علي احمد الحميري

زهرةٌ بين أشواك

جلس على أدنى المقاعد إلى الباب صامتاً متجاهلاً نظرة حادة حدجته بها من طرف خفي متصبراً عن إشعال سيجارة كان يحتاجها تلك اللحظة أمام المناخ المتزمت الذي تضفيه على غرفة السكرتارية، وشرع بمراقبة سلوكها الصارم حيال ضوضاء يثيرها بعض موظفي الشركة، والمراجعين، وبعد حوالي ربع ساعة من حضوره التفتت نحوه بشيء من البرود:

… نعم.. من أنت؟.. وماذا تريد؟..

… أريد مقابلة المدير إذا سمحت..

… لديك موعد مسبق؟..

… لا ..

… لن تستطيع مقابلته إذاً.

… لكن ..

… آسفة.. السيد المدير كثير المشاغل، ولديه اجتماع الساعة..

شعر منذ أن رآها أن في طبعها شيئاً من العناد، وأنها لن تتيح له مقابلة المدير، لكنه بقي متشاغلاً بالنظر نحو صف من الملفات رصت على الأرفف خلفها، فلما اكتشفت تشبثه بالكرسي قالت بشيء من الضيق:

… تعال في وقت آخر، إذا سمحت..

إنها جميلة، وعنادها ليس من النوع الخبيث، ليس سوى صورة من صور إثبات الشخصية.. أثبتت ذلك قطرات من العرق بين حاجبيها وهي تطرده بأسلوب ملتوٍ لطيف، فانسحب بهيئة مهزومة، وذلك ما أراده حسب الخطة الموضوعة بينه، وبين صديقه المدير، وسوف يعود إليها في اليوم التالي لتطرده مرةً أخرى.. إنه يريد أن يثبّت صورته في ذاكرتها.. وبعد ذلك سيأتي مديرها من مكتبه ليقابله مقابلة عادية كأنه مجرد شاب لا يعرفه يبحث عن وظيفة حاملاً توصية من أحد أصدقائه…

البداية كانت شكوكاً ساورت صديقه خليفة حول تسرب أسرار مناقصات شركته إلى إحدى الشركات العاملة في نفس المضمار، وشك في أمور أخرى تحدث في الشؤون المالية كازدياد المصاريف النثرية عن معدلها الطبيعي، والغلو في المشتريات.. لكن شريك خليفة المهندس إلهامي لم يؤيده في تلك الشكوك، بل كان يصرف الحديث عنها كلما حاول طرقه.. وكانت صدفة أن التقى خليفة بمحمد خريج كلية التجارة.. قسم المحاسبة القانونية بدرجة امتياز، فذكر له بعضاً من همومه، ومنها تلك الشكوك، فاقترح محمد أن يساعده في حل تلك الألغاز ريثما تتم أوراق تعيينه في وزارة المالية…

لم تدر سامية كما سمع خليفة يدعوها من خلال جهاز بينهما كيف تسلل ذلك الشاب الجريء إلى مكتبها صباح اليوم التالي دون أن تشعر، وفيما تشاغل محمد بتدوين ملاحظات في قصاصة ورق أخرجها من جيبه تابعت هي محادثتها الهاتفية بصوت منخفض.. حتى إذا وضعت سماعة الهاتف، خاطبته متبرمةً:

… أنت أيضاً!..

أدرك بأنه قد أزعجها حقاً، فابتسم:

… صباح الخير..

قال بلهجة متملقة

… أهلاً.. لكن السيد المدير لن يفرغ لمقابلة أحد هذا اليوم أيضاً..

… أرجوك سيدتي أن تساعديني، فأنا أحتاج إلى وظيفة..

شعر أنه قد خفف بتوسله من حدة ضيقها، لكنها لم تلن تماماً:

… لا أظن أن هناك وظيفة شاغرة هذه الأيام.. نحن لم نعلن عن أية وظيفة..

… نعم ليس هناك أي إعلان، لكنني آمل أن أجد فرصة..

تلك اللحظة غادر خليفة مكتبه، فهبت هي واقفة، وأخرج محمد مظروفاً من جيبه:

… السيد خليفة؟..

… نعم..

… تفضل سيدي..

ومد نحوه بالمظروف غير ملتفت إلى نظرة الامتعاض التي صدرت من الفتاة.. وبعد أن فض خليفة المظروف، وتظاهر بقراءة الرسالة التي علم مسبقاً بمحتواها هز رأسه يخاطبها:

… سامية..

… نعم، يا أستاذ..

… ابحثي لهذا الشاب عن وظيفة في قسم الحسابات..

… لكن، يا أستاذ..

… جدي له أية وظيفة..

قاطعها حازماً، فلم يدع لها مجالاً لتسويف، أو إبداء رأي ثم غادر المكتب مبتسماً من طرف خفي، فقالت هي لمحمد بصورة حانقة:

… يبدو أن وسيطك شخصية مميزة..

… أبداً سيدتي.. مجرد امرأة عجوز..

… حقاً!..

قالت ذلك بشيء من الدهشة المشوبة بعدم التصديق، فتجاهل ملاحظتها …

أبو أحمد.. رئيس قسم الحسابات لم يرحب بمحمد كثيراً وابتسم ابتسامة خير منها عدم الابتسام.. أمّا أم أحمد، زوجته ومساعدته الأساسية في القسم فلم ترحب أبداً بالموظف الجديد الذي فرض على القسم، وأعلنت عن غضبها صراحة كما بدت ذات سطوة شديدة على زوجها، وموظف آخر بدا محايداً، ومغلوباً على أمره، فتجاهل محمد تلك الملاحظات.. بل تعمّد أن يتمسكن، وأن يبدي أمِّيَّة في شؤون الحسابات، فأخذ يسأل عن كل شيء حتى عن البديهيات في أصولها كما أظهر خضوعاً تاماً للرجل، وزوجته.. عندما جاء المهندس إلهامي شريك صديقه هبَّ واقفاً كأنه تلميذ خائف، فتمكن إلى حدٍ بعيد أن يشعر الجميع بأنه شاب مسكين شبه أمي عطف عليه المدير بتوصية من امرأة عجوز…

