هذه القصة رُويَت بصيغتيْن، الأولى جاءت على لسان شابٍّ متخصِّصٍ في علم الآثار الإسلاميّة، وذلك في أثناءِ إحدى رِحلاتِه، والثانية جاءت على لسان شابّةٍ رومانيّة، بصيغةِ الراوي العليم. فلنبدأ بالصِيغةِ الأولى للقصة:
الصِيغةُ الأولى
أُحِبُّ السفرَ إلى البلدان التي لها ماضٍ عريقٌ في تاريخ الحضارةِ الإسلامية، حيث أكتشِفُ في كل رحلةٍ أموراً عدة، مدهشةً ومثيرة، ولستُ أحِبُّ ذلك لأنني آثاريّ، متخصّصٌ في الآثار الإسلامية فحسب؛ بل لأن الأمرَ أيضاً يبعَثُ فيَّ متعةً ما بعدَها متعة، هي متعة الاكتشاف، والاعتبار بذلك الاكتشاف، وكنتُ دائماً ما أخبرُ زوجتي عن تلك الرحلات، وما أكتشِفهُ فيها. من ذلك مثلاً أنني أخبرتُها بأنني شاهدتُ في أحدِ المتاحفِ مُنمنمةً إسلاميةً قديمة، تحوي صورةَ مُمرِّضةٍ تُجري عمليةَ فَصدٍ لأحدِ الملائكة الذين نزلوا إلى الأرض، وكان الدمُ الخارِجُ منه ماءَ وَرد، تجمّعَ مُنهرِقاً في إناءٍ صغيرٍ من الفضة، فعَجِبَتْ زوجتي مما ذكرتُ، وقالت:
– مع ذلك، كيف عرفتَ أنها مُمرِّضة؟
– كل شيءٍ مكتوبٌ يا عزيزتي، كل شيءٍ مكتوبٌ على أطرافِ المُنمنمة، فالمُنمنماتُ والتصاويرُ العربيّة ارتبطت بالنثر العربيّ، كما ارتبطت الأغاني والموسيقا العربيّة بالشِعر العربيّ، إن الأولَى تُجمِّلُ الأول، والثانيةَ تُجمِّلُ الثاني.
وهكذا مرةً بعدَ أخرى، كنتُ أقولُ لزوجتي الكثيرَ المُغريَ بتجرِبةِ زيارة تلك البلدان، الأمر الذي أشعلَ نوعاً من الحماسةِ في نفسها، ورغبةً جادّةً منها في مرافقتي في رحلتي القادمة، وهكذا كان، فأخذتُها إلى مدينةٍ أزورُها أنا نفسي لأول مرة، لكنني كنتُ أعلمُ بأنها كانت من عواصِم الإسلام في العصور الغابِرة، وهي مدينةٌ لا أملِكُ من الكلمات ما يَفي بوصفِ جمالِها، إلا أن أجملَ ما فيها كان جامعاً، رأيناهُ ونحن في طريقِنا من المطار إلى الفندق، إذ لم أرَ في حياتي جامعاً قدرَهُ ضخامةً وجَلالاً، ولحُسن حظنِّا كانت المسافةُ بين ذلك الجامع وفندقِنا قصيرة، فقررنا زيارَته في يومٍ من أيام الرحلة، وبعد أن استرَحنا، وتجوّلنا في بعض نواحي المدينة، أخذني شوقٌ إلى رؤيةِ ذلك الجامع، فقصدتُ وزوجتي إليه، وما إن اقتربتُ منه حتى تملّكتني روعةُ عمارتِه، وجمالُ تصميمِه، إذ كان جامعاً عظيماً، “مونوليثيّ” الشكل، ذا قُبّةٍ فيروزيّةِ اللون، غير عاديّةِ الحجم أبداً، حتى خُيِّلَ إليَّ أن فيليبو برونليسكي قد زارَ هذه المدينة يوماً، فصنعَ قُبّةَ هذا الجامع، لكنّ ذلك مستحيلٌ طبعاً، فهذا الجامعُ بُنيَ حديثاً بلا شك، إذ ما زالَ عُمّالٌ – كما رأيتُهم – يعملون فيهِ تشطيباً، ثم إن المعماريّين المسلمين كما خَبِرتُهم قد لا يقِلّون مهارةً عن برونليسكي، ولعلّ هذا الجامعَ شاهِدٌ على ذلك؛ إنْ كان الذي بناهُ مُسلِماً.
إن ما لفتَ انتباهي هو أن لهذا الجامع مِئذنةً واحدةً فقط، لكنها أيضاً، والرأيُ يُقال؛ عن ألفِ مِئذنةٍ أخرى، إذ إنها مَلْويَّة، ترتفعُ عاليةً في السماء، تكادُ تنطحُ السحاب، وأما أنا.. آه، لقد سُلِبَت نفسي بجَمالِ هذا الجامع وعظمَتِه، ورأيتُ مثلَ ذلك على مُحَيّا زوجتي، التي أصبحت مذهولةَ العقل بما رأت على جوانب الجامع وأركانِه، إذ لا يكادُ موضِعُ إصبعٍ منه يخلو من الزخارفِ البديعة، والألوان الجميلة، والآياتِ المكتوبةِ بنوعٍ عجيبٍ من الخط العربيّ، لم أرَ مثلَهُ من قبل، وكانت الزخارِفُ تنحو نحوَ التضادّ في الشكل، وتجتمعُ التضادّات لترتفعَ مع ارتفاع البناء حتى تنتهيَ إلى أعلاه، وبعد ذلك لا شيءَ يُرى في الأعلى سوى مِئذنةِ الجامع المَلْويَّة، وقُبّتِهِ الفيروزيّةِ الضخمة. إنه جامعٌ عظيم، وحقاً لم يكن كمثلِهِ أيُّ جامعٍ رأيتُهُ في حياتي، لا في الشرق، ولا في الغرب، ولا حتى في مدينتي الخليجيةِ الراقية.
كنتُ أتساءل: إذا كان الجامعُ هكذا من الخارج، فكيف هو من الداخل؟ وأردتُ الدخولَ لإتمامِ لذّةِ الاكتشاف، فاتجهتُ مع زوجتي نحوَ البابِ الكبير المُزخَرفِ باُبَّهَةٍ ظاهِرة، وفي أثناء ذلك رأيتُ مجموعاتٍ من العُمّالِ جالسينَ مستندينَ إلى الجوانبِ والأطراف، وإلى جدار المدخل، وكان يبدو عليهم الإعياءُ الشديد، وحين وصلنا إلى البابِ الكبير، وحاولنا الدخولَ، وجدناهُ مُقفلاً، فتوقفنا قليلاً، لا ندري ما نفعل. ومن بين العُمّال الصامتين بتعَب، نهضَ أحدُهم ليُشيرَ لَنا إلى البابِ الكبير، ويتفوَّهَ بكلامٍ لم نفهم منه شيئاً، فنظرَت زوجتي إليَّ مستفسِرة، ونظرتُ إليها وأنا أرفعُ كتِفيَّ لعدَم الفهم، واستدَرنا كي نغادِرَ المكان، لكننا فُوجِئنا برجلٍ كان يقفُ خلفنا وينظرُ إلينا، مُهَذَّب المَظهَر، يرتدي ثياباً أوروبيةً رسمية، ولكنه من أهل هذه البلاد كما هو ظاهر. ابتسمَ الرجلُ ابتسامةً مُصطنعة، وقال بإنجليزيةٍ متواضعة:
– الجامع لم يُفتتح بعد، حفلُ الافتتاح بعدَ غد.
