هدير محرك السيارة الزرقاء.. يختلط بصمت الوادي الذي ينحدر شيئاً فشيئاً.. حتى يبدو كالأنين.. بينما شمس النصف الأخير من شهر آب.. لا تزال تحتفظ ببعض لفح الصيف..
في جوف السيارة.. يبدو الصوت أعلى هديراً.. ورائحة الصدأ تنبعث بقوة.. كان هناك ثلاثة رجال، امرأتان.. وطفل، بعضهم كان نائماً.. وبعضهم كان التعب يبدو واضحاً على وجهه.
في المقعد الخلفي للسيارة، يندس جسد نحيف موهن، في العقد الثالث من عمره أو يزيد، وقد بدا أنه لم يحلق لحيته منذ فترة طويلة.. بضع شعيرات بيضاء كانت تختلط بشعر لحيته ورأسه، وعلى وجهه كان التعب يترسب كأوحال المستنقعات..
وفي الزاوية، إلى جواره.. كانت تتقوقع امرأة.. زوجته.. تلتف بالسواد.. وتحتضن صغيراً يكاد أن يتجاوز عامه الثاني.. لا تلبث أن تسكته.. حتى ينفجر باكياً مرة أخرى..
(دون أن يبدي اهتماماً برجال الشرطة الذين كانوا يرافقونه ومعه عائلته الصغيرة.. كان يدخل إلى قاعة انتظار المسافرين.. تطرده هذه المدينة التي تعج بالغرباء أمثاله.. ولا يتذكر.. ماذا كانت إساءته!.. عندما جاء إليها قبل اثني عشر عاماً، كان وحيداً.. إنه لا ينسى كيف قدم بالأمنيات، وبالحب الذي أزهر وأثمر آلاف المرات..).
نظر الجسد النحيل إلى زوجته، وإلى طفله، وشعر بصدره يتمزق.. ثم ألقى برأسه على ركبتيه.. ربما كان يبكي.. وربما كان يريد أن ينام.
– «كم الساعة الآن؟».. سأله أحدهم هامساً..
– رفع معصمه.. لم ير الساعة كما اعتاد.. تذكر أنه باعها في بيروت قبل ثلاثة أيام.
– «آسف.. لا توجد عندي ساعة».. لم يكن يعرفه.. الآخر سأل السائق عن الوقت.. ثم عاد يسأل:
– «هل تعتقد أن الطريق لا يزال طويلاً…؟».
– «لا أعلم..».
– «.. .. .».
– «قيل لي إن المسافة تقطع في ثلاث ساعات..» .. صمت وعاد يستطرد..
– «منذ خمسة عشر عاماً لم أر هذه الأرض..».
– «أنا منذ خمسة وعشرين عاماً لم أرها».
– «.. .. ..» شعر بشيء من الخجل..
– ما اسمك؟».
– «أبو شادي».
– «أنا اسمي محمود…».
وكان هدير محرك السيارة الصغيرة الزرقاء.. لا يزال يختلط بصمت الوادي..
يحاول أن يغفو .. أغمض جفنيه.. وتعب الطريق لا يزال يترسب على وجهه…
(كان منهمكاً يعمل..
– «هل أنت المدعو (..)؟».
رفع رأسه.. أحس بأن قلبه قد سقط إلى رجليه..
«شرطة؟!».
– «نعم.. أنا هو!!».
– «تعال معنا».. وخرج.. كانت تلك آخر مرة يرى فيها الحجرة الصغيرة الحقيرة.. التي زاول عمله فيها اثني عشر عاماً..).
بكى الطفل.. كانت زوجته تخفيه تحت عباءتها..
– «ما به؟!»..
– «لا أدري.. جسمه يرتجف..»، كان الطفل يبكي..
– «هاتيه..».
أخذه من عند زوجته.. ووضعه على صدره.. أحس به قطعة من الجليد..
– «إنه محموم..» قال ذلك والخوف يكاد أن يشله.. أجهشت المرأة بالبكاء، أحس بأن مشكلته تشعبت إلى فروع كثيرة.
– «لا تخافي.. لا بأس عليه..» كان يحاول تهدئتها.. والآخرون كانوا صامتين..