كان أبو أحمد إلى جانب رئاسته للقسم مسؤولاً عن المشتريات يساعده شاب آخر جاء إلى المكتب في نهاية الدوام الصباحي، وبدا مرحاً منطلقاً يتصرف بكثير من الثقة مع رئيس القسم، وزوجته ساخراً متحرشاً بموظف آخر بدا منبوذاً من الثلاثة، ثم شرع بشكل تدريجي يتعامل مع محمد بنفس الكيفية.. تلك التصرفات المتناقضة أوحت لمحمد بأن لشكوك صديقه شيئاً من الواقع، وأن في الشركة عصابة مكوّنة على الأقل من رئيس الحسابات، وزوجته، وذلك الشاب.. فأخذ يتقرب بأسلوب حذر من الرجل المحايد، ويتلطف في التعامل معه، يبدي له احتراماً.. يغادر معه الشركة في نفس اللحظة، ويسايره حتى يجد سيارة أجرة.. ويطلب له شاياً، أو قهوةً كلما طلب لنفسه، ويساعده كلما وجد أمامه أوراقاً كثيرة.. وإلخ…

كانت أمام الشركة في تلك الفترة مناقصة طرحتها وزارة التربية والتعليم لبناء خمس مدارس، فلاحظ حركة غير عادية بين مكتب رئيس الحسابات المسوّر بجدران زجاجية في زاوية بعيدة من قاعة الحسابات، وبين مكتب المهندس إلهامي المواجه للقاعة.. كانت أم أحمد كثيرة التردد على المكتبين.. توصل إلى إلهامي أوراقاً، وتأتي منه بأخرى.. حدث ذلك في اليوم الخامس من مجيئه إلى القسم.. ولاحظ بالمقابل امتعاضاً شديداً على وجه السيد عمر الرجل المحايد.. كان يبدو غير راضٍ عن أمور تحدث في ذلك اليوم، فاستغل انشغال أم أحمد عنهما بمشاويرها بين المكتبين:

… لا تبدو على ما يرام يا سيد عمر هذا اليوم..

… هاه.. لا.. لا شيء..

لم يلح خشية أن يثير شكوك الرجل الخائف، لكنه حين قابل خليفة ذكر له ملاحظاته:

… ماذا ترى؟..

.. علاقة غير عادية تربط شريكك بأم أحمد..

… إلهامي !..

… لا أجزم.. لكنني أشك.. من المسؤول عن وضع أسعار المناقصات؟..

… إلهامي..

… هل لديك مهندس آخر يستطيع فعل ذلك؟..

… يوجد شاب جيد في قسم الهندسة، لكن إلهامي لا يثق به..

… اشتر نسخة أخرى من المناقصة، ودعه يدرسها، ويثمنها دون علم إلهامي..

… هذه فكرة جيدة.. لكن قد لا أستطيع الحصول على نسخة أخرى..

… حاول عن طريق أي صديق، أو بأية وسيلة..

..

… المناقصة كبيرة، وتستحق المحاولة.. سأبذل جهدي

خامر محمد شك في سلوك المهندس إلهامي.. الهالة التي يحيط نفسه بها، والسلوك الرصين شديد التكلف الذي يتخذه حيال الآخرين مقابل باب مكتبه المغلق دائماً دون الآخرين عدا أم أحمد يمثل شبهة للمراقب الباحث عن شبهة..

… صباح الخير..

جعل من ورقة تحتاج إلى توقيع خليفة حجة ليرى سامية.. وجد نفسه في بداية الأمر قد اشتاق لمشاغبتها ليرى تقطيبة جميلة ترتسم على وجهها الجميل عندما يضايقها فواجهته بشيء من الامتعاض:

… أهلاً.. ماذا لديك؟..

… كيف حالك يا آنسة سامية؟..

… بخير.. لكن ماذا تريد؟..

ابتسم حين شعر أنه قد ضاعف من غيظها:

… هذه ورقة تحتاج إلى توقيع السيد المدير..

كانت بأسلوبها الفج تحاول أن تشعره بأهمية وضعها في ذلك المكان:

… وأين المراسل؟.. لم أتيت أنت؟..

… فرصة لأرى وجهاً جميلاً..

… هذه جرأة لا أسمح لك بها، فأرجو ألا تكررها..

… لا يستطيع المرء أن ينكر الواقع..

خطفت من يده الورقة بحركة عصبية، ودخلت بها إلى مكتب خليفة…

عشية ذلك اليوم.. عندما التقيا أخبره خليفة بأنها قد اشتكت إليه جرأته معها:

… في شركتك يا صديقي، شبكة عجيبة لا بد من اختراقها..

… سامية أيضاً؟!..

… سامية فتاة بريئة حتى الآن.. تحاول فقط أن تظهر أهمية موقعها بسلوك مصطنع، ويبدو أنني سأحبها..

نظر خليفة نحوه مبتسماً بدهشة:

… لا تستغرب هذا الأمر.. لكن دعنا الآن نرى الأهم.. سامية كما يبدو تتعرض بطريقة ما لضغوط غير مباشرة من قبل الشبكة..

… كيف؟.. لم أفهم..

… الفتاة جميلة، وتشعر بأنها تستحق من يعجب بها، وقد سمعت بطريقةٍ ما أنهم قد سلّطوا عليها من يوهمها بحبه وإعجابه.. لعلّها حتى الآن لم تدرك ما يدور حولها.. لكنهم قطعاً يستخدمونها مستقبلاً.. رأيت الشاب الوسيم المسؤول عن المشتريات؟..

… نادر..

… نعم، نادر.. ذلك هو الطعم الذي يقدمونه لسامية..

… هذه مصيبة.. سأتولى إذاً أمر سامية بنفسي..

… لا يا صديقي.. هذه لي أنا.. إنها مكافأتي منك، فلا تقربها..

انطلق خليفة ضاحكاً:

… حسبي الله على ظنونك السيئة.. أنت تعلم أنني متزوج بمن أحب، ولا أفكر بهذه الأمور أبداً.. إنما قصدت..

… أيضاً لا.. دعها لي.. موافق!..

… لا بأس.. وإذا شكتك إليَّ مرة أخرى؟

… لا بأس من توبيخي أمامها، لكن بأسلوب مهذب، إذا سمحت..