– حفلُ الافتتاح؟!
– نعم!
اضطربتُ قليلاً، لأنني لم أسمع من قبل بأن الجوامعَ تُقامُ لها حفلاتُ افتتاح، ثم قال الرجل في جِدّيّةٍ ظاهرة:
– إن السيّدَ الذي بنى هذا الجامعَ العظيمَ يريدُ لهُ افتتاحاً يليقُ به.
فاستدركتُ على انطباعي الأول قائلاً:
– نعم، نعم بلا شك، فهذا جامعٌ عظيمٌ حقاً، ما شاء الله، إنه يستحق، ولكنْ..
نظرَ الرجلُ إليَّ في استفهام، فقلتُ:
– ولكنّ الجامعَ لم تنتهِ تشطيباتُهُ بعدُ كما أرى، فكيفَ سيُفتتحُ بعدَ غد؟
نظرَ الرجلُ إليَّ نظرةً أخرى، ثم قال مبتسِماً:
– إن السيّدَ لا يُريدُ تفويتَ المناسبة، فبعدَ غدٍ يُصادفُ ذكرى الإسراءِ والمِعراج، ولذلك فإن الافتتاح سيجري بالرَغم من عدم انتهاءِ أعمال التشطيب.
– آه صحيح، بعدَ غدٍ تحِلُّ ذكرى الإسراءِ والمِعراج.
رسمَ الرجلُ ابتسامةً صغيرةً على فمِه، وكادَ أن يسألني مِن أينَ نحن، لولا أنني قاطعتهُ بسؤالي عن اسم السيّدِ الذي بنى هذا الجامع، فقال:
– إنهُ السيّدُ صاحبُ الخير، “المَلتي ملياردير” أحمد تقي زاده.
– آه.. نعم، لا شك في أنه مُحسِنٌ كبير، بالِغُ الكرَم..
– سيأتي السيّدُ بنفسِهِ لافتتاح هذا الجامع. إنك محظوظٌ إذا بقيتَ هنا إلى يومِ ما بعدَ غد، إذ ستشهدُ هذا الحدثَ العظيم.
ثم استدرَكَ قائلاً:
– إن شئتَ طبعاً.
قلتُ مبتسِماً:
– نعم نعم، بالتأكيد، إني أرغبُ في ذلك حقاً، أنا وزوجتي.
وأشرتُ إليها، فابتسَمَتْ في دهشة، ثم عدتُ لأسألَ الرجل:
– عفواً، ما اسمُك؟
– نوح نجاتي مُراد.
– تشرّفنا.
وحين لم نجِد ما نقولُ زيادةً على ذلك، ودّعناه أنا وزوجتي، وتوجّهنا إلى فندقِنا عابرَيْنِ بأولئك العُمّالِ ذوي الملابس الرَّثة، الذين كان يبدو عليهم الإعياءُ الشديد، مستندِين إلى واجِهةِ الجامع، وهم ينظرون إلينا في سُكونٍ يُثيرُ الشفقة.
اليومُ التالي كان رائعاً، إذ تعرّفنا إلى بعض أفضل مطاعم ومقاهي المدينة، وتناولنا إحدى وجباتِهم الشعبية؛ هي لحمُ الخيل المُحمَّرُ في الفُرنِ مع شرائح البطاطس بالزُبدة، وقضينا وقتاً ممتعاً في أسواقِ المدينة، وفي أحدِ متاحِفِها، كما حضرنا في أول المساء عَرضاً موسيقياً لفرقةٍ صوفية، كانت موسيقاها عذبةً تُخدِّرُ الألباب. ثم عدنا إلى الفندق، وعلى الفِراش، لاحظت زوجتي في الظلام النسبيّ أنني لم أُغمِض عينيّ، فقالت:
– مالَكَ تنظرُ إلى السقف، هل ترى آثاراً إسلاميةً أيضاً في هذا الفراغ؟
وضحِكَتْ ضحكةً صغيرةً شهيّة، فقلتُ لها باسِماً:
– لا لا، الأمرُ أنني أفكر في ذلك الجامع العظيم، إنني أرغبُ حقاً في رؤيتِهِ من الداخل، كيف هو؟
وسكتُ، ثم قلت:
– كما أنني أرغبُ في رؤيةِ ذلك السيّدِ الذي بناه.
– كي تراهُ من الداخل أيضاً؟
وأطلقت ضحكةً أخرى شقيّة، لكنّ سؤالَها الأخيرَ كان واقِعاً في نفسي من قبل، وحامت عليَّ غيمةٌ من التأمّلات، قَطَعتها زوجتي بسؤالِها:
– ما بك؟
– لا أدري، ولكنْ.. منظرُ العُمّال أثارَ استغرابي، ألَم تَرَيْ كيف يُثيرون الشفقة؟
– نعم، ولكنّ هذا بلا ريب من آثارِ العمل الشاقّ في هذا البناء الضخم!
– يبدو أنها أكثرُ من مُجرّدِ آثار..
وعُدتُ إلى تأمّلاتي وأنا أنظرُ إلى السقف، فقالت زوجتي:
– أظن أنك بحاجةٍ إلى حبةٍ مُهدِّئةٍ كي تتمكنَ من النوم. لقد أحضرتُ معي علبةً منها إذا كنتَ تريد.
– لا، سأنامُ الآن، فالأمرُ لا يستحق.
– حقاً؟
قالت ذلك في تهكُّمٍ لطيف، وغطّت نفسَها جيّداً لتنام، ثم غلَبني النعاسُ أيضاً فنِمت، وفي المَنام حلِمتُ بأولئك العُمّال الذين كانوا يعملون في الجامع، ولكنهم في رؤيايَ كانوا كثيرين جداً، يكادون أن يَسُدّوا الأفق. رأيتُهم يبكون، ولكنْ بابتِسام، وكانوا جالسين على الأرض، لا يستندون إلى شيء، والعَرَقُ – مع ذلك – يتصبَّبُ منهم، ثم يتحولُ إلى دمٍ أسودَ عليه غبارٌ رماديٌّ خفيف، يرسمُ زخارفَ على وجوههم وأذرعتِهم.
حين قصَدتُ مع زوجتي في ضُحى اليوم التالي إلى ذلك الجامع الكبير لحضور حفل افتتاحِه، كان همّي الكبيرُ بهذه المناسبة أن أرى ذلك السيّدَ الذي أنفقَ تلك الأموالَ الطائلة من أجل بناء هذا الجامع، وكانت زوجتي تريدُ أن تعرفَ حقاً لِمَ كنتُ مهتمّاً برؤيةِ صاحبِ الجامع.
– أَلَن تُخبرَني؟
– بلى، ولكنْ.. في الواقع، هو ليس أمراً مُهماً.
– لم أكن أعلمُ بأن الأمورَ “غيرَ المُهمّةِ” تُهِمُّك!
– ماذا؟ آه.. نعم.