سعل الطفل سعالاً حاداً.. وبكى.. كان في بكائه حشرجة.. كانت الأم تبكي أكثر.. أحس بصعوبة الموقف.. بحث عن أي شيء ليدثر الطفل..
– «هل يمكن أن أساعدك؟» .. قال له محمود..
– «أشكرك»..
– عاد محمود إلى وضعه السابق صامتاً..
رائحة الصدأ لا تزال تنبعث بقوة.. وأنين السيارة الحزين تعبير للآلام التي تتصارع في أحشائها.. الطريق يبدو طويلاً.. رفع يده، نظر إلى معصمه.. لم ير الساعة.. مرة أخرى ينسى أنه باعها قبل أيام في بيروت..
«ما رأيك لو تعمل معي؟».. قال له أحمد هارون، صاحب إحدى المؤسسات الصحفية في دمشق، وصديق قديم، عندما التقيا مصادفة في بيروت..
– «لا أدري ماذا أفعل.. أنت تعرف، ابني.. وزوجتي.. و..».
– «بإمكانك أن تترك الولد وزوجتك في فلسطين عند أهلك.. وتجيء إلى دمشق.. وستزورهم..».
– «لكنني لم أتعود على فراق شادي..»، قاطعه بنبرة ضعيفة..
– «يجب أن تصبر قليلاً..».
– «لا.. لا أعتقد أنني أستطيع.. ..».
– «.. .. ..».
أوحال المستنقعات لا تزال تترسب على وجهه.. النوم طريدة صعبة المنال.. الغربة نوع من الموت البطيء.. الظلم مخلوق بشع للغاية..
توقفت السيارة.. عندما رفع رأسه.. رأى الجسر الذي سيعبر عليه ما أقرب وطنه وما أبعده في آنٍ واحد.. ونزفت في قلبه آلاف الجراح من جديد..
عندما استقل الباص الذي سيعبر به الجسر.. عشرات الكلمات والعبارات تصارعت في عقله.. «أين ورقة الدخول؟!.. لا توجد عيادة لن يسمح لك بالدخول!.. لا توجد معي حقائب.. جواز السفر هذا لا ينفع.. توجد عيادة في الجانب الآخر.. أنا فلسطيني.. كنت كذلك.. لن أتخلى عن هويتي.. هذا جنون.. ..».
انتبه على صرير فرامل الباص.. لقد وصلوا إلى الطرف الآخر.. نقطة الحدود «الإسرائيلية».. سيبقى وطنه دائماً.. ملاذه الأخير حتى وهو ينزف.. كان الإسرائيليون لطفاء بعض الشيء.. سيعالجون طفله.. سألوه..
– «أين ورقة الدخول؟».
– «أنا أملك جواز سفر صادراً عن الحكومة الأردنية..».
– «لكنك لست أردنياً..».
– «أنا فلسطيني..».
– «أنت عربي من إسرائيل».
– «.. .. ..».
كان النقاش سخيفاً.. وجد طعم المرارة يسكن في حلقه.. في عيونهم كانت تحترق كل بيادر فلسطين وأطفالها..
توالدت الجراح النازفة في قلبه.. وأصروا على عدم دخوله.. أجهضوا كبرياءه.. ووضعوه على حافة الدنيا.. زوجته كانت تملك ورقة الدخول.. أخوها في عمان هو الذي استخرجها لها.. لكنها رفضت أن تذهب وحدها.. لم تؤنبه لأنه كان عنيداً في موقفه.. سارا معاً بعيداً عن الناس.. وتحدثا طويلاً..
عندما أشرق فجر اليوم التالي.. ولثمت شعاعاته أحزان الكبار والصغار.. فتح شادي عينيه ولم يجده.. سأل أمه، وملء عينيه دموع كل أطفال الدنيا.. بكت هي أيضاً..
«سأعود .. لا أعرف متى.. ربما لنتشرد معاً من جديد..».
أوحال المستنقعات.. عادت تترسب على وجهه من جديد.. وطعم المرارة يسكن في حلقه.. وكان عليه أن يعود من حيث أتى..
1979م