فعاد خليفة إلى الضحك…

شعر محمد حقاً أن سامية قد استطاعت التسلل إلى أعماقه، وأن وراء جدّيتها الشديدة تجاهه خاصة رقةً مواربة، وخلف الصدود المتعمد نفساً شفافة، والصلف المنظور جمالاً مستوراً، فاستكثر على نادر الخبيث أن يعبث بكل ذلك، ويسخّره للخيانة.. ثم أكد له السيد عمر ذلك الشعور في أحد أحاديثهما حين جاءت سامية إلى المقصف في اليوم التالي، فخصت بالتحية الأخير دونه:

… لا عليك من الجفاء السطحي في سلوكها.. إنها فتاة شديدة الطيبة رفيعة الأخلاق، لكنني خائف عليها من المجهول..

ثم لم يضف شيئاً آخر كعادته في التلميح إلى الأمور..

… صباح الخير..

نظرت إليه من تحت أهدابها الطويلة، ودون أن ترفع رأسها

قالت محتجّة:

… ما الذي يزرعك أمامي كل يوم؟!..

… أنت..

… أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. حافظ على مصدر رزقك يا أخ، واتركني في شأني..

فأخذ يضحك بصوت منخفض، ثم أخرج مظروفاً مدّ به نحوها:

… إذا قبلت مني هذا، فلن أضايقك مرةً أخرى..

دفعت بيده الحاوية للمظروف بعيداً عنها:

… احترم نفسك، وإلّا صرخت، وجعلت المدير يفصلك الساعة..

فأظهر خوفاً:

… آسف.. إنما أردت مصالحتك إن كنت غاضبة مني..

… لست غاضبة من أحد فاتركني وشأني، واذهب إلى عملك..

… كما تشائين..

قال ذلك بأسلوب منكسر، ثم غادرها…

وجد محمد، وخليفة التسعيرة التي وضعها المهندس الآخر للمناقصة تقل بنسبة %١٥ عن تسعيرة إلهامي، وبعد ذلك سيكون صافي ربح الشركة بنسبة ٢٠% من القيمة الإجمالية للمناقصة..

وكان خليفة، ومحمد، قد سهرا ثلاث ليال متوالية مع المهندس حسن حتى أنجز ذلك العمل.. كان الوقت ضيقاً، ولا بد من استغلال كل ساعة:

… والآن؟..

… يجب أن نستبدل التي أعدها إلهامي بهذه دون أن يشعر..

… كيف، وهو يقدم المناقصات بنفسه..

… هذا شأنك أنت.. ويجب أن يكون ذلك في آخر لحظة حتى لا يجد مجالاً لاستبدالها إن شك في الأمر..

… هذه مهمة صعبة.. لكن.. سأتدبر أمرها..

… حاول مثلاً أن تشغل الرجل بأي سبب، ثم تعمد أنت إلى تقديمها..

… ذلك ما فكرت به…

دار ذلك الحديث بين الصديقين بعد أن غادر المهندس حسن بيت خليفة في وقت متأخر من الليل..

… صباح الخير

أشاحت بوجهها إلى الجهة المعاكسة، لكنه لمح ابتسامة جميلة حاولت أن تخفيها، فلم تفلح..

… صباح الخير..

ثم التفتت نحوه بعد أن قاومت ابتسامتها:

… نعم.. ماذا لديك هذه المرة؟..

… أليست قسوة منك أن تشكيني إلى السيد المدير!..

… وسأفعل مرة أخرى إذا حاولت مضايقتي…

… حقاً أنا لست بدرجة جمالك، لكنني لست شديد الدمامة..

فأرغم الابتسامة على الظهور:

… والآن.. اذهب إلى عملك، إذا سمحت..

… نعم.. سأفعل.. لكنني هذا اليوم رأيت أجمل ابتسامة في حياتي..

… قلت اذهب، واستعذ بالله من الشيطان..

فغادر مكتبها وهو ملتفت نحوها.. فلما اصطدم بطرف الباب

انفجرت ضاحكة…

أدرك منذ البدء أن مظهرها الخارجي الموسوم بالرصانة الشديدة يخفي نقاءً جميلاً، وبراءةً، وأن تعمدها الجفاء معه بالذات يعكس أمراً مناقضاً لم يتأكد منه بعد، لكن سماته بدا بعض منها ذلك الصباح، فاستكثر على نادر مرة أخرى أن يجرها للاشتراك في الخيانة:

… نجحنا.. نجحنا..

قال خليفة مبتهجاً حين استقبله في بيته تلك الليلة..

… هل استطعت استبدالها؟..

… نعم.. فعلت..

… ستكون لطمة شديدة لصاحبك إن كان شكنا في مكانه

… أي والله، فهي مناقصة ضخمة..

بقي أمامك شيء آخر في حال رسو المناقصة على شركتك

… ما هو؟..

… معرفة مالك الشركة التي تسلب منك الفوز، وبعد ذلك إن كان لإلهامي علاقة بها..

… صدقت.. لكنني استغرب..

… ماذا؟..

… ما أدراك أنت بكل هذه الأمور؟!..

… تلك حكاية طويلة سأقصها عليك فيما بعد.. بعد أن ننجح تماماً..

حكاية أليمة ذهبت بأخيه إلى السجن نتيجة طيبة غير محدودة، وغفلة بلغت حد البله مارسهما مع من لا يستحق، وفيما لا يجب.. حكاية كادت أن تتكرر مع صديقه لولا مشيئة الله التي سخّرته سبباً.. كان أخوه عيسى منذ البدء محظوظاً، فسخّر الله له خيراً، وأخذ ينمو، وتنمو معه شركة مقاولات صغيرة أنشأها بمهندس واحد، وملاحظين، ونفر قليل من العمال.. وقيل إن ذلك المهندس كان مخلصاً للشركة التي تمت بينهما، لكن أخاه بعد أن كبر، وكثر حوله المتملقون، والمنتفعون الذين أخذوا بتحريضه على شريكه ضاق بذلك الشريك، وأراد الاستفراد بالشركة، فأخذ يفتعل المواقف الجافة حتى نال ما أراد فامتحنه الله بنجاح أكبر جعله يجلب عدداً أكبر من المهندسين والملاحظين، والعمال.. ومن ناحية أخرى جرته الثلة الفاسدة التي أحاطت به إلى مفاسد فأهمل واجباته الدينية أولاً، ثم عاقر الخمر، وبعد ذلك عرف طريق.. الزنى.. وتظل مقولة غنى، وزنى لا يتفقان، صادقة في كل زمان، ومكان.. لذا تسللت إليه واحدة من جنود إبليس عن طريق كبير مهندسيه، فألهته عما يحدث حوله من تآمر كما يحدث لصديق محمد الآن عدا أن خليفة شاب مستقيم لم يعبث به الشيطان بعد، كما عبث بعيسى.. لذا ألهمه ربه قبل أن تصل الأمور إلى ما وصلت إليه لدى عيسى، ثم سخّر له صديقاً كوته تجربة سابقة في شخص أخيه نزيل السجن المركزي…

