عليه

عبد الغفار حسين

لفح الهواء القارس بوخزة قوية خدَّي (بو بلول) اللذين علاهما الذبول، وتموجت جلداهما واسترختا كمن أصابه الهزال بعد بدانة، وظهرت فوق سطحيهما شعيرات خشنة متجعدة انتشرت هنا وهناك في غير ترتيب على رقعة وجهه الفاحم اللون، وقد اشتعل ثلثاها بالشيب المبكر مع أن صاحبها ولج لتوه باب الكهولة.

وارتعشت أوصاله النحيفة من البرد وهو يضع قدميه الحافيتين على الدكة الصغيرة خارج مسجد (عيال ناصر) في (الضغاية) بعد أن أدى صلاة العشاء.. ولكي يتقي برودة الجو أخفى معصميه اللذين اخشوشنا وحفرت في باطنهما حبال (اليدا) الأخاديد العميقة، تحت (الوزار المدراسي) الذي بدت خيوطه البالية تتفكك وتتدلى بفعل القِدم، ولفّ بهذا الوزار ظهره وذراعيه فوق (كندورته) المنسوجة من خام (الكورة) والمرقوعة في أكثر من موضع..

وعلا صوته بالتشهد، لا إله إلا الله.. وهو يخطو في الطريق، وقد ألقى الليل ظلاله الكثيفة على السكة الملتوية التي سلكها قاصداً بيت (العمومة والنواخذة) في (البطين)، مسترحماً إياهم أن يعطوه شيئاً من (الغوازي) يدفعها (لأسد الله الكراشي) راعي الدكان الذي ما انفك يلاحقه يومياً ويطالبه بتسديد ما عليه من دين، والذي ارتفع إلى اثنتي عشرة ربيه.. وقد أخبرته (أم بلول) هذا المساء أن أسد الله هددها بأنه سيمتنع عن إعطائها خبز (الخمير) صباح الغد إذا لم يحصل على فلوسه فوراً..

شهق (بو بلول) مغموماً وصوت (أم بلول) يتردد في أذنيه يستعطفه لكي يجد وسيلة تمنع (الكراشي) من تنفيذ وعيده، وإلا فإن أطفاله، (بلول ويميعوه) وأختهما (فايدوه) سيصبحون (بلا ريوك) في الصباح… وازداد غمه المصحوب بالكآبة وهو يحس بالسكون الذي يلف السكة التي يمشي فيها، ولولا نباح الكلاب الذي يصل إلى مسامعه من البيوت القريبة والبعيدة، وكذلك ارتطامه بـ (الرديد) وهو يتلمس معالم الدرب الضيق الذي يسلكه لشدة الظلام، لخيل إليه أنه في مكان غير مأهول.

وداهمه شعور بالوحشة والخوف عندما دارت بخاطره الأخبار التي يسمعها بين آونة وأخرى عن اختطاف (الأوادم السود) أثناء الليل، وخاصة في السكيك الظلماء من قبل مسلحين ملثمين، وعن بيع هؤلاء المخطوفين في عرصة الحصن عند السدرة (العودة) في البريمي على الجماعة الذين يأتون من أطراف الغرب لشراء وبيع (الأوادم) الذين يسمونهم عبيداً.. وسرت في جسمه قشعريرة وهو يتذكر القصة التي رواها زميله «زويد»، عن اختطاف غلام صغير منذ أيام قلائل كان يرقد بجانب أمه في (لوكة) من (لوك البلوش) عند مسجد (بن صنقور) في (الضغاية).. ولكن (بو بلول) عاد فابتسم لهذه الأحاسيس والمشاعر التي تداهمه والتي لا يجد لها معنى.. ألا يدعى هو وأمثاله خدماً وعبيداً؟.. أليس (الخدام) خلقوا في عرف هؤلاء للبيع والشراء؟ إذن فسيان أن يكون الخادم خادماً للعم زيد هنا أو للعم عبيد هناك فلعل العم عبيد يكون أرحم من صاحبه هنا ولا يعرض خدامه للشقاء الذي يعيشه هو وأمثاله، فقد لا يكون لدفتر الغوص الذي لا خلاص منه وجود هناك، وقد يكون في مأمن من ملاحقة (الكراشية) هل (بو الدكاكين) على الأقل..

وقطع على (بو بلول) هواجسه صوت ينادي من مكان عالٍ:….

– إي… ها … من هذا؟…..

