Glogo

يوم في حياة موظف صغير – محمد المري

فجأة، صحوت من النوم في الساعة الثامنة وخمس وثلاثين دقيقة صباحاً..

يا إلهي لقد تأخرت عن العمل، يجب أن أكون هناك في الثامنة، لا بأس فهذه المرة الأولى التي أتأخر فيها منذ أن بدأت العمل.. وارتديت ملابسي على عجل وخرجت.. خرجت.. بسرعة وأنا أفكر في كذبة صادقة أختلقها وأقدمها مع اعتذاري وأسفي الشديد لسيادة المدير، وتخيلته.. تخيلت وجهه المكفهر والشرر يتصاعد من عينيه وقوامه المتحرك وأنفه الكبير الممتد. تخيلته وهو يطردني من مكتبه.. من العمل.. من الحياة، وحركت رأسي بلا مبالاة، وكأن الأمر بسيط للغاية.. وانتبهت إلى أن شيئاً غريباً لفت انتباهي.

لا أحد في الشارع غيري.. الشوارع كلها خالية من المارة، والمحال كلها مفتوحة لا أحد فيها.. أين ذهبوا ومشيت بسرعة وأنا أتأمل كل جهة، لا حراك.. لا صريخ، لا ضجيج.. ولا سيارات حتى الكلاب والقطط اختفت، المدينة كلها خالية، ترى ماذا حدث؟!

هل قامت القيامة؟! وإذا كان فلماذا لم تنقلب الدنيا، ولماذا بقيت وحدي؟

وتألمت لحالي وأحسست بالغربة… بالوحدة بالبكاء.. بالقلق.. بالجوع.. أين آكل.. أين أشرب.. كيف أعيش..؟ ولم أخرج من حلقات تفكيري المخيف إلا وأنا أدخل أول مطعم صادفته في طريقي آه آه.. لا أحد فيه وانتظرت وأنا لا أصدق انتظرت أن يأتي الجرسون ليسألني ماذا أريد؟ ولكن لا لم يأت، لقد ذهب معهم، وخطوت إلى الداخل ورويت عطشي، وتناولت من المطبخ فطيرة جاهزة، وكدت أن أخرج دون أن أدفع الثمن وخفت، والتفت إلى لائحة الأسعار وتركت الثمن وإلى أول سمان أخذت علبة سجائر بيد ترتجف وتركت الثمن ومشيت وأنا مذهول، وعقلي جامد لا يريد أن يفكر، سؤال يدور في رأسي ماذا جرى؟… واقتربت من مبنى الشركة ألقيت نظرة على البوابة أبحث عن الحارس.. يبدو أنه ذهب معهم.

لا يهم طالما الباب مفتوح، ولكن ألم يكونوا في حاجة إلى محاسب مؤهل قضى سنين طويلة من عمره وعيناه لا تفارق الأرقام والرموز.

ربما أنهم لم يكونوا في حاجة، وإلا لما بقيت هنا ساعة واحدة، ودخلت مكتبي وبدأت أقلب الملفات والأوراق وانتقلت إلى المكاتب الأخرى لعلني أجد ملاحظة من زميلي علي ودون جدوى.. حتى زميلي نسيني، أتراه أنكر جميلي أم يدرك أنه بفضلي حصل على وظيفته. وحتى عبدالله، ومحمد، وسليمان كلهم نسوني.. نسوا العشرة.. نسوا الزمالة.. يا لهم من خبثاء.. جبناء.. خافوا على مناصبهم هناك، وحتى المدير، لقد قلت إن الدنيا لم تنقلب..

نعم قلت ذلك..

إذن سيأتي عالم آخر يعيش عليه عالم جديد؟

ولكن العالم الجديد سيكون بلا علم.. بلا مدينة وبلا خبرة..

كلا لن يكون بلا علم وبلا مدينة ربما بلا خبرة وهذا لا يهم..

وماذا عن الرواتب.. الرواتب الحالية لن تسد ثغرهم..

قرر لهم ضعف هذه الرواتب، والمحاسب اجعل نصيبه ضعفين، فهو ذو فضل كبير وأعماله كثيرة..

وماذا عن راتب المدير أعني راتبي؟

اجعله ثلاثة أضعاف..

سيرفض المحاسب.. إنه مبلغ كبير وحتماً سيؤثر في ميزانية الشركة.. من هو المحاسب حتى يوافق أو يرفض؟ إنه مجرد موظف عندك.

كلا.. المحاسب أكثر من موظف، إنه موظف من فئة موظفي الدرجة الأولى.. إنه العمود الفقري للشركة.

وكيف الحل.. الحل بسيط، أرضي نفسي والمحاسب، ولا أزيد من رواتب الموظفين.

إنك ذكي جداً، هذا هو عين الصواب.