خمسة أيام كاملة لم تره فيها، وها هو اليوم السادس يكاد يمضي.. لا شك أنه قد يئس من استرضائها، وأضجره صدها المتواصل.. ذلك ما شعرت به سامية خفية، وحاولت أن تنكره علانية.. أمر شاق على المرأة الجميلة ألّا تنظر إليها، لكن الأكثر مشقة أن تنظر، ثم تدير وجهك عنها إلى اتجاه آخر.. وهي كما يبدو قد أدمنت نظرة الإعجاب في عينيه، فماذا يجب أن تفعل لتراه؟.. لما رأته أول مرّة وجدته مجرد شاب يبحث عن وظيفة صغيرة في الشركة، لكنها خافت شيئاً ما بالغ الدقة شعرت به يتسلل إلى أعماقها، فتعمدت أن تتجاهله، ثم حاولت أن تبعده هو عن محيطها، فلم تفلح.. وها هي الآن بعد أن أصبح موظفاً في قسم الحسابات، ولم يكمل بعد شهره الأول تجد نفسها قد اشتاقت إليه قبل انقضاء أسبوع واحد عن آخر مرة رأته فيها.. إن أسلوبه اللطيف المرح يجلب إلى نفسها بهجة وإن أبدت رفضاً سطحياً.. إن ذلك الشاب يرسّخ وجوده في أعماقها.. فما الذي حدث لها!..

… سامية..

هذا مديرها يخاطبها عبر جهاز النداء بينهما:

… نعم، يا أستاذ..

… تعالي، من فضلك..

وجدت أمامه كومة من الأوراق تحتاج إلى توقيعه منذ أربعة أيام، لكنه لا ينظر إليها:

… أريدك أن توحي للسيد عمر.. أتعرفينه؟..

… نعم.. بقسم الحسابات..

… تماماً.. أريدك أن توحي إليه دون أن يشعر الآخرون بأن يأتي إليّ.. فهمت قصدي؟..

… نعم، يا أستاذ..

يبدو مديرها جم المشاغل في الأيام الأخيرة.. يأتي إلى مكتبه متأخراً عن عادته كما كثرت اتصالاته الهاتفية.. يكدس على مكتبه فواتير يستحثها نادر أن تقدمها إليه للتوقيع.. لقد قالت لنادر أكثر من مرة أنها قد فعلت، لكن نادراً بدا شديد الإلحاح، وهي لا تستطيع إرغام مديرها على شيء لم يقرره بعد.. هكذا نهج معها منذ البدء، وها هو الآن يستدعي موظفاً من الحسابات لم يسبق له أن دخل إلى مكتبه من قبل.. لعل في هذا إفراجاً عن الأوراق التي مكثت على مكتبه طويلاً.. لكن لم لا يريد لأحد أن يعلم باستدعائه للسيد عمر؟.. هل في تلك الأوراق خطأ ما صدر من الرجل، فأراد السيد خليفة المتميز باللطف، والأخلاق السمحة أن ينبه الكهل إليها في مكتبه فلا يعرّضه للإحراج أمام الآخرين؟ ربما…

وجدت من اشتاقت إليه منكباً على سجل كبير غير متنبه لدخولها إلى القسم بينما رفع الكهل رأسه نحوها محيياً:

… صباح الخير، آنسة سامية..

كانت قبل أن تغادر مكتبها قد كتبت على قصاصة صغيرة ملاحظة بما أراده المدير فيما بدت أم أحمد منشغلة بحديث طويل مع زوجها في مكتبه المغلق:

… صباح الخير..

ردت على تحية الرجل، فرفع صاحبها رأسه عن السجل وأطلق نحوها ابتسامة طلقة:

… صباح الخيرات، والورود الجميلة..

فارتبكت حين رأت في عينيه شوقاً لم تتوقعه، وهربت بعينيها نحو الكهل، وهي تمد نحوه بالقصاصة، ثم انسحبت دون أن تقول شيئاً آخر:

… اللّهم اجعله خيراً..

قال السيد عمر حين قرأ القصاصة.. وكان محمد يعلم محتواها، لكنه أبدى جهله:

… خيراً إن شاء الله..

… لأول مرة يستدعيني السيد المدير.. أخشى أن يكون في الأمر شيء من الوشاية..

قال بشيء من الهم، فابتسم له محمد مشجعاً:

ولمَ لا تكون ترقية، أو أمراً يريد أن يخصك به؟.. لم القلق مسبقاً؟..

… سبحان الله.. هذه أول مرة منذ قرابة العامين سأدخل مكتبه.. على أي حال..

… سيكون دخولاً ميموناً، إن شاء الله.. لكن لا تنساني من حلوى البشرى..

ثم شجعه بابتسامة إضافية…

تردد السيد عمر طويلاً قبل أن يخطو نحو المقعد المجاور لمكتب خليفة:

… تشرب شاياً، يا عم عمر، أم نطلب قهوة خاصةً لنا معاً؟..

خفف أسلوب خليفة المهذب من ارتباكه:

… أي شيء سيكون مقبولاً..

… سنشرب إذاً قهوة خاصة..

ثم أعلن ذلك لسامية عبر الجهاز.. وريثما جاءت القهوة أخذ يحادثه عن أحواله الخاصة.. حتى إذا جاء بها النادل، وأغلق خلفه الباب سأله:

كيف رأيت الموظف الجديد؟..

… شاب لطيف، ومخلص.. وهو سريع التعلم..

… أشعر بالذنب يا عم عمر كلما تذكّرت وضعك في ذلك القسم..

… عفواً.. لم أفهم..

… اسمعني جيداً، يا عم عمر..