فعرف أنه بمحاذاة نايف.. فرد على المنادي الرابض في أعلى المربعة:

– (صديج)… (صديج).. أنا (رباع بو بلول). خادم مطر بن هلال..

استمر بو بلول ماشياً متجاوزاً (نايف وسكة الخيل)، وصوت الحارس من فوق (نايف) يتردد كل دقيقتين أو ثلاث… إي، ها… من هذا؟

وحاد عن (سكة الخيل) متجهاً إلى (السبيخة) ليجد أعداداً غير قليلة من الجمال التابعة للقوافل التي أتت إلى البلد في ذلك اليوم ما زالت هناك، لم تبرح مكانها لعدم تمكن البدو أصحابها من قضاء حوائجهم في يومهم ذاك، والخروج إلى البادية كعادة البدوي الذي لا يروق له المكوث في المدينة ليلاً، فبقوا ليلتهم تلك وقد عقلوا مطاياهم لتبرك في مكانها.

فضّل بو بلول أن يتلمس طريقه بين (الجنادل) المركوزة التي تحمل مظلات (الدعون) أمام دكاكين (السبيخة) وتجنب المشي بين الجمال الباركة، خوفاً من أن يقفز بعير فيركله بساقه الطويلة في هذا الظلام الدامس…

التمح بو بلول في رأس إحدى السكيك المتفرعة من السبيخة ضوءاً يخرج من نافذة أحد الدهاريز المطلة على السكة، فيكاد سنا الضوء يبدد سواد الليل، فعرف بو بلول أن هذا الضوء هو ضوء (التريك) الذي يخرج من مجلس منزل من منازل تجار (العيم) في تلك الحارة، وعرف بالتحديد أن المكان الذي يضيء منه (التريك) هو بيت حاجي محمد عباس راعي العمارة (العودة)، في سوق العبرة الذي يعرفه كل الغواويص والبحارة لأنهم يشترون منه (المير) لبيوتهم، وخاصة في موسم (المد) حيث يلتهم دكانه كل (بيزات الكواض مال الغواويص والسيوب) ويبيع عليهم (مال ربية بخمس)…

أراد بو بلول أن يتجاوز بيت حاجي محمد عباس، ولكن الهواء البارد جعل للجوع الذي يحس به في معدته الخاوية لسعات متواصلة لا يستطيع مقاومتها.. فهو لم يذق طعاماً من الظهر، حيث شارك زوجته وأولاده سمكتين صغيرتين مشويتين مع شيء من التمر.. فحاور نفسه مقنعاً إياها الدخول في مجلس حاجي محمد عباس لعله يدعوه إلى طعام، خاصة أنه يعرف محمد عباس صاحب المنزل وغيره من تجار (العيم) أصحاب الدكاكين هناك..

ولكنه غيّر رأيه بعد أن تذكّر أن أكل (العيم) في الليل لا يكون عادة غير خبز (وكافي) مرشوش (بالمشاوة) (واستكانة جاهي) فهو جائع وود لو جلس على (سرود) عليه (صينية) أو غنجة عودة فيها (مجبوس بشاوري على لحم).. وهكذا واصل سيره إلى حيث يقصد، إلى بيت النواخذة الكبار..

جلس بو بلول في ركن قصي من الدهريز الكبير، منتظراً أن يجد فرصة سانحة يكلم فيها العم عن مشكلته مع (الكراشي) راعي الدكان، على أمل أن يجد منه مساعدة تحل له هذه المشكلة، وما إن حانت هذه الفرصة وحاول (بو بلول) أن يطلع العم على الأمر حتى قاطعه هذا بلهجة حادة:

– كأنك نسيت (اللي عليك يا رباع).. (الدفتر عندنا في البشتختة) كان تبانا (انراويك) إياه.. عليك (رادي) مال العام ومال السنة.. جمع اللي عليك وشوفهن كام قبل ما اتطالبنا بشيء..

وأردف العم بحدة أكبر:

– الأرض اللي تسكنها ترانا بناخذها عن الدفتر اللي عليك، إتحول عن أرضنا وشوفلك بقعة تسكنها..

قال النوخذا (العود) جملته الأخيرة وهو يدلف إلى داخل المنزل من الباب المؤدي إليه من المجلس، تاركاً بو بلول كالمصعوق ترتجف ساقاه الهزيلتان، اللتان لم تقويا على حمله من شدة الارتجاف فأسقطتاه أرضاً..

مارس 1980م