وضحكنا معاً ضحكاً لطيفاً، قدرَ لطافةِ الحديقةِ التي كنا نمشي بحِذائِها، وقالت زوجتي:
– البارحة قلتَ لي أن الأمرَ لا يستحق، والآنَ تقولُ لي إن الأمرَ ليسَ مُهماً، فهلّا أوضحتَ لي؟
لم أُجِب، لكنني ابتسمتُ، وأمسكتُ بيدِها في لُطف، وجَدَدْتُ في السيْر كي تُجِدَّ هي معي، ولكنْ حينَ اقتربنا من الجامع، عادت زوجتي لتقولَ باسِمةً:
– ها.. أَلَن تُخبرَني؟
– في الواقع.. ماذا أقول؟ إن الذي أثارَ اهتمامي هو..
قاطعتني قائلةً وهي تبْسِم:
– تقصِدُ اهتمامَكَ “الكبير”.
– هه.. نعم، اهتمامي الكبير، صحيح. أعني انظري إلى ذلك التناقض الصارِخ..
لم أُكمِل كلامي، فقد حصلَ شيءٌ رهيبٌ على مَقرُبةٍ مِنّا، إذ سمِعنا صرخاتِ خوفٍ قويةً تخرِقُ الجَوّ المُحيط، ثم أصواتَ ارتطاماتٍ خافتة، وكانت تلك الأصواتُ جميعُها صادرةً من الجانب الآخَر من الجامع كما ظنّنا، لكنه كان أقربَ إلينا من بقية الجمهور، الذي تجمّعَ أمامَ مدخل الجامع لشهودِ الافتتاح، فهُرِعنا إلى تلك الناحية التي جاءت منها الصرخات، حيث علِمنا بأنّ ثلاثةَ عمّالٍ قد سقطوا من أعلى مِئذنةِ الجامع أثناء أعمال التشطيب، وقد رأيتُ جُثثَهم، كما رأيتُ بقايا البناء التي سقطوا عليها ومزقّت أجسادَهم، فحجزتُ زوجتي من الاطلاع على الجُثث، بالرَغم من أنها تعملُ مُمرِّضة، ذلك لأن مَنظرَها – أعني الجُثثَ – كان فظيعاً مُريعاً، حتى إنني لم أُستطِع تَكرارَ النظر إليها، ثم جاء جمهورٌ من الناس لرؤيةِ ما حدث، فأمسكتُ بيَدِ زوجتي، وعُدنا أدراجَنا إلى جهةِ الشارع العام وأنا أنظرُ إلى مِئذنةِ الجامع، التي ترتفعُ عالياً، وتختفي قِمّتُها في الضَبابِ البارِد، ولم يُزعِجني شيءٌ بعدُ غيرُ الصمتِ المُطبِق الذي خَيَّمَ على موقِع الحادث، إنهُ صمتٌ قاتِل، إذ لم يتحرك أحدٌ لطلبِ إسعافٍ أو نحوه، لا من العُمّال، ولا من بقيةِ جمهور الحاضرين، حتى إن مَن يظهرُ عليهم أنهم إعلاميّون حضروا لتغطيةِ خبر الافتتاح لم يقوموا بأيّ شيء سوى فَغْرِ الأفواه، وعُدنا أنا وزوجتي نحوَ الفندق، وقد حانَت منّي التفاتةٌ إلى الخلفِ وأنا أسير، فرأيتُ نوح نجاتي مُراد ينظرُ إلينا دون أيِّ تعبير، والشيءُ الوحيدُ الذي لم أرَهُ في هذا الصباح هو أحمد تقي زاده، أو السيّدُ صاحبُ الجامع.
تأجّلَ افتتاحُ الجامع إلى ما بعدِ صلاةِ الجنازة كما علِمنا، فلم نجد بُدّاً من قضاء بعضِ الوقتِ في المدينة، والحقُ أنهُ كان أمراً جيّداً، فقد أنساني منظرَ الجثثِ الممزقةِ إلى حِين. وحين عُدنا مساءً إلى الفندق، مررنا بالجامع العظيم الصامت؛ الذي كان – ولا أدري كيف – يزدادُ ضخامةً في نظري يوماً بعدَ يوم، لكنّ الذي لفتَ انتباهي هذه المرة هو طريقة توزيع إضاءاتِ مصابيحِه الحديثة التي أراها لأول مرة، إذ إنها تتجه من المستوى الأفقيّ إلى الأعلى، مُنيرةً الأبعادَ الجَويّة للجامع، مُظهِرةً زخارِفَه نادرةَ الجَمال، ثم ترتفع الأنوارُ نحوَ السماء، ولا يُضيءُ الأرضَ، أو الساحاتِ المُحيطةَ بالجامع سوى إناراتِ الشارع الخافِتة. الأمرُ الآخَرُ الذي لفتَ انتباهي أيضاً هو خُلوُّ المكان من العُمّال، وأعلمُ أن هذا الأمرَ اعتياديٌّ في وقتِ المساء، لكن يبدو أنني – على نحوٍ ما – قد تعوّدتُ على رؤيتهم حولَ الجامع خلال الأيام السابقة، بإعيائِهم الأبديّ، وسكونِهم الدائِم.
كانت زوجتي تسيرُ معي في صمت، ولعلها لم تشأ أن تقطع عليَّ تأملاتي، لكنْ ليتَها فعلت، ففي هذا السكون المسائيّ خُيِّلَ إليَّ أنني أسمعُ صدى صرخاتِ العُمّال الذين سقطوا، وتذكرتُ منظرَ الجثث، ولم أعد أحتمِلُ هذا السكون، فهَمَمْتُ بالحديثِ مع زوجتي، إلا أن منظرَ شخصٍ خرجَ إلينا بهدوءٍ من الظلام فجأةً قد أرعبني للحظة، ثم أظهرَ نورُ الشارعِ الخافتُ ظهرَهُ المُتحدِّب، ووجهَه جامِدَ التعبير، وعينيْهِ المتعبتيْن اللتيْن كان ينظرُ إلينا بهما. إنهُ أحدُ أولئك العُمّال، واستغربتُ وجودَهُ في هذه الساعةِ وفي هذا البَردِ بثياب العمل الرَّثة، ولم يكن ظِلُّ الرجلِ أفضلَ حالاً منه، فقد كان خافتاً بسبب خُفوتِ النور، وبَدا لي ظِلُّهُ الواقعُ على الأرض كأنهُ جثةٌ أخرى، فهَززتُ رأسي بسرعة كي أطردَ خيالاتي، ورفعتُ يدِي مُحيِّياً، ومُسلِّماً:
– السلامُ عليكم ورحمةُ الله.
ردَّ وهو يَهزُ رأسَهُ في تواضع:
– وعليكم سلام.
وكان ذلك الردُّ الكلامَ العربيَّ الوحيدَ الذي نطقَ به، ثم أخذ يتحدثُ بلُغتِهِ عن أمرٍ ما، مُشيراً إلى نفسِهِ ثم الجامع، ففهِمتُ أنهُ هنا لحراسةِ الجامع، أو شيءٍ من هذا القبيل، ثم سَكتَ وهو ينظرُ إلينا، وعندَها تذكرتُ شطيرةً اشتريناها من أحد المطاعم، ولم يتناولها بعدُ أحدٌ منّا، فاستأذنتُ زوجتي في تقديمِها له، فرحّبت بالأمر، وأخرجَتها من الكِيس، وأعطتها للرجل الذي هَزّ يديه ممتنِعاً، لكنني أقنعتهُ بأخذِها، فأخذ الشطيرةَ بكلتا يَديه، وأومأ بجسدهِ في شِبهِ ركوعٍ نحوَنا، فبَرَزت حدبةُ ظهره، ومددتُ يدي إليه كي لا يُبالغَ في ذلك، وشعرتُ بأن تقديمَ الشطيرةِ فقط لم يُرضِني، فمددتُ يدي إلى جيبي، وأخرجتُ المحفظة، وقدّمتُ لهُ مبلغاً من المال، فأظهرَ امتناعاً أكبرَ من ذي قبل، لكنني أمسكتُ بإحدى يديه، ووضعتُ فيها المبلغ، وشددتُ عليها وأنا أبسِمُ له، فنظرَ في عَيْنيّ، ثم قبّلَ يدي، وأراد أن يضعَ جبهته عليها كمَن يسجد، فسحبتُ يدي بسرعة، ولأنه لا يعرف العربية ولا الإنجليزية؛ كما أنني لا أعرفُ لغتهم؛ ولأنني أيضاً أعلمُ أنهم يعرفون بعضَ الكلام الفارسيّ القديم؛ قلتُ له بصوتٍ مسموعٍ جيداً، وأنا أخشى من الخطأ في اللغة:
– من خُدا نيستم.