سرَّ الكهل كثيراً بالأدب الجم الذي يعامله به مديره، وأيقن بأن الأمر خير كما تمنى محمد:

… نعم، يا أستاذ..

… لن أطيل كثيراً في المقدمات.. ما رأيك في هذه الفواتير؟.. أنا لست مرتاحاً إليها..

ابتسم الرجل، ولم يعلق بشيء، لكنه أدرك أن مديره قد تنبه أخيراً لما يحدث حوله.. وشعر خليفة أن الرجل الرصين لن يبوح له بما في نفسه منذ أول وهلة، وأنه يعاني رهاباً من تسلط العصابة على الشركة تجعله يلجأ إلى الصمت ليحافظ على وظيفته، فأردف:

… إن كان بالإمكان سنلتقي هذه الليلة بعد الدوام الرسمي لندققها معاً.. ما رأيك؟..

… موافق..

قالها الرجل دون تردد:

… بعد صلاة العشاء إذاً؟!..

… إن شاء الله..

… إن شاء الله.. جزاك الله خيراً..

بعد بحث طويل دام قرابة الأسبوع قام به صديق آخر لخليفة علم أن الشركة الأخرى التي استولت على معظم المناقصات التي خسرتها شركة خليفة ليست سوى شركة وهمية تدار من قبل إلهامي بعد أن وضع على رأسها شخصاً آخر ليس له من الأمر شيء سوى الاسم، وأن جميع الأعمال التي استولت عليها تلك الشركة قد استخدمت في تنفيذها معدات، وعمال خليفة:

… ما الأمر، يا سامية!.. ألم تستطيعي حتى الآن أن تجعليه يعتمد الفواتير!..

… آسفة، يا نادر.. الأستاذ كثير المشاغل في الأيام الأخيرة..

… لكن الباعة قد أحرجوني كثيراً، ولا بد أن يعتمدها سريعاً..

كان خليفة يسمع ذلك الحوار مصادفة عن طريق الجهاز الذي غفلت سامية عن إغلاقه..

… هذه هدية لك، من محلات الـ ..

… عفواً.. أنا لا أقبل هدية من أحد..

… وتلك المرة؟..

… أي مرة !..

… الساعة.. أنسيت؟!

… حسبتها منك أنت.. أتقصد أن..

… أووه، لا تكوني شديدة الحساسية إلى هذا الحد.. سايري الأمور يا سامية.. ساعديني على توفير شيء لمستقبلنا..

… لا.. لن اقبل أية هدايا..

… لا بأس.. كما تشائين.. المهم انهي من أجلي قضية الأوراق بأسرع ما تستطيعين..

حينئذ تأكد خليفة بأن نادراً أحد أفراد العصابة المحيطة به، وعزم أن يعود إلى أوراق سابقة محفوظة في الملفات، وأن يدفع بها إلى السيد عمر بعد أن وجد الأخير في التي على مكتبه مغالطات كثيرة، وتزويراً أكثر.. لقد كان في غفلة تامة عمـا يحدث في شركته، لكن الله أنقذه قبل أن يصل إلى المصير الذي آل إليه أخو صديقه الذي قص عليه مأساته.. لكن بمن سيبدأ أولاً؟.. بإلهامي كبير العصابة، أم بأفرادها الصغار كنادر مثلاً؟..

سيستشير صديقه في هذا الأمر، وسيتفقان على الخطة..

منذ أن عرفته لم تقابله أبداً خارج حدود الشركة.. كانت دائما تغادر مكتبها بعد أن يغادر الجميع.. لكن تلك الليلة الشديدة المطر أربكت برنامجها، وجعلتها تغادر باكراً للحصول على سيارة أجرة تعزّ في مثل تلك الحال.. بدت جميع السيارات مشغولة، والبعض منها يمر سريعاً من أمام الرصيف الذي تقف عليه.. ولما خشيت أن تصل إليها نوافير المياه المندفعة من تحت العجلات اتخذت زاوية بعيدة من الرصيف في انتظار واحدة خالية.. وفجأة رأته يتجه سريعاً نحو سيارة صغيرة الحجم من النوع الثمين دهشت أن تكون لشاب فقير جاءها منذ قرابة شهرين يبحث بصورة ملحة عن وظيفة زعم أنه في أشد الحاجة إليها.. وبعد أن استقر خلف المقود، وقعت عيناه في عينيها، فابتسم، وأشار نحوها متجاوزاً ارتباكه، فما لبث أن اقترب

بالسيارة نحوها، وفتح جزءاً من زجاج النافذة:

… تعالي سأوصلك..

قال ذلك ببساطة عجيبة كأنه يخاطب شقيقته، ثم مد يده نحو الباب المضاد، ففتحه:

… هيا قبل أن يشتد المطر..

وجدت نفسها ترضخ لرغبته، وتتجه نحو باب السيارة، وتنسل صامتة إلى المقعد:

… مساء الخير..

قال ذلك بأسلوب مهذب دون أن ينظر نحوها مباشرة.. وبدا لها أكثر خجلاً، وأقل انطلاقاً مما هو عليه في المكتب:

… مساء الخير..

كان المطر قد اشتد هطوله، وأخذت المياه تنسكب كثيفة على جسم السيارة، فغشي جوفها ظلام بعد أن حجبت المياه أنوار الشوارع.. وبعد التحية منه، والرد منها حل بينهما صمت جميل لم يحاول أي منهما تبديده.. كان هو منشغلاً بحركة المرور المرتبكة لتعطل بعض الإشارات، وهي شاردة في الأزرار الحمراء المنتثرة في لائحة القيادة، لكنها استغربت اطمئنانها الركوب لأول مرة مع شخص غريب عنها.. إنها تشاركه مقدمة السيارة دون أي خوف، أو ارتباك عكس مشاعر الخوف التي تنتابها حين تركب في المقعد الخلفي لأية سيارة أجرة.. لكن من أين أتى هذا الشاب بسيارة كهذه!.. ومن هو!.. قضية غامضة تناقض تماماً بساطته، ومرحه ولطفه الشديد معها، ومع سواها، وتناقض أكثر وضع الشاب الفقير الذي جاءها منذ حوالي شهرين باحثاً عن وظيفة عمل صغيرة:

… سننتظر برهة حتى تهدأ قليلاً..

فوجئت به يخرجها من شرودها:

… من؟..

… المطر..