قل لي ماذا عن خلقة هذا العالم المنتظر، أعني كيف ستكون أشكالهم؟

لا شك أنهم أقزام ووجوههم بشعة مستديرة، وأنوفهم صغيرة، وفي عيونهم البراءة وأرواحهم طاهرة، إنها أرواح جديدة، لا حقد ولا كراهية، ولا طموح فيها.

كيف يكون ذلك والأرواح تنتقل من الراحل إلى القادم، إنهم سيورثون أرواح أولئك الذين ذهبوا..

– لا .. لا أظن ذلك وكل من يورث روحاً شريرة سيطرد من العمل.. ومن المدينة.

ومن سيطرده من المدينة؟ وأنت لست الحاكم..

– وأين الحاكم..

ذهب معهم، لا بد أنه حمل معه كلماته الجارحة.. ووجهه البشع.. وليكن الله في عون تلك الفتاة، والتي ستكون شريكة حياة هذا المارد المخيف.

وخطر على بالي سؤال وجهته إلى نفسي ودار حوار بيننا، أعني بيني وبين نفسي من سيكون المدير.. من.. من سيكون المدير؟

بالطبع ستكون أنت.. أنت وحدك ذو خبرة طويلة في هذه الشركة، أنت الذي كنت تقرر مصيرها وترسم الخطوط العريضة لميزانيتها، تَشَجَّع لا تفقد الثقة بنفسك.. ارفع رأسك. ولكن من أين لي أن آتي بموظفين ومحاسب مؤهل مثلي؟

– لابد أنه ذهب ومع أسرته على رأسهم.

إذن ما الذي يمنع أن أكون أنا الحاكم..؟

– نعم أكون الحاكم.

– لا شيء.. لا شيء أبداً إنك أقدر منهم وأحق بهذا المركز.

– معنى هذا أنني أصبحت المدير والحاكم.

– نعم أنت المدير وأنت الحاكم.

– ولكن أين هم.. أين رعيتك.. وموظفوك.. أين هؤلاء الأقزام؟ لقد تأخروا كثيراً، الساعة الآن على وشك الاقتراب من الواحدة ظهراً وهم لا يأتون.

ربما أتوا ولعلهم في الخارج، انتشروا في الشوارع وفي المدينة. إذن أذهب إليهم.

وخرجت.. خرجت، ولم أر أحداً..

لا أحد في الخارج..

اصرخ.. اركض.. ارم ملابسك قد تلفت انتباههم..

ألفت انتباههم.. انتباه من؟ أنسيت يا محمد بهذه السرعة وأنت الحاكم والمدير؟ يا للغباوة ألفت انتباه هؤلاء الأقزام في عالمك الجديد.

آه.. لقد نسيت حقاً.

وركضت .. رميت ملابسي وبدأت أصرخ فيهم..

أيها الأقزام.. أنا المدير.. أنا الحاكم.. أنا صاحب الكلمة هنا، سألقنكم درساً لم تعرفوه بعد، لن تكونوا كأسلافكم جبناء.. سأجعلكم تشعرون بآلام الآخرين، سأبعد عنكم الأنانية وحب الذات.. لن أعلمكم بمبادئهم وفلسفتهم، لن أعلمكم الديمقراطية.. والرأسمالية.. والشيوعية.. سأبحث عن مبادئ وفلسفة خاصة بكم أضعها من تجربتي، وسأفلح في ذلك وستنقلونها إلى أجيالكم القادمة بعد أن تعرفوها أنتم.

أيها الأقزام المشوهون، أنا الرسول المبشر بالخير فيكم.. أنا المدير أنا الحاكم.. أنا كل شيء هنا.

وفجأة تسرب إلى أذني صوت ناعم وقطع حبال صراخي..

– ماذا جرى لك يا رجل: لماذا تصرخ هكذا؟

أنا أنا أصرخ..؟ كلا.. لست مجنوناً كي أصرخ.

أعرف أنك لست مجنوناً، ولكنك كنت في حلم مزعج رهيب.

آه تذكرت كم كان حلماً جميلاً.. آه لو تحقق.

دع عنك هذه الأحلام الجميلة فهي (لا تغني ولا تسمن).

لقد اقتربت الساعة من السابعة والنصف، وهيا انهض من فراشك.

ولماذا؟

وتقول لماذا.. لتذهب إلى عملك.

أي عمل..؟

أنسيت عملك «لعنة الله على الشياطين».

لم أنس عملي، ولكني طردت منه..

طردت منه.. كيف.. ومن الذي طردك؟

نعم طردت منه، والذي طردني هو حضرة المدير، كم هو حقير هذا الرجل.. تصوري لم أفعل شيئاً سوى أنني طالبته، ونيابة عن الموظفين الجبناء إما بزيادة رواتبنا لمكافحة هذا الغلاء المنتشر – وكأنه وباء خطير – أو الإضراب عن العمل، ولا تخافي يا زوجتي العزيزة، إنني أعرف كيف أنتقم منه.

سأبحث عن عمل آخر براتب أكثر….

1974م