أي: أنا لستُ ربَّ العالَمين، وأشرتُ بإصبعي إلى السماء إشارةَ نفي، لكنّ العاملَ تأثرَ كثيراً بكلامي هذا كما بَدا على مُحيّاه، ثم دمعت عيناه، وشَرَعَ في بكاءٍ مَريرٍ لم أجد لهُ تفسيراً، فضممتُهُ إليَّ، ورَبَّتُ صدرَهُ تربيتاً كي يهدأ، وقد تقاطَرَت دموعُهُ الدافِئةُ في يدي، ولم أعد أحتمِل، فجذبتُ يدَ زوجتي ومضيْنا إلى الفندق، وقالت زوجتي:
– يا له من رجلٍ مسكين!
– لقد ندِمتُ على موقِفي معه.
– لماذا وقد أحسنتَ إليه؟
– لقد بعثَ فيَّ ألَماً.
– كيف؟
– لا أدري، هو شعورٌ غريب؛ أنْ ترغبَ في مساعدةِ مَن تبعثُ حالتُهم فيك الألم، لكنك تُفاجأُ بأن ألمَك يزدادُ بعدَ مساعدتِهم.. شعورٌ غريبٌ حقاً.
– حبيبي!
– أينَ صاحبُ الجامِع عنهم؟
وحين دخلنا إلى غرفتنا في الفندق قالت زوجتي:
– أتعلَمُ أن هذا الشعورَ الغريبَ يحدثُ لنا أحياناً نحن المُمرِّضات؟ أو على الأقل أنا، فإن السعادةَ التي قد تطرأُ بمساعدةِ مريضٍ ما، قد يعقبُها أحياناً شيءٌ من الشعور بالألم نحوَه فعلاً.
وابتسمت لي في رقّة، فبادلتُها الابتسام، وبِتنا ليلَتنا، وفي الصباح قالت لي إنها ستقضي اليومَ في الفندق، لحاجتِها إلى بعض الراحة، ولحَزم بعض الحقائب، فقد اقتربَ موعدُ سفرِنا، ثم قالت:
– قد لا أستطيعُ حضورَ افتتاح الجامع.
– لا بأس.
– وماذا عنك؟
– لا، لم يعُد الأمرُ مهمّاً.
وتركتُها تهتمُّ بشؤونِها، وخرجتُ من الفندق إلى الشارع، حيثُ حِرتُ في أمري؛ إلى أينَ أذهب؟ ونظرتُ في ساعتي، فإذا هي العاشرةُ والنصف صباحاً، فتمشّيْتُ قليلاً على غير هُدى، لكنني انتبهتُ بعدُ إلى أنني في طريقي إلى الجامع، فرفعتُ رأسي أنظر، فرأيتُ حشداً كبيراً من الناس يخرجون منه، ثم خرجَ رجلٌ يُحيطُ بهِ احترامُ الناس وتَهيُّبُهم، فعرفتُ فيه صاحبَ الجامع، السيّد أحمد تقي زاده، وأنعمتُ النظرَ فيه، فإذا هو رجلٌ يبدو عليهِ الوَقارُ والصَلاح، ثم ركبَ سيارتَهُ، فانطلقت به إلى حيثُ يعلمُ الله، وسَعيتُ إلى مدخل الجامع، وأنا تعصِفُ بذهني أفكارٌ مختلِفة، وحين وصلتُ رأيتُ عدداً من الناس، من العُمّالِ وغيرِهم، يمدّون أياديَهم إلى زخارفِ الجامع، ثم يمسحون بها صدورَهم، ورأيتُ بعضَهم يتمسّحُ أيضاً بالحلقاتِ الذهبيةِ المُعلّقةِ على باب الجامع، ثم يمسحون بها وجوهَهم، ومن بين الناس ظهرَ لي نوح نجاتي مراد، فقصدتُ إليه، ودونَ إلقاء السلام سألتُه:
– ماذا يفعل هؤلاء؟
– إنهم يتبرّكون بالجامع!
– ولكنْ، هذا مُجرَّدُ بناء، هذه مُجرّدُ زخارِف!
– لا، إنها ليست مُجرّدَ زخارِف، هذهِ زخارِفُ إلهيّة.
– زخارفُ إلهيّة؟!
– نعم!
– وما أدراك أنها إلهيّة؟
– إنهُ السيّدُ الذي وصَفَها بذلك.
مددتُ يدي مُشيراً إلى تلك الزخارِف، وقلتُ له:
– هذا رُخامٌ إيطاليٌّ مُجَزَّع، غالي الثمن! ألَم يكن هؤلاء العُمّالُ ومَن وراءَهم من أفرادِ عائلاتِهم أحقَّ بثمنِه؟ انظرْ إليهم!
قطَّبَ نوح نجاتي حاجِبيْه، وضَيَّقَ عينيْه، ثم قال لي في هدوء:
– مع ذلك، فإن الناسَ سيحصلون على بركةِ بناءِ هذا الجامع، فالنبيُّ عليه السلام قد قال: “مَن صلّى صلاةً في هذا الجامع؛ فلهُ أجرُ صلاتيْن”!
– كيف قال النبيُّ هذا؛ والجامعُ لم يُبنَ إلا بالأمس؟!
– إنها المَناماتُ يا سيّدي، المَناماتُ الصادقة.
قالَ ذلك، ثم أدارَ لي ظهرَهُ، وسارَ مبتعِداً، وكان عددٌ من العمّالِ والحاضرين ينظرون إلينا في استغراب، وحِرتُ مرةً أخرى فيما عليَّ فِعلُه، فعُدتُ إلى الغرفة في الفندق، حيث كانت زوجتي ما زالت تُعِدُّ حقائبَنا للسفر، فلمّا رأتني قالت بدهشة:
– لقد عُدتَ مُبكراً!
– نعم.
وأخبرتُها بما رأيت، وكم أودُّ أن أُساعدَ أولئك العُمّالَ كي يتمكنوا من تجاوز أحوالِهم البائسة، وحين انتهيتُ من حديثي زَفرْتُ في توترٍ ظاهِر، فسارَعتْ زوجتي لتقول:
– ما لَنا ولَهم يا حَمَد؟ نحن في رحلةٍ للاستجمام والسياحة، فلا تشغلْ بالَك بما يُعذّبُ روحَك! العالَمُ مَليءٌ بالبائسين، هنا وهناك، فهل ستُساعدُ الجميع؟
نظرتُ إليها في دهشة، وقلت:
– أنتِ مُمرِّضة، وتقولين هذا الكلام؟!