وتنبهت دفعة واحدة إلى وقوف السيارة أمام العمارة التي تسكنها مع أمها وأخيها، ولولا العتمة في جوف السيارة لرأى محمد حجم الدهشة في عينيها لوصوله حيث تسكن دون أن تخبره بالعنوان، لكنها لم تحاول أن تسأله.. شيء ما جميل في أعماقها تلك اللحظة جعلها لا تسأله.. شعرت بأنها لو فعلت ربما قادهما السؤال إلى حديث طويل جاف، وأسئلة وأجوبة تبدد ذلك الإحساس الجميل الذي شعرت به تلك اللحظة.. إحساس بأنها تعيش حدثاً غامضاً تتمنى أن يطول، وأن لا تجد له إجابة:

… لؤلؤة ثمينة لا يستحقها نادر..

فاجأها بتلك الجملة حين خف زخم المطر، واضطرت لفتح الباب لتغادر.. السيارة فأصدرت نحوه حركة استنكار أنثوية جميلة، واتجهت نحو باب العمارة دون أن تقول شيئاً، أو تنظر إليه مباشرة، لكنها شعرت ببهجة شديدة في أعماقها كانت ترجمتها ما فعلته حين وصلت إلى الشقة حيث قذفت بحقيبتها اليدوية على أقرب المقاعد بصورة جذلة، واندفعت تحتضن أمها، وتقبلها قبلات سريعة مرحة، غير آبهة لنظرات أمها المستغرية…

… أقترح أن تسلّم الأوراق، وجميع الوثائق إلى محاسب قانوني ليكون الأمر رسميّاً، وبعد أن يتأكد من صحة ظنوننا، تلجأ إلى محامٍ ليقيم باسمك دعوى..

… تقصد بالنسبة للفواتير والوثائق المالية؟..

… نعم..

… وإلهامي؟..

… بالنسبة لشريكك عليك أولاً أن تستوثق من الشهود حول استخدامه معداتك، وعمالك في تنفيذ المناقصات الراسية على الشركة الموهومة، وستجد من بين عمالك أنفسهم من يشهد إذا جد الأمر.. واجعل الأمر أيضاً عن طريق مـحـام ٍقـانوني.. لكن حذار أن يصل أدنى علم إلى شريكك، أو أي فرد من عصابته قبل أن تستكمل كل الإجراءات..

… صحيح.. ليس مستبعداً أن يتصرف الرجل سريعاً، أو أن يغادر البلاد..

دار الحديث بين خليفة، ومحمد بعد أن دقق السيد عمر مجموعة أكبر من المستندات المالية المشكوك في براءتها، فوجد بها ما هو أعظم.. وكان الثلاثة يأتون إلى الشركة بعد أن يغادرها جميع الموظفين بعدة ساعات لمراجعة تلك المستندات بعد أن انضم إلى الثلاثة المهندس حسن الذي ذكر أنه قد شارك في تنفيذ أكثر من مناقصة رست على الشركة الموهومة، حيث أقنعه إلهامي كما أقنع بقية المهندسين والمراقبين بأنها تخص شركته، وأن الأخرى ليست سوى فرع غير معلن لها…

إلى جانب قضية صديقه وانتظاره بداية السنة المالية الجديدة التي سيتم على ضوئها تعيينه في المالية أخذ اهتمام محمد يتضاعف بسكرتيرة صديقه.. كان في البدء مشفقاً أن تكون قد ضلعت، ولو بصورة غير مقصودة في الخيانة حيث سيضطر إلى تركها في تلك الحال، فالخيانة في نظره هي الخيانة، ولا يمكنه أن يبررها لمن يحب.. لكنه بعد أن تأكد من براءتها على ضوء المحادثة التي سمعها خليفة بينها وبين نادر اطمأن وازداد تعلقاً بها، وتمناها لنفسه:

… صباح الخير..

جاءها بعد ثلاثة أيام من اليوم الماطر الذي أوصلها فيه إلى بيتها، فتحاشت النظر المباشر نحوه، وكبتت شوقاً لا يقل عن شوقه:

… صباح الخير..

… ليت المطر لا يكف عن مدينتنا.. اللهم ارزقنا مطراً يجمعنا بالحسان..

أخذت تضحك، وهي تدير وجهها إلى اتجاه آخر، وتخاطب نفسها.. الغريب أنه في المكتب أكثر جرأة إلى درجة تخيفني أكثر من وضعه عندما كنت معه في تلك السيارة.. لقد كان تلك الليلة صامتاً، فلم يقل شيئاً حتى غادرت السيارة، فقال تلك الجملة.. ثم أعلنت:

… كانت مرة، ولن تتكرر..

… لِمَ.. حرام.. هل فعلت شيئاً يستحق هذا العقاب؟!..

ضحكت هذه المرة بصورة واضحة حين أخذ يسترحمها بأسلوبه المرح:

… ما أدراك أولاً ببيتي؟..

… أنت قلت لي..

… أنا!..

… نعم.. أنت.. سمعت قلبك الرقيق يصف لي الطريق بصورة خفية، لكنك للأسف لم تدعيني إلى كوب من الشاي.. بل لم تحاولي حتى أن تلتفتي إليّ.. هل خفت من أحد؟.. صدقيني من تفكرين به لا يستحق هذا الجمال.. أنا فقط من يحب الجمال ويقدّره..

… عدنا مرة أخرى إلى ما انتهينا منه؟.. هل أشكوك ثانية إلى السيد المدير؟.. أرجوك كف عن هذا الأمر..

… صدقيني.. ابعدي ذلك الشخص عنك..

بدا الحنق على وجهها:

… اسمع أنت جيداً.. هذا كلام لا يليق..

… آسف.. يبدو أنني حقاً قد تماديت.. أردت فقط أن أرى عرقاً جميلاً أخضر اللون ينبت بين حاجبيك عندما تغضبين.. أكرر أسفي، وانسحب..

