مظفر الحاج

ذكريات وأمانيّ – مظفر الحاج مظفر

أسلمت الشمس نفسها للمغيب، وأخذت تحتجب وراء السفن الراسية في البحر.. وأرسلت خيوطها من وراء تلك السفن لتطرز حواشي السحب، وبدا وكأن وراء كل سحابة شمس تغيب، ثم بدأت السحب تشيع الشمس إلى مثواها الأخير باكية، وغابت الشمس وبدأ الليل يرخي سدوله على الكون ويطغى على حمرة الأفق، وأنا أحدق النظر في قوارب الصيد المتناثرة أمامي لا أراها.

ولا أسمع شيئاً سوى أصوات الأمواج تتكسر على مقربة مني، وهي تلطخ وجه ذلك الشاطئ الممتد الهادئ.. كل هذا يحدث وأنا سارح بتخيلاتي في آفاق لا أستطيع أن أجد نفسي فيها وتدور عقارب الساعة ولا أجد لذلك تأثيراً وكأن الزمن قد توقف.. توقف ليحدد آفاقي التي أنا هائم فيها.. ما أروع هذه الصورة.. ما أروع صنع الله في ساعة قريبة ودعت الدنيا شمسها كأم تزف ابنتها إلى عريسها، وها هي الآن تستقبل القادم.. تستقبل القمر. ظهر القمر، ظهر ليكسر ضوءه في مياه البحر، مضيفاً جمالاً آخر إلى ساعة الوداع.

كل هذا والعنان متروك لتخيلاتي.. وتمنيت لو وجدت نفسي الضائعة، وفجأة تذكرت.. تذكرت شيئاً آخر..! لقد وجدت نفسي.. وجدت نفسي مشدودة إلى شيء مضى.. نعم مضى.. لكنه ماض حزين يذكرني بقسوة هذا البحر الهادئ الآمن الداعي إلى التأمل والتفكر.. فتسلمت عنان نفسي لأخوض غمار هذه الذكريات المحزنة لعلّي أجد في ذلك سلوى لنفسي المكلومة..

قبل عشر سنوات على وجه التحديد اعتدت أن أركب البحر مرافقاً لوالدي الذي كان يجول بسفينته التجارية حول شواطئ إيران والهند وبلاد إفريقيا.

كان ذلك في يوم من أيام أيار (مايو)، وقد أخذت الشمس مكانها في كبد السماء لتلفح وجوه الناس بحميها، وترفع من درجة حرارة كل ما يصادف طريقها.

أبحرت السفينة من بلدي كما كانت تبحر كل مرة. فك (القلص) وعلى ظهرها ما يربو على خمسة عشر بحاراً ممن وقع عليهم الاختيار بحكم درايتهم بأمور البحر وبمن اتصفوا بالعقل والتفكير وحسن التصرف، أضف إلى ذلك الصداقة التي كانت تجمعهم بأبي. بدا البحر كصفحة ملساء لا يشوبها شيء وشقت السفينة عباب البحر في يسر وسهولة مقترنتين بهدوء ليس له مثيل.

أمَّ أبي البحارة لصلاة العصر ثم مضى كل إلى عمله، وجلست مع أبي نراجع بعض الحسابات الخاصة بالبحارة، ثم تحدث أبي عن أمنيته أن يراني خلفاً له، وأن يجدني متزوجاً وقد رزقت ببنين وبنات فيعبثون بلحيته البيضاء ويضاحكونه وأعود إليه من البحر مرفوع الرأس ومحملاً بهدايا من الموانئ التي أرسيت فيها سفينتي.. وسرقنا الوقت فإذا بنا نشرف على مغيب الشمس، وتنهد أبي وكأنه أزاح عن صدره حملاً كان يقلقه وهو يقول: (قدرتك يا رب كم غربت عني شمس وطلعت وأنا بعيد عن ملاذي بعيد عن أم أحمد).

وأدينا فريضة المغرب وجمعنا جميعاً لحفل واحد لتناول طعام العشاء.. فقد كان أبي يكره أن يميزه شيء عن سائر البحارة، تنازل عن تناول غذائه بمفرده حفاظاً على شعور البحارة، وهذا هو سر حبهم له وتفضيلهم له على سائر (النواخذة)، جاء الليل بظلامه الحالك ولم نكن نرى شيئاً في حدود قوة الإبصار فقد كان الظلام يحول دون رؤية الأشياء، لم نكن نرى سوى النجوم المنتشرة كحبات اللؤلؤ المتناثرة على صدر الحسان..

شيء يدعو إلى التفكير وإلى التأمل في مبدع هذه الأشياء، في الله سبحانه وتعالى الذي سخّر البحر لتجري فيه السفن، وسخّر النجوم ليهتدي بها البحار.. وطال بي التفكير إلى أن أفقت على صوت السمر الذي شكله البحارة فأبيت إلا أن أشاركهم سمرهم.