نظرَت إليَّ بعَتَبٍ خفيف، ثم قالت:
– يا عزيزي، هذا يحصلُ في كثيرٍ من بُلدان العالَم، يبنون جوامعَ وكنائس، ومعابدَ أخرى، يصرفون عليها الملايين، وقد يكونُ جزءٌ كبيرٌ من الملايين من تبرّعاتِ الناس.
– نعم، صحيح، وهذا لا بأسَ به حينَ يكونُ في البلدِ تنميةٌ اجتماعيةٌ واقتصادية، أما هؤلاء..
قاطعتني قائلةً في هدوء:
– إن من نافِلةِ القولِ التذكيرَ بأن بعضَ المَرضى لا يُرجى لهم شِفاء، وأن علينا أن نَدَعهُم لرحمةِ الله، ثِقْ بكلامي، فأنا مُمرِّضة.
قالت ذلك، ثم اقتربَت منّي في رقةٍ وتبسُّمٍ، وهي تقول:
– سنعودُ إلى البلاد غداً، وأريدُ بعضَ الهدايا لوالِديّ.
أظنُّها قالت ذلك كي تشغلَني عن حالتي الراهنة، وقد استجبتُ لها لأنني كنتُ متعباً، مُشَوَّشَ الأفكار حقاً، وبحاجةٍ إلى تغيير مزاجي، فخرجنا بعدَ الظهر إلى السوق، مُتجنّبَيْنِ طريقَ الجامع، ثم عُدنا مساءً، ومضَت تلك الليلةُ بهدوء.
حين أصبحنا في اليوم التالي، طلبنا فطورَنا في الغرفة، وحرصتُ على أن لا أفكرَ فيما شغلتُ نفسي به في الأيام الماضية، وقد عدّلَ هذا من مِزاجي بعضَ الشيء، لكنني حين سمعتُ أذانَ الظهر من النافذة، دفعني أمرٌ ما إلى الإطلالِ منها على ساحةِ الجامع، فرأيتُ العُمّالَ وهم ينظفون أنحاءَه، وكم كان كلُّ شيءٍ حولَهم يبرقُ لَمعاناً، في حين بَدَوْا هُم كمجموعاتٍ من نَملٍ ذي لونٍ رماديٍّ غامِق، فتذكرتُ كل ما مضى، وعانَت نفسي من فكرةِ السكوت، فقلتُ لزوجتي:
– لابد من أن أتحدثَ إلى أولئك العمال.
رَدّتْ فَزِعةً:
– ولكن يا حَمَد ينبغي أن ننطلقَ إلى المطار الآن!
– لن يأخذَ الأمرُ طويلاً.
– يا حَمَد!
– يا ميثاء هؤلاء بحاجةٍ إلى مساعدةٍ في الفهم، كي يَحيَوْا حياةً أفضل، أنا لستُ مجرّدَ باحثٍ في الآثارِ الإسلامية، أنا أيضاً إنسان.
– وبأيّةِ لغةٍ ستُحدّثهم؟
– لا أدري.. ربما بلُغةِ الإشارة!
وخرجتُ مسرعاً، تُكَلِّلُ رأسي أفكارٌ أخلاقية. كنتُ أريدُ أن أتحدثَ مع هؤلاء العمال في غَيْبةِ السيّد صاحبِ الجامع ونوح نجاتي مراد، فما يجري ليسَ حضاريّاً أبداً، وليسَ مِن الدِينِ أصلاً، ومع ذلك لم أكن أدري ماذا سأقول، أو كيف سأتحدث، وكان هذا يُؤلِمُني.
حين وصلتُ إلى الجامع الكبير، لم أرَ أحداً من العمال حولَه، بل رأيتُ عدداً كبيراً من أحذيتِهم الباليةِ موضوعةً عند باب الجامع، فعلِمتُ أنهم في الداخل للصلاة، فوقفتُ عند الباب الكبير، أنتظِرُ خروجَهم بعدَ الصلاة، لكنني عدِمتُ الصبرَ، وقرّرتُ الدخول، فلمّا فتحتُ البابَ ودخلت، رأيتُهم يُصلّون بخشوعٍ بالِغٍ خلفَ أحمد تقي زاده، الذي كان يَؤمُّهُم.
الصِيغةُ الثانية
على ضفةٍ جميلةٍ من ضِفافِ نهر آرجيش، جلست آنّـا ترتاحُ قليلاً، فقد أتعبها المشيُ وهي تحملُ سلةَ الطعام وجَرَّةَ الخَمر، إلى حيث يُشرِفُ زوجُها المعماريُّ العظيم مانولّي على بناءِ القصر الصغير، الذي كُلِّفَ بهِ من قِبل بعض أثرياءِ مدينةِ كورتا دي آرجيش، ولم يكن المشيُ لِيُتعِبَها، لكنها الآن حامِل، وتُريدُ أن تَرفِقَ بنفسِها، وبالروحِ الذي في بطنِها، إلا أن حبَّها العظيمَ لزوجِها دفعَها إلى النهوض ومواصَلةِ السَيْر، وهي تقولُ في نفسِها:
– إنهُ الآنَ جائعٌ بلا شك!
ودون اتفاقٍ، وجدت آنّـا زوجاتِ البنّائين الذين يعملون مع زوجِها يَسِرْنَ بالقربِ منها، وهُنّ يحمِلْنَ سِلالَ الطعام وجِرارَ الخَمر لأزواجِهنّ، فَحَيْيَيْنَها ورَحَّبْن بها، فلَحِقت بهِنّ، وسِرنَ جميعاً نحوَ القصر. وفي الطريق، صادفَت آنّـا قبرَ أحدِ الصالحين، وقد بُنيَت فوقَهُ مظلّةٌ من الخشَب، فلمّا رأت الأيْقوناتِ داخلَها أشارَت بعلامةِ الصليب، ثم أكملت سَيْرَها مع بقيّةِ النِسوة. وفي القصر، كان مانولّي وزملاؤهُ البنّاؤون يضعون لَمساتِهم الأخيرةَ فيه، وحين اكتملَ البناء، جاءَ صاحبه، فكافأَ مانولّي وزملاءَهُ البنّائين، ثم أمرَ صاحبُ القصرِ خادِمَهُ بتعليق لوحةٍ كبيرةٍ على أحد أفضل الجدران في قصره، فاقتربَ منها مانولّي بعدَ تعليقِها كي يُشاهدَها، فرآها تحوي صورةَ لأحدِ الملائكة وهو يُداوي امرأةً مجروحةً في السماء، وكان الدمُ الخارِجُ منها زَهْريَّ اللون، تجمّعَ مُنهرِقاً في غيمةٍ صغيرةٍ رماديّة، فصارَ وسطُ الغيمةِ قُرمُزيَّ اللون، وعَجِبَ مانولّي مما رأى، لكنّه هَزّ كتِفَيْه، وقال في نفسِه:
– مع ذلك، هذه صورةٌ دُنيوية.