فسمعها تضحك بعد أن غادر مكتبها…

الغريب أنها تشتاق إليه كلما غاب عن عينيها.. تشتاق حتى لمناكفاته التي تبدي منها استياء في حضوره.. شعور غريب لم تجربه من قبل عرف طريقه إلى قلبها.. لكن خوفاً لا يلبث بين فترة وأخرى أن ينبت في نفسها منه.. شعور مصدره الغموض الذي يحيط بشخصه.. فإن كانت تلك السيارة له فهو لا شك شخص آخر غير محمد الموظف الصغير في قسم الحسابات الذي أتاها منذ شهرين يبحث عن وظيفة، وإن لم تكن له فما سرّ وجودها معه؟ .. هل استعارها من شخص آخر؟.. ومن يعير سيارة ثمينة كتلك لمدة طويلة!.. على أي حال يظل الإحساس الجميل الذي لازمها طوال وجودها معه تلك الليلة طاغياً على كل شيء حتى على خوفها منه، وارتيابها به.. لقد ظنت في فترة ما أنها قد أحبت نادراً.. لكن ذلك الظن تبدد تماماً بعد أن التقت بمحمد حتى غشاها في الفترة الأخيرة شعور بأنها يجب أن تلبي رغبته بالابتعاد عن نادر.. لقد صدمها الأخير لما أراد أن يقدم لها رشوة، ثم ذكرها بواحدة ظنتها هدية منه عندما أخذتها.. ما حسبت قط أن ما قدمته له من خدمات، والإسراع في إنجاز معاملاته لدى المدير شيء يستوجب هدايا وضحت في النهاية بأنها رشوة.

… سامية

بدا مديرها منذ صباح هذا اليوم شديد الجدية صارماً حتى حين حياها عند مجيئه إلى المكتب، وهو يستدعيها.. هناك أمر غامض لا تدري ما كنهه:

… نعم يا أستاذ..

… تعالي إليّ..

وجدته قد تخلى عن مكتبه، وجلس على أطول الأرائك بعد أن وضع على طاولة صغيرة من الزجاج مجموعة الفواتير المحتاجة إلى توقيعه:

… تعالي.. اجلسي على هذا المقعد..

بدا شديد الجدية، فأوجست شيئاً من الخوف:

… اسمعيني جيداً..

… خيراً يا أستاذ..

… كنت يا سامية طوال وجودك معي مثال الموظفة النشيطة المخلصة..

… شكراً يا أستاذ، لكنني خائفة من هذا التصريح..

ابتسم مطمئناً، لكنها لم تطمئن.. لا تزال تنتظر ما بعد التطمين:

… لا تقلقي.. هناك أمر يخيف حقاً، لكنه لا يخصك..

… الحمد لله..

… هذه الأوراق، وأوراق مثلها كثيرة محشوّة بالسرقات، وقد أخرتها للتدقيق رغم محاولاتك غير المقصودة الإسراع بتوقيعها..

ظهر الروع على الوجه الجميل:

… قلت لا تقلقي.. علمنا أنا ومحمد أنك بريئة مما يفعل الآخرون..

… محمد؟.. أي محمد؟..

… محمد حسن الموظف بالحسابات كما يظن الجميع..

… ما به هذا الآخر؟..

… لقد زكاك هذا الصديق، واستبعدك من العصابة تماماً

لكن العلاقة شبه المعلنة، بينك وبين نادر قد رابتني في فترة من الفترات..

وشردت بعيداً عن بقية الحديث.. لقد كان شكها في شخصية محمد صادقاً إلى حدٍ بعيد.. ها هو مديرها يؤكد ذلك الشك، فكم هي مسكينة عاثرة الحظ.. لقد أحبت شاباً كاذباً زائف الشخصية أوهمها بأنه شديد الإعجاب بها، فليتها ما عرفته..

ليتها لم تطاوع قلبها الأحمق الذي أوردها موارد الخيبة.. إن تزكيته لها عند صديقه لا تعفيه من جريمة التغرير بها، وإشعارها بأنه شديد الاهتمام بشخصها.. فلمَ فعل ذلك؟.. هل استهان بفقرها، وأخذ يتسلى بعواطفها ككم مهمل يحق له أن يتناوله متى شاء، ثم يقذف به متى أراد.. ويل لهذه القلوب القاسية التي لا

تحترم مشاعر الناس..

… المهم.. أريدك أن تتنبهي لما يحدث تماماً..

ما دمتما قد برأتماني أنت وصديقك يا أستاذ، فما دخلي أنا بالأمر؟..

قالت ذلك بشيء من الحزن.. ثم أردفت:

… أنا مجرد سكرتيرة أؤدي واجبي وحسب.. وإن كان لديكما أي شك في شخصي، فأرجو إعفائي من الوظيفة..

أدرك خليفة ما تعانيه سكرتيرته تلك اللحظة.. وأدرك أنها قد صدمت في صديقه، ورأته خدعها بإخفاء شخصيته، وتجسس عليها، فابتسم:

… هوني الأمر عليك يا سامية.. نحن نراك شديدة الأهمية..

… بل أخشى أن تروني مسربة للأسرار.. أعدك يا أستاذ خليفة بألّا أفعل هذا حتى في حالة تركي للوظيفة..

ثم ظهرت الدموع في عينيها:

… أووه.. أنت شديدة الحساسية والرقة.. لقد أسأت فهمنا، وذهبت بعيداً، يا سامية..

وضغط جرساً على مكتبه ليدخل عليهما فتىً أسمر اللون:

… احضر كأس ماء، وأعد لنا كوبين من الشاي..

خلال ذلك كانت سامية تحاول أن تتجاوز ضعفها بالنظر إلى مجموعة الفواتير على المنضدة الصغيرة، لكنها لم تفلح في إقصاء شعورها بالأسى:

… آسفة، يا أستاذ خليفة.. ما كنت أعلم بكل ما يجري..

… محمد أكد هذا الأمر، لكنه خشي أن يستغل نادر براءتك، فيجرك دون أن تشعري..

… يسعدني إذاً، يا أستاذ أن أكون متعاونة معك إلى أقصى الحدود.. لكن لي رجاء..

… تفضلي..

… أن يكف صاحبك عن مضايقتي..