انتهى دور السمر وبدأ دور تجاذب أطراف الأحاديث الشيقة عن حياتهم الخاصة تارة، وعن الأماني التي ينشدونها تارة أخرى، ويحمل هذا الحديث بعض البحارة إلى أن يصرح «بأن زوجته لا تفتح الباب حتى تعلم نوع الهدية التي جلبها هذه المرة أو ليصبر حتى تتزين بأحلى الملابس والحلي لملاقاته». إنه مجتمع صغير، لكنه مجتمع متحابّ، مجتمع هؤلاء البحارة على ظهر هذه السفينة.

يا ترى هل الظروف الحالية.. أي ظروف الرحلة هي التي خلقت هذا المجتمع بهذه الصورة..؟ أم أن هؤلاء البحارة بطبيعتهم هكذا؟

ويمضي اليوم الأول والثاني ونحن على ما نحن عليه من راحة البال وهدوء النفس والسفينة تشق عباب البحر مرفوعة الصدر والرأس لا تلقي بالاً لما حولها، وكأنها ملكة هذا العالم.

لكن مع بزوغ فجر اليوم الثالث بدأت السفينة تتنازل عن بعض كبريائها وتحد من شموخها وباتت وشيكة الرضوخ لمطالب الظروف الجديدة..!

هبت العاصفة الحمراء من حيث لم نعمل له حسباناً، بل ولم نكن نتوقعها..

هبت مصحوبة بأمواج كالجبال.. وتغير الموقف كلية على ظهر السفينة، فالبحارة مجتمعون لا للتسامر وتجاذب الأحاديث، بل لمواجهة هذا الخطر المرعب.. لمواجهة الموت، فلا مكان للسمر والأحاديث هنا.

وارتفعت الأيدي إلى السماء .. إلى الله.. إلى مسخّر الرياح والأمواج ليزيل هذه المحنة.. لكن مشيئة الله تأبى أن تنهي الحالة الجديدة بهذه السرعة، فالرياح تزداد سرعة والأمواج تزداد ارتفاعاً مع كل دقيقة تمضي، وبدأت توجه الضربات إلى صدر السفينة بلا رحمة حتى احمرّ صدرها، وازداد الموقف تعقيداً فالكل ينتابه الخوف والارتباك ومتوجه بتفكيره إلى نهاية هذا المطاف والمصير المنتظر. بدأت الأمواج كالسرب الزاحف.. فأمر والدي بإلقاء بعض الحمولات لعل وعسى.. أن نتفادى هذا الخطر، لكن هيهات.. هيهات أن تواجه السفينة هذا الجيش الغازي بقضه وقضيضه ومن ثم أصبحت السفينة لعبة في يد الأمواج والرياح تسيّرها حسب كيفيتها.

تأرجحت اللعبة يميناً وشمالاً، ونحن في أشد ما نكون فيه من الخوف والاضطراب، ودعوت الله، والبكاء يخالط دعائي وما زلت بالدعاء حتى انقلبت السفينة رأساً على عقب إيذاناً بانتهاء مرحلة الصمود على ظهرها، وبدأت مرحلة أخرى.. مرحلة الصراع.. مرحلة مواجهة الموت وجهاً لوجه مع الأمواج والرياح.

واشتد وطيس المعركة بين هذا الجيش الجبار وبين هذه الفئة البائسة التي لا تملك من أمرها شيئاً والمغلوبة على أمرها، فانفضّ الشملّ وأصبح كل منا في مكان ناءٍ لا يعرف عن الآخرين شيئاً، وتمنيت لو اجتمع الشمل مرة أخرى فقط لمجرد الجمع، ففي هذه الحالة يود الإنسان أن يلقى حتفه مع المنكوبين مثله وليس بمفرده. وطالت ساعات الصراع مع الموت وبدوت منهوك القوى ووشيكاً أن تجمد بنت الشفة في فمي لولا رحمة الله الذي استجاب لدعائي في اللحظة الأخيرة، حيث عثرت على قطعة من أطلال السفينة فاستعنت بها.

استعدت الذاكرة في بيت صياد انتشلني من المياه قبالة قريته، وقضيت أياماً أستعيد فيها صحتي في كنف ذلك الصياد، ثم أزمعت الرجوع إلى مسقط رأسي وأنا مدين له بحياتي، وقد شاء أن يعرف مني ما شاء.

ومرت الأيام.. والشهور.. والسنوات.. ولست أدري ما الذي جعلني أعود بذاكرتي إلى الوراء.. وأتذكر تلك القصة المؤلمة..

تذكرت كل هذا وصورة ذلك اليوم المشؤوم واجمة أمامي بكل ما فيها وقد اعترتني موجة من الحزن والأسى.. فيا لك من ظالم يا بحر.. ما أشد قوتك يا بحر.. إنني أكرهك، أكرهك رغم ما فيك من هدوء.. الآن سأتركك لأرجع إلى بيتي.. إلى أولادي إلى ماهر وخولة.. لكن لا لن أعود إلى البيت، فوالدي ليس في انتظاري في البيت، إنه في انتظاري في مكان آخر.. في رحاب الله، حيث أرسلت به فتباً لك يا بحر.

1971م