وحين خرجَ من القصر مع زملائِه، توقفَ قليلاً ليُلقيَ نظرةً أخيرةً على نواحي القصر، الذي عُدَّ رائِعةً من روائِعِه، وكان زملاؤهُ فخورين بذلك، وأما النِسوةُ اللاتي كان يبدو عليهنّ الإعياءُ من أثَرِ المشي وحمل الطعام، فقد كُنَّ مستنداتٍ إلى واجِهةِ القصر، وهنّ ينظرن إليهم في ابتسامٍ وسُكونٍ يُثيرُ الشفقة، وفي هذه الأثناء مَرَّ بالقصر مُمتَطِياً حِصانًهُ أميرُ مدينةِ كورتا دي آرجيش، فودا الأسَوْد، فلمّا رأى القصرَ البديعَ سألَ عن مانولّي، فقدَّمَ مانولِّ نفسَه للأمير، وقال:
– مانولّي في خدمتك أيها الأمير.
– هذا قصرٌ جميلٌ حقاً، وإنّ صاحِبَهُ لَمحظوظ، أنت وزملاؤك بارِعون بلا ريب.
– شكراً لك سيّدي، هذا من لطفِك!
– إنني في طريقي لاختيار قطعةِ أرضٍ أبني عليها دَيْراً، وأريدُك أنتَ وزملاءَك أن تقوموا ببنائِه.
– أوه، هذا شَرَفٌ عظيمٌ لنا يا سيّدي!
– إذن، هيّا اتبعوني.
وانطلقَ الرجالُ، تتابعُهم أنظارُ الزوجات، وساروا حتى وصلوا إلى الأرض المُختارَة، وإذا بمانولّي وزملائِهِ يَرَوْنَ جداراً قديماً قائماً في تلك الأرض، وفي ظِلِّهِ تعيشُ الكِلاب، فتساءَلَ مانولّي قائلاً:
– أهذه هي الأرضُ المُختارَة؟
أجابَ الأميرُ بجدّيّةٍ صارِمة:
– أنا لا أريدُ الدَيْرَ على غيرِ هذه الأرض، لأن هذه الأرضَ لا يمكنُ بناؤها بسهولة، فقد أخفقَ كثيرٌ من المِعماريّين والبنّائين من قبلُ في تعميرِها، وهنا التحدّي الذي يَليقُ بك، فأنتَ أشهرُ معماريٍّ يا مانولِّ، وأنا لا أشك في قُدرتِك على بناء أجملِ دَيْرٍ في البلاد في هذه البقعة.
كان مانولّي وزملاؤهُ ينظرون بصمتٍ إلى الجدارِ القديم وما حولَه، فيما أكملَ فودا الأسَوْد قائلاً:
– سيكونُ ذلك إنجازاً عظيماً لي؛ أَنْ عَمَّرتُ دَيْراً يُخَلِّدُ اسمي، في هذه الأرض المُمتنِعة، دَيْراً جميلَ التصميم، عظيمَ الزخارف، شاهِقَ الارتفاع، وسيكونُ ذلك بفضلِك أنتَ وزملائِك يا مانولّي، سأجزيكم خيرَ الجزاء، إِن استطعتُم بناءَ أجملِ دَيْرٍ في البلاد.
وأضافَ الأميرُ، وهو ينظرُ في الفراغ أمامَه، مُتخيِّلاً الدَيْر:
– إذا بُنيَ هذا الدَيْرُ كما هو في ذِهني، بزخارِفَ بديعة؛ فسيكونُ أجملَ ما في هذه المدينة، ولن يملكَ الناسُ حينئذٍ من الكلمات ما قد يَفي بوصفِ جمالِه، إذ لن يَرَوا دَيْراً قدرَهُ ضخامةً وجَلالاً.
كان مانولّي يُفكِّرُ فيما يسمعُ من الأمير، ويتخيَّلُ المَجدَ الذي سيرتبطُ باسْمِه، إن استطاعَ حقاً بناءَ مثلِ هذا الدَيْر العظيم، إذ سيظلُّ الناسُ يذكرون اسمَه، باعتبارهِ المعماريَّ الأعظمَ في البلاد، وقرَّرَ مانولّي أن يكونَ هذا الدَيْرُ تُحفتَهُ المعماريّةَ الخالِدة، لكنّ الأمرَ لم يكن يَسيراً.
في صباح اليوم التالي، كان مانولّي وزملاؤهُ البنّاؤون قد بدأوا العملَ بهِمّةٍ عالية، فمَدّوا الحبالَ، وقاسوا الأرضَ، وحفروا مواضعَ الأساسات، وأقاموا الأعمدةَ الخشبية، وشَرَعوا في البناء، فأتمّوا بناءَ جانبٍ لا بأسَ به، ثم جلسوا مع توسُّط الشمس في السماء ليرتاحوا، وفي هذه الأثناء وصلت إحدى الزوجات حاملةً سلةَ طعامٍ وجَرَّةَ خَمر، ثم وصلت أخرى، وتتابَعنَ في المجيءِ، وهُنّ يحمِلْنَ سِلالَ الطعام وجِرارَ الخَمر، ووصلت آنّـا متأخرة، بسبب الحَمْل وطُول المسافة، واعتذرت لزوجها الذي تُحبّهُ كثيراً، ثم قالت مُشفِقةً عليه:
– إنكم يا عزيزي لم ترتاحوا بعدُ من بناءِ القصر؛ حتى شَرعتُم في بناءِ الدَيْر!
– نعم، لأنهُ أولاً أمرُ الأمير، وثانياً لأنني أريدُ أن أُخَلِّدَ اسمْي، بصفتي مِعماريّاً عظيماً، ليس لهُ نظير، ليس ببناءِ القصور الدنيويّة، ولكن المباني الرُوحيّة، من خلال تشييدِ أعظمِ وأجملِ دَيْرٍ، على أصعبِ أرض.
– ولِمَ هي صعبة؟
– لا أدري، ولكنّ الأميرَ قالَ إن كثيراً من المِعماريّين والبنّائين قد أخفقوا من قبلُ في تعميرِها، ولهذا قبلتُ أنا هذا التحدي، ولْيكُن طريقي إلى الخُلْد.
– إنني أتمنى لك التوفيقَ من صَميم قلبي يا مانولّي!
ودَعَت آنّـا اللهَ أن يُوفقَ زوجَها وزملاءَه، وأن يكونَ هذا الدَيْرُ شاهداً على عَظَمةِ زوجِها، وفي هذه الأثناء وقعَ البناءُ الذي كان البنّاؤون يعملونَ فيه طِيلةَ الصباح، وصُدِمَ الجميعُ بذلك، وثارت علاماتُ الدهشةِ والارتياب.
