لقد كنت غارقا في تفكيري .. شاردا بذهني .. عندما وجدت نفسي في ذلك الحي الراقي .. فقد كان يمتاز برونق مبانيه وروعة تصاميمه ..ولكن راودني إحساس غريب بالوحدة .. فلست أرى أحدا من الناس هنا .. يا ترى أين أهل هذا الحي؟ وهل يعقل أن يهجر حي مثل هذا ؟ .. وبينما أنا واقف أحاول إيجاد أجوبة لتساؤلاتي .. إذا بيد ثقيلة تربت على كتفي.. الرجل : السلام عليكم .. – آه .. وعليكم السلام يا عماه.. الرجل : ما لي أراك شارد الذهن مشتت الأفكار يا فتى .. – كنت أتساءل أين الناس .. وهل هذا المكان مهجور حقاً .. الرجل: إيه .. هي قصة طويلة ولكن إن أحببت معرفتها شرفنا في مجلسنا .. وانطلقت مع ذلك الرجل الذي كان واضحا من ملامحه أنه في الأربعينات من عمره أو هكذا بدا لي .. محتفظ بكل قوته ونشاطه .. المهم أننا دخلنا أحد بيوت الحي .. والذي كان من وجهة نظري الأحلى والأرقى في الحي كله .. وشدتني لافتة كتب عليها \”مجلس المجد \” .. دخلنا على قوم تعلوهم الهيبة والوقار .. وجوههم كالسراج .. أما تلك الابتسامات فكانت تضفي على النفس الكثير من الطمأنينة والراحة .. – السلام عليكم .. المجلس : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .. تفضل يا فتى .. خذ مكانك بيننا .. ولم ألبث أن أخذت مكاني حتى بادرني أحدهم .. الرجل : من الفتى ؟ – لست بالذي يسبقكم بالحديث .. ولكني أخبركم عن قصتي بعد أن أعرف من القوم .. فبادرني أكثرهم ثقة بنفسه فقال … الثقة : أنا الثقة .. وصاحبك الذي معك ما هو إلا الحماسة .. ونطق آخر .. أنا الصراحة .. وتبعه البقية .. أنا العز .. أنا المجد .. الكرم .. الفلاح .. المروءة .. النقاء … -الله أكبر .. ها أنتم مجتمعون في هذا المجلس وأنا أبحث عنكم .. المجد: ها قد عرفتنا .. فهلا أخبرتنا بقصتك .. – نعم .. بدأت قصتي عندما سمعت أخباركم في القصص والروايات .. كان ذلك عندما جلست مع التاريخ .. ذلك الشيخ الكبير .. فأخذ يحدثني عنكم عن سموكم ورفتعكم .. عن روعتكم وجميل صحبتكم.. فخرجت من عنده باحثا عنكم .. متعطشا للقائكم ومصاحبتكم .. فقابلت أول ما قابلت .. شخصا بديع المنظر .. حلو المنطق .. حسن السلوك والتعامل .. فسألته عنكم وعن مكان تواجدكم .. فأخبرني أنه أحدكم وأنه ينتمي إليكم وقال أنه يسمى الصدق .. ودلني أول ما دلني على السوق .. وقال أني أجدكم هناك … فقاطعني الصراحة .. الصراحة : هو الكذب لا محالة .. – نعم .. لقد كان هو الكذب ..ولكني عرفت ذلك فيما بعد .. فنظر إلي التسامح قائلا : أكمل بارك الله فيك .. – نعم لقد دلني على السوق .. وأخبرني أني أجد هناك أناسا تميل إليهم نفسي .. ذوو منظر جميل وهندام حسن .. تظهر عليهم علامات الثراء .. فودعته وانطلقت إلى السوق مسرعا .. فوجدت فيه من الأناسي الكثير .. وأجلت ناظري حتى وقع على أحد تجار المحلات الكبيرة التي تتوسط ذلك السوق ..فقلت لنفسي .. لن تجد أفضل دليلا منه ..ودخلت عليه فإذا به يلبس حلة كحلة الرجل الذي قابلت .. فتوسمت فيه خيرا وسألته عن ضالتي .. فأجاب أني عليها سقطت .. فهم في مجلسه مجتمعون .. وأشار إلى رجل تظهر عليه علامات الثراء الفاحش فقال .. هذا المجد .. وأشار إلى آخر عليه علامات الكبر فقال هذ العز .. وهكذا أخذ يعرفني بهم وأنا منصت في استغراب .. فقد كانت صفاتهم تختلف عن ما وصفه لي التاريخ .. ولكني جلست عندهم ساعة من الزمن .. أسمع كلامهم وأتابع حديثهم .. ولكنه لم يرق لي وفي النهاية سألتهم عن سبب هذا الاختلاف الشاسع بين وصف الشيخ وما هم عليه في الواقع .. فقالوا : أتقصد ذلك الشيخ الخرف .. ألم تعلم بأن تلك الصفات قديمة .. أتى عليها الزمان وشرب .. نحن فعلا من تبحث عنهم ولكننا احتلينا بحلية التطور والرقي … وأخذوا يبررون لي الأسباب ويعبئون رأسي بتلك الأفكار ..