محمد المر

سحابة صيف – محمد المر

دخل جمال إلى حجرة أخته حصة في مستشفى الولادة، شاهدها مستلقية على السرير وعلى شمالها جلست أمه وأخته الكبرى، صاحت لدى رؤيته:

  • جمال، أخي، حبيبي.

تقدم جمال ووضع باقة الزهر الكبيرة التي يحملها بالقرب من النافذة، وقبل أخته على رأسها وجبهتها، كان لونها شاحباً وظهرت علامات سوداء تحت عينيها، قال بهدوء:

  • ألف مبروك يا حبيبتي، أخبروني أنه ولد.
  • قالت بامتنان:
  • شكراً يا أخي، ما أجمل الزهور التي أحضرتها وأنت كلك ذوق وأدب وإحساس، لو سمحوا بزواج الأخوة لتزوجتك، أنت راجل كامل وعظيم.

ضحك وقال:

  • ملوك الفراعنة كانوا يتزوجون أخواتهم.

قالت ولدتها بحنق ساخر:

  • لا يوجد فرعون في هذه الدنيا إلا خالد، الزوج الذي ابتليت به هذه المسكينة.

قالت حصة بخليط من الغضب والحزن:

تصور يا جمال لم يأت خالد ليطمئن على ولادتي، كل النساء اللاتي وُلدن معي في الليلة الماضية كان معهن أزواجهن، يتعاطفون معهن ويشدون من أزرهن ويرافقوهن إلى حجرة الوضع ويحملون أحذيتهن إلى حجرة الوضع، بعد ذلك يبقون في قلق وتوتر أعصاب ودعاء وضراعة، وعندما يبشرون بالولادة لا تكاد الدنيا تسعهم من الفرحة ويوزعون النقود على الممرضات وعاملات النظافة في المستشفى، وعندما تحضر الممرضات المولود فإن الوالد يقوم بالآذان في أذنه.

  • ويصحبه وأمه إلى حجرتها ويطمئن عليها ثم ينصرف، تصور يا جمال لم يؤذن أحد في أذن ولدي!.

قال جمال وهو يحاول تخفيف التوتر:

  • لا عليكم، أنا سوف أؤذن في أذنه، أين هو؟

قالت حصة بكآبة:

  • سيحضرونه بعد قليل، أنا أعرف أن خالداً لا يحبني ولا يطيق العيش معي ولكن ابنه الأول والوحيد، كيف يتجاهله بهذه الطريقة القاسية، آلا توجد في قلبه ذرة من العطف والحنان؟!.

رد جمال مدافعاً:

  • من قال أن جمال لا يحبك، إنك تتخيلين أشياءً لا وجود لها، ثم هل أخبره أحد في الليلة الماضية بموضوع الولادة؟

انبرت الأم بالكلام وقالت بغضب محتدم:

  • ما هذا الكلام الفارغ يا جمال، إنه يعرف أن هذه الأيام هي نهاية الشهر الأخير لحمل زوجته، وعلى الرغم من ذلك فهو مقيم منذ شهر كامل مع والدته في أبوظبي ينعم بالهدوء وراحة البال.

قال جمال موضحاً:

  • والدته مريضة وتحتاج لبقائه إلى جانبها.

اشتركت الأخت في النقاش:

  • والدته عندها ستة أولاد وأربع بنات ولا تحتاج له.

قال جمال:

  • ولكنه ولدها الأكبر.

قالت حصة بأسى واضح:

  • كيف تنحاز له يا جمال ضد أختك، إنه إنسان أناني متكبر متغطرس فاقد لكل إحساس وشعور طيب، شهر كامل في أبو ظبي ولم يتصل بي إلا مرتين لكي يعنفني ويهينني ويذلني.

قال جمال ليوازن القضية:

  • يا حبيبتي أنت كنت حساسة جداً في فترة الحمل وتتضايقين كثيراً، وربما أهملت زوجك فقسى عليك قليلاً.

تحاملت حصة على نفسها واعتدلت في جلستها وانهمرت الكلمات من فمها كالسيل الجارف:

  • أنا أهملت زوجي، سنتين وأنا أخدمه بعيوني، كل صباح أقدم له فوط الحمام كالخادمة أطبخ له إفطاراً دسماً شهيا كاملاً لا يأكل إلا ربعه أعد له ملابس غاية في النظافة، غتره مكوية، كناديره مكوية، حتى إزاراته مكوية لا يخرج إلى مكتبه إلا وقد عطرته وبخرته وكأنه عريس في ليلة زفافه…

انضمت الأم إليها :

  • أنت كاملة والكامل الله يا حبيبتي، إنه لا يستأهل ظفرك.

واصلت حصة كلامها المهتاج:

  • حتى أغطية الفراش أبخرها وأعطرها، لم يذكر أكلة اشتهاها إلا وطبختها له..