بعدَ الظهر عادت النِسوةُ إلى بيوتهِنّ، وبقيَ مانولّي وزملاؤهُ في موقع العمل، وقد أَثَّرَ فيهم حادثُ انهيارِ البُنيان، وعَزَموا على إتقانِ عملِهم في اليوم التالي. إلا أن اليومَ التاليَ لم يكن بأفضلَ من سابِقِه، فبعدَ عملٍ طويلٍ وشاقّ، انهارَ البناءُ أيضاً، وكذلك في اليوم الثالث، والرابع، الذي زارَهم فيهِ فودا الأسود، أميرُ مدينةِ كورتا دي آرجيش، الذي جاءَ مُمتَطِياً حِصانًه، ومُحاطاً بحَرَسِه، ووقَفَ على حقيقةِ ما جرى، وقال لِمانولّي وزملائِهِ بغضب:
– أَلَستُم أفضلَ البنّائين والحِرَفيّين في هذه البلدة؟ لِمَ لَم يَقُم البناءُ حتى الآن؟
وحاولَ مانولّي وزملاؤهُ تقديمَ الأعذارِ ما أمكنَهم، إلا أن الأميرَ لم يقتنِع بكلامهم، ورَفضَ الاستماعَ للمَزيد، وقال بِحَزم إنه إن لم يَرَ البناءَ يرتفعُ بعدَ ثلاثةِ أيام، فسيدفِنُ مانولّي وأصحابَه أحياءً في أساساتِ البناء، وسُقِطَ في أَيْدي مانولّي وزملائِه، وحاروا في أمرِ هذا البناء، وطلبَ مانولّي من رِفاقِهِ أن يرتاحوا بقيةَ المساء، وأن يتركوهُ يُفكِّرُ في الأمر، وذهبَ هو فاختلى في زاويةٍ من موقع البناء، وكادَ القلقُ يقتلُه، فتناولَ كؤوساً من الخَمر، ثم استسلَمَ للنوم، وفي المَنام، رأى مَن يقولُ له: “على الذين يبنون الجدارَ أن يُضَحّوا بإنسانٍ يُحبّونه”، وحاولَ مانولّي في المَنام أن يستفسِر، فقِيلَ له: “إنهُ من أجلِ إتمامِ بناءِ الدَيْر، عليه أن يَدمِجَ في جُدرانهِ إنساناً محبوباً جداً من قِبلِهِ أو مِن قِبَلِ أحدِ زملائِه”، وكان آخِرَ ما سَمِعَ مانولّي في مَنامِه: ” إنهُ لا يُمكنُ عملُ أيّ شيءٍ خالدٍ وفريدٍ من نوعِهِ دون تضحيةٍ من العامِلِ نفسِه”.
استيقظَ مانولّي من نَومِهِ واجِماً مما رأى، وألقى نظرةً إلى زملائِه، فرآهم أكثرَ وُجوماً منه، وقد اجتمعوا على النار، يشربون الخمر، وبالكاد يتحدثون، كان منظرُهم البائِسُ هو مَن يتحدث. وقامَ مانولّي إليهم، ووقفَ عليهم، وأخبرَهم بما رأى في مَنامِه، فصاحَ بعضُهم:
– إنها المَناماتُ يا أستاذي، إنها المَناماتُ الصادقة.
لكنهم اختلفوا في تأويل هذا المَنام، فقالَ بعضُهم:
– الأمرُ واضح، علينا أن نحجِزَ إنساناً في إحدى زوايا البناء!
– تقصدُ أن يكون كالأُضحية؟
– نعم! هذا ما يقولُهُ المَنام.
– لكنهُ يشترِطُ إنساناً محبوباً لأيٍّ مِنّا!
– ومَن يزورُنا هنا غيرُ زوجاتِنا، وهُنّ محبوباتٌ لنا أيضاً!
– إذن، هذا هو، على أحدِنا أن يُضحّيَ بزوجتِه، وإلا قتلَنا الأمير!
– ولكنْ، بأيِّ زوجةٍ نُضحّي؟
كان مانولّي يستمعُ إلى رِفاقِهِ دون أن يُشارِكَهم الحديث، وفجأةً قالَ أحدُهم:
– لديَّ فكرةٌ عادِلة، فَلْنتفِقْ على التضحيةِ بأوّلِ زوجةٍ تأتي نهارَ الغد إلى زوجِها، وبهذا نوفِّرُ الوقتَ الثمينَ أيضاً، أليسَ كذلك؟ ما رأيُكم؟
صاحَ البقيةُ ما عَدا مانولّي قائلين:
– نعم، هذا عدل.
وقال صاحبُ الفِكرة:
– إذن، فَلْنُقسِمْ جميعاً على هذا قَسَماً لا حِنْثَ فيه.
وأقسموا جميعاً على ذلك، وأقسَمَ معهم مانولّي على مَضض، وكان يبدو عليه الذُهول، ونامَ الجميعُ ليْلَتَهم. وفي الليل حلِمَ مانولّي بزوجتهِ تتوسّطُ زوجاتِ زملائهِ البنّائين كالعَروس، وكانت هي تبتسِمُ فيما كُنّ هُنّ يَنُحْن، وكُنّ جالساتٍ على الأرض، وكانت هي تجلسُ في عرشٍ مُذَهَّبٍ ومُزخرَف، يكادُ يُحيطُ بها، وفجأةً أصبحت عُريانة، وتَشَكَّلت عُروقُ الدَم من تحتِ جلدِها مثلَ وُشومٍ كثيرة، واتخذت أشكالاً زخرُفيّة، غطّت جسَدَها الذي جَمُدَ على العرش، وهي ما زالت تبتسم، وفي هذه الأثناء، بينما كان مانولّي يحلم، يبدو أن بعضَ زملائِهِ قد أرسلوا مَن يُحذِّرُ زوجاتِهم من التبكير في المَجيءِ صباحَ الغَد، لكن لا أحدَ يعلمُ الحقيقة.
في صَبيحةِ اليوم التالي، قامَ مانولّي على السِقالات، وما تبقى من البناء، لينظرَ في التِلالِ والأفق. كان يأملُ في أن تتأخَّرَ آنّـا، وقد غَلَّبَ على ظنِّهِ أنها ستتأخَّرُ في المَجيء، مِن أجلِ حَمْلِها، ولبُعدِ المسافةِ أيضاً، لكنّ آنّـا التي كانت تُحبُّ زوجَها حُبّاً عظيماً؛ وكان القلقُ قد أخذَ يُساوِرُها عليهِ منذ أن علِمت بقصةِ انهيارِ البُنيان؛ قد حَمِلَت سلةَ الطعام وجَرَّةَ الخَمر منذ الصباح الباكِر، قاصِدةً موقِعَ الدَيْر، وحين رآها مانولّي أُصيبَ بالهَلَع، فَدَعا اللهَ أن يأتيَ برياحٍ شديدة، وأمطارٍ غزيرة، كي تمنعَ زوجتَه من التقدّم، واستجابت السماء، فعَصَفت الرِيحُ ضَرباً في طريقِ الدَيْر، وانهمرَت عُيونُ الغيومِ الثقيلةِ بالرَغمِ من الصَيْف، واختفَت آنّـا من الطريق، وعِندَئِذٍ تنفَّسَ مانولّي الصُعَداء، وحَمِدَ اللهَ كثيراً على هذه النِعمة، لكنّ آنّـا التي كانت تُحِبُّ زوجَها حُبّاً عظيماً انتظرت تحت إحدى الأشجار حتى ذهبت العاصفة، ثم قامت تحمِلُ حِمْلَها، وتقدّمت نحوَ موقع الدَيْر، وقال مانولّي في نفسِه بأسى:
– يا إلهي، يا لِهذهِ المرأة، إن حُبَّها أقوى من العاصِفة!
ولم يتمكن مانولّي من الدعاءِ مرةً أخرى، فقد صعَدَ بعضُ زملائِهِ إلى أعلى السِقالات، واطَّلَعَ على ما يجري، وقال أحدُهم:
– إنها زوجةُ مانولّي!