ولكني في نهاية المطاف لم أمتلك إلا توديعهم ومغادرة المكان .. وفي نيتي أن لا أرجع إليهم مرة أخرى أبدا .. وأنا خارج من عندهم أفكر بما وجدت وسمعت .. إذا بي أصطدم بمجموعة من الناس .. فدفعوني بعيداً وطرحوني أرضاً .. وهم يقولون .. ألا تعرف من نكون .. ألم تواجه المروءة يوما .. ألم تعرف للإباء معنى .. وتركوني مرميا على الأرض وأنا في ذهول مما حصل .. حتى انتشلني مما أنا فيه رجل في كلامه قوة وراحة .. فأمسك بيدي وهو يقول … لا عليك .. إنما هذا ما يحصل عندما تقترب من الرذيلة والخيلاء .. فنظرت إليه وعلامات الاستفهام مرسومة في عيني .. فقال … هيا معي وستجد بإذن ا لله أجوبة لكل تساؤلاتك .. وجلست معه وعرفت الحقيقة وقتها .. فقد أخبرني أنه هو الصدق .. وأن من التقيته أول الطريق لم يكن سوى الكذب .. وأن المجلس الذي مررت به لم يكن إلا مجلس الكبر والظلم .. مجلس الحقد والحسد ..وأنهم جميعا لبسوا حلة الكذب باسم التقدم والرقي .. فإذا بها الرذيلة تسمي نفسها الحرية .. وإذا بالخيلاء يطلق على نفسه المروءة .. وإذا بالوقاحة تنتحل صفة الشجاعة وهكذا البقية ..فشكرته على توضيحه وتبيين الصواب .. وسألته عنكم .. فدلني على الطريق وقال .. تجدهم مجموعة لا فرادى .. عليهم حلة كحلتي .. سماتهم تطابق ما أخبرك به التاريخ .. يكرمون الضيف .. ولا يردون من عنهم سأل .. فخرجت من عنده بعد أن أعطاني كساء للقلب هو كساء الصدق .. وانطلقت مباشرة إلى الطريق الذي دلني عليه ألا وهو طريق ( الجد والمثابرة) الواقع في مدينة الإيمان واليقين ..وهكذا وصلت إليكم أحبتي .. المجد: جميل أنك جلست مع التاريخ .. ورائع أنك التقيت بالصدق .. فما أكثرهم الذين يقعون ضحايا الكذب والخداع .. وأخذنا نتجاذب أطراف الحديث .. وعلمت بكل الإغراءات المعروضة على المجد والعز لمغادرة هذه المدينة إلى مدن الكفر والإلحاد .. والشرك والفساد .. ولكن لم يكن للمجد ولا العز أن يتروكوا مدينة الإيمان أو أن يبرحوا أرضها .. واستمر الحديث حتى حان وقت الرحيل .. – ولكن كيف لي بصحبتكم على الدوام .. المجد: لست مضطرا لحضور مجلسنا ولكن هذه حلل للقلب .. متى تحليت بها كنا معك .. وليس لأحد قدرة على نزعها منك غيرك .. فهي في حصن صدرك .. المقفول بمفتاح عقلك .. المحروس بدينك وإيمانك .. – شكرا لكم على كل شيء .. ولكني لا أرى أناس ظننت أني أراهم بينكم .. وأخص بالذكر العفاف .. الصراحة : إيه .. أخي إن العفاف الآن في غرفة الإنعاش .. بعد محاولة الرذيلة اغتياله .. فأنت تعلم أنها انتحلت صفة الحرية .. – ماذا ؟! في الإنعاش .. لا حول ولا قوة إلا بالله .. ولكن كيف ذلك ولم لم تحاكم الرذيلة على فعلتها .. وأين الحرية من كل هذا .. الصمود: إنها المكيدة والخداع .. لقد تم اتهام الحرية وسجنها في معاقل الغرب البغيض .. – ولكن ماذا يحدث لو مات العفاف .. المجد: أخي ليست لتموت ما دام هناك قلب يرتدي حلة العفاف .. وما دام في هذه المدينة بيت قائم .. فارتسمت على محياي علامات البشر والأمل وأنا أدعو بالعافية للعفاف ولكل مصاب من عائلة الأخلاق الحميدة والصفات الجميلة .. وهكذا غادرتهم وكلي تصميم على أن لا أنزع تلك الأكسية عن قلبي ما حييت .. إخوتي هذه قصتي مع مجلس المجد .. أتمنى أنكم استمتعتم بها واستفدتم منها ..