جمعة فيروز

قَبْلَ البارحةِ

… ربما استثني ما يشبه الخلاص في حقيقتي!!

ربما أرنو إلى واقع لا أدري، أيكون في صالحي أم لا؟!

… ما أتعسني!..

ما أتعس الإنسان حين يخيّر بين الحياة أو الموت!!.. وما أتعس الإنسان حين يطارده شبح الخوف في كل لحظة!!.. إنه شعور يداهمه.. يمد حاجزاً بينه وبين العالم الخارجي. أحس في داخلي شيئاً يتحطم بسرعة.. وقد سرت أفكاري تغالط أفكاري الغريبة علماً أنها عالمي الذي أسرح فيه.. كان يطغى عليَّ شيء أن أحطم كل شيء.. حتى ذاتي.. ولكن عزمي لم يهن قطعاً، بل جعلته طوع إرادتي.. بيد أن الهواجس المريبة لنفسي تمنحني الشيء نفسه.. كلما تدفقت الدماء في عروقي، وكلما شاعت في وجهي أحسست بالحرارة.. حرارة غير عادية تسري في كياني!!

… قبل البارحة.. كانت تلوح في الأفق البعيد بوادر أفكار.. ربما عاصفة توشك أن تمزق صمتي.. أن تشق ستار السكون الذي يخيّم على الكون في تلك الليلة.. ولم تنسلخ بضع دقائق حتى طفق لونها يستحيل إلى كتل رمادية قاتمة.. انقبضت نفسي.. كانت تدنو كالحة، تتسارع عبر السماء. «في البدء نسمة باردة غربية.. كنت أحسها وهي تنتهك حرمة الأشجار الوادعة، تبعث في أوصالها حشرجة وصخباً منفرداً..»، نسمة يحدوها الانتقام والدمار.. تتدفق في جنون، يصحبها أسراب من البوم بشكل يثير الغرابة والقرف!!

… كان تراجع الأفكار المعلقة بالثريا.. بروز حزم الضياء الباهتة.. متعبة كأنها تسحب نفسها من أعماق الكراهية. فاكتنفت النفس عتمة خاملة.. صارت تتلوى.. تموج.. تكاد تفقد اتزانها تحت وطأتها.. غدت محمومة حد الهذيان.. لا تستطيع فهم ما هي عليه.. الأزقة يطوقها الركود اللزج.. ولكأنها تستعيد

بقايا شجاعتها.. وعزتها وكرامتها!!

… كنت أمضي – غير آبه – تعبث بي مشاعر شتى.. مبهمة، جميعها تلتقي في نقطة واحدة: ألمي كآبتي ويأسي.. وفوق صدري جثم الوهم والضياع.. لم يغادرني إيماني، وقد جفت شفتاي، وكلما بللتهما بلعابي، أحسست ريقي مراً.. لاذعاً!!

وترتد الأزقة إلى الخلف.. تنسحب كل الأضواء كابية بجبن، وفي البعيد تتصاعد أصداء نباح الكلاب.. كان الليل قبل البارحة!!

… الإصرار يطوقني على مواصلة الحياة.. رغم مطارق الظلم فوق رأسي تتهاوى. صارت كل أعصابي مشدودة، كل عضلات جسمي متوترة.. متحفزة!! ثمة ضوضاء عالية.. أصوات تحطيم، تكسير، ارتطام، تسمع عن كثب وبين حين وآخر أثب مذعوراً، أصرخ، البيوت في الزقاق حيث أقبع.. تتلفع بظلمة كالغبش.. بيد أن همهمات ساكنيها وتأوهاتهم تخترق الآذان!!

… أجيل بطرفي.. لا أرى سوى أشباح تعدو هنا وهناك.. تنسرب بين الأزقة تجتاز أروقة المنازل.. تغمغم، تهذي، وأنا لا أكاد أميز لها صوتاً.. الأصوات كلها أصبحت هذياناً، صراخاً، لا سكون بعد ذلك!!.. أوار النسمة ما فتئ يضرم في نفسي.. الإصرار، أوقد العزم.. فيما كنت أقهقه ضاحكاً بعصبية، ألعن، أبصق عيناي تتوهجان بالغضب.. أحسست وجهي قد اعتكر، انفرطت منه حبات السكينة، فغدوت أتساءل في دهشة وحيرة أين مني أنتم؟!.. مغاوير، مغامرون، ما أتعسني، ما أتعس المصير حين لا تستطيع أن تلقى ظالمك وجهاً لوجه، لتقتحم عنته، تسحق اعتسافه، أترانا.. نصل إلى مرسى؟!.. نبلغ شاطئاً آمناً.. إنني لا أدري لماذا أتذكر كل ذلك وفي هذه اللحظة بالذات.. وعلى حين غرة، أي عمر هذا الذي يحلو! فكرت بحزن تراجعت أمامي حفنة السنة كلمح البصر.. إذن مازال الدرب طويلاً متعباً، شاقاً، أديم الأرض بدا كأنه قطعة من القطيفة الحمراء اكتست بها الأزقة الأفعوانية.. وغدا ذلك الأسفلت يحتل مكانه في المنعطفات الأخرى رائحة الجو صارت تعج بالدخان وروائح عفنة تعافها النفس، تصاعدت إثر عاصفة وحشية مفاجئة!!

… سرعان ما أثب إلى نفسي حنقاً، مهتاجاً، أنطوي على الإصرار ذاته فقد ظل صوت الفراق.. السنة الحبلى بألوان المعاناة تهرسني كهرس الرحى وبجسدي الأسمر.. ما انفككت أرتاد فجاجاً وعرة، ومنعرجات شائكة تغوص قدماي في الوحل، تتنمل، ولا أعبأ بشيء.. صرت أستمرئ الألم الدفين.. هدّني

البحث عن شيء ما.. ولكن دون جدوى!!

… ثمة خيوط دموية قانية بين أكداس من الحطام، تنساب فوق حبات التراب، تفور فيها.. تشق لها خطوطاً جلية.. تمتزج مع رائحة الأرض، تروي الأرض الظمأى مثلما يرويها الماء الرائق.. إنها دمائي، عرفاناً للأرض.. حينما انتحرت قبل البارحة!!

قَبْلَ البارحةِ – من المجموعة القصصية (علياء وهموم سالم البحار)