الأم مرة ثانية:

  • في الحي كله لا تطبخ امرأة بمثل جودة وإتقان طبخها، هرستها مثل الشكولاتة، مرقتها ولو كانت بالخضار لبدت كأنها باللحم الفاخر عصيدتها تلحسين الصحن بعد إنهائها والله لولا الحياء لطلبت منها أن ترسل لي كل يوم من طبخها اللذيذ الفنان.

قالت حصة في استرسال:

  • أنا أهملت زوجي، عشرات الدعوات لحفلات الخطوبة والزواج وعيد الميلاد أرميها في الزبالة ولا ألبيها، أسواق جديدة ومحلات عديدة افتتحت أبوابها حاملة كل جديد ومسل لم تطأها، قدمي، حتى أمي، أمي الحبيبة هذه تمرض أحيانا فلا أتمكن من زيارتها والاطمئنان على صحتها، قريباتي وصديقاتي لا أزور هن بانتظام ولا أرد زياراتهن كما تقتضي العادة ويطلب الأدب، كل ذلك لكي أبقى في البيت لخدمته والاهتمام بشؤونه..

الأم مرة ثالثة:

  • صحيح، والله العظيم ،صحيح، لقد نسيتْ النساء أن عندي بنتاً لبقة وجميلة كالقمر ، لقد دفنها المجرم وهي حية ترزق أهال عليها التراب وحجبها عن الناس.

تابعت حصة:

  • إذا مرض أو أصيب بحمى لا يغمض لي جفن، أعلن حالة الطوارىء في البيت أقفل جميع النوافذ حتى لا تتسرب إليه لفحات الهواء البارد، أقف كالحارسة عند سريره مستعدة لتلبية كل طلباته، ولا يكاد ينطق أنه يريد الدواء حتى أركض كالمجنونة لكي أجلبه له من الثلاجة.

الأم مرة رابعة:

  • المسكينة وهو عندما يمرض يصبح مثل الكلب الأجرب الذي ابتل شعره، يئن ويتشكى من أبسط وأتفه الأسباب.

تنهدت حصة وقالت:

  • أنا أهملت زوجي، حتى شعر شاربيه ولحيته أشذبه له، حتى أظافر يديه ورجليه أقصها له إذا طالت.

دخلت ممرضة مصرية لكي تقيس الحرارة والضغط، وعندما شاهدت حالة الهياج التي تنتاب حصة قالت محذرة:

  • أنت مازلت متعبة وضعيفة من تأثير الولادة، تحتاجين لراحة تامة والا تعرضت لمضاعفات سيئة .

اغتصبت حصه ابتسامة ضعيفة وقالت:

  • لا عليك، هذه مشكلة عائلية صغيرة .

عندما خرجت الممرضة قالت الأخت الكبرى:

  • إنها مشكلة كبيرة وليست صغيرة، من الواضح أن خالداً لا يريدك

قالت الأم بغضب:

  • ليخلد في النار. ومن قال إنها تريده هذا الوغد، شوفه حزن وفراقه عيد.

تدخل جمال وقال:

  • يا أمي هدئي أعصابك الأمور ليست بهذا السوء.

تعاطفت حصة مع كلام والدتها وقالت

  • لا أريده، لا أطيقه، ليذهب إلى جهنم.

خنقتها العبرة فبكت احتضنتها أمها وقالت:

  • السافل من يظن نفسه، لقد تشرف من الزواج من ابنتي هل نسي أن جده كان بحارا في بوم جدك، وجدته التي كانت تبيع السوق وقد لبست الخرق البالية التي تزكم الأنوف برائحتها النتنة.

قال جمال متضايقا من تلك الملاحظة:

  • يا أمي لا داعي لهذا الكلام.

قالت أمه بغضب:

  • لابد أن تكشف الحقائق، يجب أن يعرف من هو ومن نحن. دخلت الممرضة الهندية وهي تدفع العربة التي وضع فيها الطفل بلفافته الزرقاء، وضعته بالجانب الأيمن من السرير، تحلقت حوله الأم والجدة والخالة، وانهلن عليه بقبلاتهن وتعليقاتهن : ( فديته .. ما أحلاه….. حصنتك بالله … آية الكرسي … المعوذات… حبيبي… الغالي … عيوني … غناتي …. ما أجمل عيونه … ما أروع أنفه… شعره مثل الحرير … كتكوتي… كشكوشي… شكوني… ما أعذبه مثل القطة البيضاء الصغيرة..).

قال جمال

  • إنه يشبه والده.

احتجت حصة:

  • لا ، إنه يشبهك المثل يقول الولد يطلع على خاله. يتقال عليه حنيه

قالت أختها:

  • إنه لا يشبه والده ولا يشبه خاله، إنه أجمل من كليهما، فديته ما أجمله.

قالت الأم باستياء:

  • أين والده المنحط، هل يترك أحد هذه الهبة السماوية العظيمة.

فجرت الأخت قنبلتها فقالت:

  • لابد أنه معها

تساءلت الأم:

  • من هي ؟

قالت الأخت بيقين ثابت:

  • قريبته من أبوظبي التي كان قد خطبها قبل زواجه من حصة.

