كان هناك لون كالصدأ، وحلقة منتفخة كالوجه، وشيء مثل الفم والأنف، وقد توصل العبّار وهو يرتب أفكاره إلى شكل قريب جداً من شكل العفن الصدئ، ذكّره بوجهه عند استيقاظه، تحسس وجهه وارتفع رغاء الماكينة.
نرجس تقول: أنت مشوه «اتخذ تفكيره شكل الهمس» وهو وإن لم يحدد شعورها تجاهه، إلا أنه لم يكن وحيداً آنذاك، فقد كانت تصرخ في وجهه مبددة ذلك الشعور بالوحدة: قرد، شيبة.
وكان يغيظها: القرود ليست أسوأ شيء في الدنيا، سمعت أنها تعيش قطعاناً، وهي قريبة الشبه بالآدميين. بعد خمس دقائق حملق في الوجوه المشدودة فأذهل العجوز أن تلك الوجوه تغيرت بسرعة وبعد خمس دقائق أخرى، الوجه الصدئ نفسه تمدد، تقطع ثم تحوّل إلى رذاذ.
تلمس العجوز مرة وجه نرجس، وكان يرتجف، إن تلك الرغبة في امرأة كانت تسكنه دائماً رغم قباحته. قال لها مجاملاً: وجهك ولا وجه الدنيا، فتناولت علبة كبريت وحاولت أن تنتحر!
يذكر أنه أغلق الراديو عندها ثم طوته المسافة ما بين داره والخور وانطفأت جذوة نرجس، وابتعدت العبرة عن الرصيف وقفز صبي العبار وهتف برتابة وتمسحة:
عبرة، عبرة، عبرة.
بلال العبار، يلتقي بنفس الوجوه الكثيرة والملوحة التي تهبط يومياً إلى جوف الماء، ويعيد الكلام نفسه: عبرة، عبرة، عبرة. ولا يعرف من العالم أكثر من مسافة الخور، ويتصل بالدنيا اتصالاً مقيتاً، فهو لا يحبها ولا يكرهها.
أقبل الصبي بعد خمس دقائق أخرى «كان العبار خلالها يفكر في نرجس التي هربت وتركت له البيت. استطال الصبي وهو يقضم سندويشة بيض، تطفل كعادته». في الزاوية، كان أحد الركاب مخموراً فقال كلاماً جرح به حياء حرمته. ونظرت المرأة إلى الأفق فوجدته بعيداً ومشوشاً ولم يكن باستطاعتها أن تفكر ربما في «نفسها»، وكأن شيئاً ما كان مستحيلاً بالنسبة لها، ثم رنت بعينيها إلى خيوط وهمية، تسلقتها نظرات كأنها مجبولة على الإحجام. وطفلة استفرغت وتقزز الصبي: وصلنا. ثم أخذت العبرة تختض مثل القربة ثم شد الحبل وارتعشت الماكينة وخرست. نازل، نازل: قفز الصبي، نهره العجوز: ديوث:
مجّ العجوز ريقه ثم قذف به في البحر بعيداً: «قف» وانزلق لسانه فوق لثة اللحم ثم حملق في الوجوه المشدودة للمرة الثانية دونما تركيز.
«عادة يشكل وجه العبار الجزء الأكبر من جسده، خطوطه يابسة، يبوس «البذرة»، في ظهره، لكنه وجه مسالم يظهر فوق زحمة من العظام العريضة». في تلك اللحظة حضر أمامه شيطان نرجس، نرجس الرخيصة، كان مهرها راديو ترانزستور، وكان عمرها أربع عشرة سنة، الحرمات عندهم رخاص ومثل الدود وتقدر أن تتزوج أي واحدة حتى لو كنت مثل القرود، وأعجبت الصبي سالفة القرود، حتى أفحم العجوز بخمس عشرة نكتة عن القرود، لكنه نفى أن يكون هذا الأسلوب متبعاً في كل أنحاء العالم!
الثانية تماماً، وعند كافتيريا العبرة يلف صاحبها سندويشة بيد واحدة ويدخن بإصبعين ويصب الشاي ببقية أصابعه وينظر إلى الصف الطويل ويظهر الصف الأخير من أسنانه بنياً، وهو يتكلم وكله بمجموعه يشبه إبريق الشاي الذي يدخن من أنفه باستمرار. يتحدث بلهجة جهنمية: شوف حاجي بلال، حرمه مال انت حرامي، مستأجر مال صندقة مال انت حرامي، أنا بيعرف واحد مستأجر، نفر فقير «وايد» يبغي صندقة «أرباب» ويهمس: أنا بيعرف نفر يبغي فيزا، أنا بيعرف ويرفع صوته، أنا بيعرف.. أنا بيعرف الدنيا كله ما في واحد حرمه اسمه نرجس، ممكن نرجس مات.
الثانية وخمس دقائق «ظهراً» لم تطأ رجل آدمي قطعة الخشب المرتعشة ما بين الشمس والماء، وأسقطت الشمس صلباناً صفراً على ظهر البحر، رآها العجوز فتصور نرجس مستحيلاً والعبرة المرتعشة تابوتاً، ثم نظر إلى كتل الذباب السوداء التي تلحس الأرصفة اللزجة، وإلى نعليه اللذين حفرت عليهما أصابع مفلطحة كبيرة وانبعثت منهما رائحة الملح، وامتد بصره من أول الرصيف إلى آخره «حيث لا تأكل القطط الجرذان إن شبعت».
تفكر، من هنا، تحول كلكجيا إلى تاجر، وصاحب الكافتيريا إلى قواد، ونرجس إلى عاهرة على الأرصفة والعبار إلى مجنون.
ضحك: لو مت كفني أنت وعقني في الخور، قال العبار القديم للصبي، ثم مشى قليلاً وتلفت وقفل على الرصيف اللزج، ثم ابتلعه الزحام ثم نسي كل شيء، ثم نزل ذلك اللون العكر إلى مكان ما، يشبه سلة المهملات في نفسه وسأل نفسه بعد ذلك:
لماذا يكره الدنيا إذا كان كل شيء فيها لا يسوى، حتى نرجس، تفل، ثم رتب أفكاره وكأنما هي محاولة منه فقط لهدم تلك الهوة التي بينه وبين العالم والتي تفوقت على شعوره بالوحدة.
1984م