وحين بانَ الحزنُ الشديدُ على مُحَيّا مانولّي، جاءَهُ من زملائِهِ مَن يُذكِّرُهُ بالقَسَم العظيمِ الذي كان بينهم، وبأنّ زوجتَه في الحقيقة لا تريدُ لهُ سِوى المَجْدِ والخلود، وبهذا استجابَ مانولّي لزملائِهِ والحزنُ يعتصِرُ قلبَه، فيما كانوا هم سُعداء، ولم يكن ينقصُهم شيءٌ سِوى ابتداعِ حِيلةٍ يُقنِعون بها آنّـا بالوقوفِ أمامَ جدارٍ من البُنيان، حتى تُحجَزَ بالأعمدةِ الخشبية، ويتِمَّ البناءُ عليها، وهكذا كان، فعندَما وصلت آنّـا، ووضعت سلّة الطعام وجَرّةَ الخمرِ جانباً، أخبرها مانولّي أنهم يرغبون في الترويحِ عن أنفسِهم بعدَ حادثِ أمسِ المؤسِف، وأنهم يخطِّطون لأَنْ يلعبوا لعبة، بأنْ يُقيموا حولَها بناءً، استبشاراً وتفاؤلاً بها، فأبدَت آنّـا سُرورَها بذلك، واستجابت لهم، فاقتادوها إلى إحدى زوايا البناء، وأسندوها إلى جدار، وشَرَعوا يُقيمون حواجِزَ خشبيةً حولَها، وأمامَها، وأخذوا يضغطون الحواجزَ بقوة، وسَرعانَ ما أدركت آنّـا أن ما يجري ليسَ لعبة، ودَعَت زوجَها وزملاءَهُ إلى التوقف، والسماح لها بالخروج، لكنّ أحداً منهم لم يأبَه بها، وكان بعضُهم يعملُ وهو يُردِّدُ بصوتٍ خافت:
– القَسَمَ القَسَم..
وكان بذلك يُذكِّرُ مانولّي بطريقةٍ غير مباشرة، أو لعلها مباشرة؛ بأنّ عليهِ أن يَلْزَمَ القَسَمَ، وأن يَبَرَّ بيمينِه، وكانت الحواجزُ الخشبيةُ تضغطُ بقوةٍ على جسدِ آنّـا، وخَشِيَت على طفلِها الذي في بطنِها، فناشَدَت مانولّي أن يُخرِجَها، وأن يسمحَ لها بالرحيل، لكنّه كان كالأعمى الأصَمّ، كان عليهِ أن يَبَرَّ بيمينِه، وقد شَعَرَ هو وزملاؤهُ بأن البناءَ يُطاوِعُهم الآن، وبأنهُ يستوي، ويستقيمُ كأفضلِ ما يُريدون، وارتفعَ البناءُ أعلى مما كان في المحاولاتِ السابقة، ولم يعُد يُرى من آنّـا سِوى أعلى رأسِها، ومع ارتفاع البناء كان بعضُهم يعمل، وهو يُردِّدُ بصوتٍ عالٍ:
– المَجْدَ المَجْد..
وهنا عادَت آنّـا تتوسَّلُ إلى مانولّي، قائلةً:
– مانولّي ، سيّدي مانولّي ، مُدَّ يَدَك إليّ، أرجوك.. إن الجدارَ يسحقُني، جسدي يتحطم.. مانولّي يا سيّدي، إن طِفلَكَ يَنسحِقُ في بطني.. مانولّي.. البِناءُ الشِّرّيرُ يسحقُنا..
وظلّت تتوسَّلُ إليه باكيةً، حتى خَفَتَ صوتُها من وراءِ الجدار الكثيف، وهي تقولُ بيأسٍ إنّ حياتَها تنطفئ، واستمرَّ العملُ حتى اكتمَل، وبهذا كلِّهِ تَمَّ بناءُ الدَيْرِ العظيم، ذي الزخارفِ الجميلة. وكان فودا الأسْوَدُ في طريقِهِ لِمُبارَكةِ الدَيْر، فما إن اقتربَ منه حتى تملّكتهُ روعةُ عمارتِه، وجمالُ تصميمِه، إذ كان دَيْراً عظيماً، شاهِقَ الارتفاع، جميلاً، ذا قِبابٍ بديعةِ اللون، لا يكادُ موضِعُ إصبعٍ منه يخلو من الزخارفِ والألوان الرائعة، وصعدَ مع حَرَسِهِ إلى أعلى الدَيْر، وهناك على السطح ألقى نظرةً شاملةً على مُحيطِ الدَيْر، وقالَ بنُشْوةٍ عارِمة:
– هذا أعظمُ دَيْرٍ في البلاد، هذا دَيْرُ آرجيش، دَيْرُ فودا الأمير.
وكان مانولّي واقفاً بجانبِ الأمير، وهو يشعرُ بالفخر العظيم كذلك، وكان زملاؤهُ سُعداءَ للغاية، إلا أن فودا الأسودَ قد فكَّرَ قليلاً، ثم قال لِمانولّي وزملائِه:
– إنني أتساءَلُ عمّا إذا كان بإمكانكم أن تَبْنوا دَيْراً أعظمَ وأجملَ من هذا؟ هل في استطاعتِكم؟
نظَرَ مانولّي وزملاؤهُ للأمير في دهشة، ثم قالَ مانولّي بفَخْر:
– نعم نستطيع، نحن بنّاؤون عظماء، ليس كمِثلِنا بنّاؤون على هذه الأرض كافّة، يكفي أننا تحدّيْنا هذه الأرضَ الصعبة، وعمّرنا عليها هذا الدَيْرَ الذي سيُخَلِّدُ ذِكرانا.
قال الأميرُ بتعجُّب:
– ذِكرانا؟
قبلَ أن يُعلِّقَ مانولّي؛ عادَ الأميرُ ليسألَه:
– إذن، فإذا طلبَ منكم أحدٌ ما، غيري أنا؛ بناءَ دَيْرٍ أعظمَ من هذا، وأكثرَ إشراقاً، فإن ذلك بإمكانكم، أليسَ كذلك؟
– بلى يا سيّدي!
– آها!
وفكَّرَ الأميرُ قليلاً، ثم أمَرَ الحَرَسَ بتدمير السقالات، وإسقاطِ السلالِم، وحَجْز مانولّي وزملائِهِ على سطح الدَيْر حتى يموتوا، وسُقِطَ في أيدي البنّائين مرةً أخرى، ونظروا حولَهم على السطح، فوجدوا بقايا ألواح البناء الخشبية، فتسابقوا عليها؛ أيُّهُم يحصلُ على زوجٍ من الألواح الخفيفة، فيُوثِقُ ذراعيْه إليهما، كي يتمكنَ من القفز من أعلى الدَيْر، والهبوطِ بسلامٍ على الأرض، لكنهم لم يُفلِحوا في ذلك، إذ انسحقوا على القاع إثرَ سقوطِهم، وحين كان مانولِّ يسقط إلى الأرض، سَمِع من جِدارِ الدَيْرِ صوتاً مكتوماً، صوتاً محبوباً للغاية، يَئِنُّ أَنيناً من الألَم، ويقول:
– البِناءُ الشِّرّيرُ يسحقُنا.
فلمّا سَمِعَ مانولّي ذلك، ضاعَ فِكرُه، وابيَضَّت عيناه، وشعرَ بالدنيا تدورُ من حولِه، والغيومُ تدورُ من فوقِه، وسقط لِيموتَ على الأرض، بجانبِ عَيْنِ ماءٍ صغيرةٍ بالقُربِ من الدَيْر، لكنّها عينٌ ذاتُ ماءٍ مالِح، لأنهُ فاضَ من دموع آنّـا.
الزخارفُ الإلهيّة