قال جمال:

  • ولكن عائلتها رفضته وانتهى كل شيء.

قالت الأخت وهي تؤكد المعلومة التي ذكرتها :

  • ما زالت لم تتزوج حتى الآن وقد توفي والدها مؤخرا وورثت أموالاً طائلة وعمارة كبيرة، وزيارات خالد المتكررة توضح وتكشف كل شيء.

قالت حصة بغضب:

  • ليذهب إليها ، لا أريده، لا أريده.

بكت بنشيج مؤلم، قال جمال:

  • هوني عليك يا أختي لا تبكي، كلنا نحزن عندما تبكين.

قالت وهي تحاول مغالبة دموعها :

  • أنا آسفة… لا أقدر على منع نفسي من البكاء … أنا تعبانة بعد الوضع لم أسترح … طيلة الليلة الماضية لم أنم… جارتي في الحجرة المجاورة كانت تصرخ طيلة الليل … زارها عدة أطباء ولم تتوقف عن الصراخ… حجرتي بالقرب من مكتب الممرضات … أزعجنني بثرثرتهن حتى طلوع الفجر … قلبي يؤلمني .. يؤلمني بشدة… لا أحتمل الألم…. سوف أموت … سوف أموت.

احتضنتها أمها وأمطرتها بالقبلات وقالت بحنان فائق:

  • بسم الله عليك، إنشاء الله يموت عدوك يا حبيبتي، إنشاء الله يموت الذي يكرهك يا نور عيني..

واصلت حصه بكاءها، وقالت مخاطبة جمال وقد اضطرب كلامها:

  • لا أريد خالداً … لوجاء لزيارتي لسببته وأهنته… سوف أطرده مثل الكلب… إنه لا يستأهل هذا ..الولد… هذا الجوهرة… إنه إنسان حقير …سافل.. منحط .. أنت أخي الحبيب… ستساعدني في تربية ولدي… ستشتري له الحلوى وتأخذه إلى محلات ..الألعاب ستكون ولي أمره في المدرسة.. ستشرف على تعليمه.. ستأخذه إلى الطبيب إذا مرض.. يا إلهي.. ماذا قول .. انه ابني.. أنا سوف أربيه بنفسي.. لن أحتاج لأحد.. ولن أجعله يحتاج إلى أحد .. سأنذر كل حياتي له.

توقفت عن الكلام ووضعت وجهها في صدر أمها واستسلمت للعبرات الغزار مجهشة بالبكاء المسموع.

نظر جمال إلى أخته الكبرى التي كانت تأكل الكيك الذي أحضرته الممرضة لحصة ،فلم تلمسه، وقال لها بغضب :

  • هل رأيت نتيجة عملك؟

مسحت فمها وقالت ببلاهة:

  • أنا لم أقل شيئا.
  • لم تقولي شيئا ، وتلك القصة المختلقة عن خطيبة خالد السابقة.
  • إنها حقائق، لماذا تريد أن تتجاهلها شهر كامل لا يزور زوجته ولا يأتي ليحضر ولادتها ويهينها في التلفون، صديقاتي من أبوظبي كلمنني عن كل علاقاته .
  • هذه ثرثرة سخيفة لنساء فارغات.
  • لا تغلط علي ، أنا أكبر منك.

أراد أن يرد عليها بكلام حاد، ولكن خالداً دخل في تلك اللحظة، كانت في يده وردة حمراء كبيرة ، دهش الجميع.

مسحت حصة دموعها بسرعة، أرادت إصلاح شعرها وثوبها، وقالت في اضطراب:

  • خالد، لقد أتيت !!

قال وهو يبتسم:

  • نعم يا حبيبتي ، لقد كنت اسوق بسرعة كبيرة حتى أن الرادار أمسكني ثلاث مرات في دبي وأبوظبي هذه ستكون المرات القليلة التي سأدفع فيها غرامة الرادار وأنا سعيد ، هل أنت بخير؟.

أشرق وجهها بابتسامة عريضة أزالت جانبا من شحوبه، وقالت:

  • أنا بخير يا حبيبي، لقد اشتقت إليك كثيرا . قبلها على خديها وجبهتها ، وضع الوردة الحمراء في الكأس التي على طاولة السرير وقال :
  • أين هو ؟

قالت وهي تشير إلى طفلها بلفافته الزرقاء:

  • إنه نائم أليس جميلا؟ .. أنه يشبهك، حبيبي سألوني إذا أردت أن يختنوه اليوم أو ننتظر حتى يكبر ، لم أجاوبهم، أردت أن أستشيرك..

ما تقول ؟

اندمج الزوجان في حديث حنون هامس، أرادت الأم أن تقول شيئا ، ولكن جمال سحبها وأخته، وخرجوا جميعا من الحجرة الصغيرة وأغلقوا الباب وراءهم.

قصص قصيرة من “ مجموعة سحابة صيف”  الصادرة عن ” البيان  ” -دبي