لا أعرفهم، سائقي التاكسي. وأحياناً لا أرى وجوههم، لكن لطفهم غمرني، خاصّة أني احتجت اللجوء إليهم كثيراً. لا أعرف أيّ مكان هنا، ولا حتّى هناك في الوطن. عانيت دوماً من فقدان الحسّ بالاتجاهات. في كل دولة الإمارات لا أعرف سوى موقع بيتنا، ومن الاتجاه ذاته فقط.
قد أقضي يوماً بأكمله في محاولة العثور على مكان ما، وأكتشف في النهاية أنه كان طوال الوقت أمامي في الشارع المقابل. ما السبب يا ترى؟ صراحة لست أدري.
واستيقظت في الليل.. كان الوقت بعد منتصف الليل بقليل فتذكرت ما مضى وكأنني في حلم اليقظة.. بينما يداي ظلتا قابضتين على الدفتر الصغير وهو يحاول جذبه مني.. تمزقت جلدته في أيدينا، فهويت بغمّي على يده أعضها.. صرخ في ألم ولطمني على رأسي.. وقفت ألهث بوجهي الشاحب المستطيل ودفتري في يدي.. نهرني أبوه من ورائه شاتماً:
منذ رآهم قادمين وهو يجري، لم يتوقف عن الجري أبداً، وما زال يمتطي المسافات لاهثاً بلا كلل.. كان الزحف المخيف يتعاظم أمام عينه كجبال تمادت وبدت تعانق سماءً سابعة، حشوداً مدججة بالتماعات السيوف والبنادق، تنتقض في غزوها الجامح، كأنها تتشب في قلب الأرض الترابية أجسادها الغليظة، تزرع في بطن الرمال آثاراً دامغة لا تنمحي.
أُحِبُّ السفرَ إلى البلدان التي لها ماضٍ عريقٌ في تاريخ الحضارةِ الإسلامية، حيث أكتشِفُ في كل رحلةٍ أموراً عدة، مدهشةً ومثيرة، ولستُ أحِبُّ ذلك لأنني آثاريّ، متخصّصٌ في الآثار الإسلامية فحسب؛ بل لأن الأمرَ أيضاً يبعَثُ فيَّ متعةً ما بعدَها متعة، هي متعة الاكتشاف..