فانطلق خليفة يضحك بعد أن تأكد من السبب الحقيقي لبكائها.. تأكد أن سكرتيرته الجميلة قد أحبت صديقه، لكنه تجنب إحراجها فيما تود أن تبقيه خافياً:

… كما تشائين.. بل قد أطرده من الشركة إذا رغبت…

بعد أن غادرت سامية مكتب خليفة وجدت أنها كانت محظوظة إلى حدٍ بعيد.. ربها الرحيم الذي علم بحسن نواياها رحمها من غفلة كادت تودي بها بالضلوع في أمر خطير لم يكن لها به غرض، فبعث لها من يزكّيها لدى مديرها، ويبعد عنها التهمة، لكن من زكّاها قد خدعها بتقمصه شخصية أخرى قريبة منها.. فعل ذلك حتى جعلها تحبه.. فليته لم يفعل.. ليته ألمح إليها منذ البدء أن وضعه بعيد عن وضعها.. كان نبيلاً في تزكيتها لدى صديقه، وتبرئتها من الخيانة، لكنه لم يكن كذلك في تعامله مع عواطفها.. كم هي ساذجة، وعرضة للوقوع في المهاوي تلك السذاجة.. الأول أوهمها بحبه ليستخدمها في أغراض دنيئة، فأتى قبل أن تفعل مَن كشفَ خيانته، وتلاعبه بعواطفها ضمن تلاعبه بالأمانة التي أسندت إليه، لكن من أعد نفسه منقذاً نبيلاً فعل ما فعل الأول، وربما أشد.. فيجب أن تجتاز سذاجة لن تورثها سوى المتاعب، يجب أن تحذر زلات قلبها.. وهذا القلب الأحمق يجب أن يكف عن طيشه، وشعرت بالدمع يتدفق من عينيها مرة أخرى فسحبت مجموعة من المناديل الورقية وهربت نحو نافذة مكتبها مخافة أن يفاجئها أحد

بالدخول، فيرى ضعفها…

ما كادت ساعة انصرافها تأتي حتى انطلقت تغادر المكتب قبل الآخرين.. إنها تهرب كي لا تراه ساعة انصرافه مع بقية الموظفين الذين ما كف عن خداعهم بتقمص شخصية الموظف البسيط في قسم الحسابات كما خدعها منذ أن جاء:

… مساء الخير..

ها هو يخدعها مرة أخرى، ويفاجئها بوجوده في مقدمة البناية التي تسكنها مع أمها.. كم هو جريء معها هذا الشاب الوسيم.. وأشاحت بوجهها إلى الجهة المعاكسة، ثم انطلقت نحو المصعد، فلحق بها قبل أن تتمكن من إغلاق بابه:

… إن لم تسمعيني سأدخل خلفك إلى الشقة..

قال ذلك وهو يبتسم مناكفاً:

… أرجوك يا سيد محمد أن تدعني لشأني..

… ها أنا قد أصبحت سيداً..

ثم انطلق ضاحكاً، فاضطرت إلى التوسل بإصدار إشارة خوف أن يسمع ضحكه أحد:

… أرجوك.. نحن أسرة بسيطة محافظة تخشى كلام الناس..

… وهذا أحد الأسباب التي تشدني إليك، وسأقاتل حتى ترضي عني..

هربت بعينيها بعيداً حتى لا يرغمها على التجاوب معه، وكان المصعد قد بلغ الطابق التاسع، فلما وجدته عنيداً يصر على تنفيذ ما قال اضطرت إلى الليونة لتنهي ذلك الموقف المريب:

… حسناً.. ماذا تريد مني؟..

… أريد أن تسمعيني قبل أن تقرري رفضي..

… موافقة.. غداً في المكتب، إن شاء الله..

… لا.. المكتب ليس مكاناً لائقاً بذلك..

… فإن قصدت الخروج معك إلى مكان آخر، انس الأمر.. لن يحدث ذلك أبداً..

… لمَ!..  لن نكون وحدنا.. سنكون في مكان عام..

… قلت لا وألف لا..

وغادرت المصعد غاضبة متجهة بخطوات سريعة نحو باب الشقة:

… انتظري.. انتظري قليلاً..

وغادر المصعد ليلحق بها لكنها التفتت نحوه متوسلة:

… أرجوك.. أرجوك لا تفضحني.. جزاك الله خيراً..

ووجد في عينيها دموعاً تتهيأ للتفجر، فارتدَّ عائداً إلى المصعد بينما اتجهت هي سريعاً نحو باب الشقة تفتحه بمفتاح أخرجته بحركة عصبية من حقيبتها اليدوية.. فلما اختفت خلفه ابتسم محمد راضياً، وتمتم بينه، وبين نفسه.. لله درّك يا حبيبة.. ما خيّبت ظني بك أبداً.. لكنني سأفوز بك إن شاء الله على شرعه، وعلى سنة نبيه.. ثم ضغط زر المصعد، حتى إذا بلغ الشارع ركب سيارته متجهاً نحو بيت صديقه خليفة حيث تواعدا على الذهاب معاً إلى المحامي بعد الغذاء لمناقشة الدعاوى التي سيرفعها الأخير وكالة عن خليفة على كل من إلهامي، وأبي أحمد، ونادر..

أخذ خليفة يدفع بأطباق الطعام نحو محمد خلسةً، وينصت إليه باسماً وهو يحكي ما حدث بينه، وبين سامية قبل أن يأتي إليه:

… كدت أن أدخل خلفها إلى الشقة فعلاً، لكن دموعها ردعتني..

… أنت حقاً جسور.. لو كنت مكانك ما فَعلت..

… وأنا أيضاً، ما كنت سأفعل لولا إحساس قوي في أعماقي بأنها تبادلني نفس العاطفة..

… شعرت بذلك عندما اجتمعت بها بخصوص الفواتير.. شعرت بأنها قد أصيبت بصدمة أنك خدعتها.. وللأمانة هذه الفتاة مهذبة جداً.. هي الوحيدة التي لم تحاول مغازلتي، وإغرائي من بين كثيرات عملن معي.. هي، وواحدة أخرى مسنة.. أهنئك يا صديقي إن تمكنت من الحصول عليها..

… سأفعل إن شاء الله..

… بقدر فرحتي أن تنال السعادة معها سأواجه ارتباكاً عندما تترك مكتبي هذه الفتاة..

… ستكون صديقة لأم أحمد يا خليفة..

… نعم.. إن شاء الله…

لم تستطع سامية أن تفسر المشاعر التي واجهتها بعد أن أغلقت الباب في وجه من تحب، فانخرطت في بكاء عميق أخفته في دورة المياه عن عيني أمها المنشغلة بترتيب طاولة الطعام حين دخلت ابنتها الشقة، واتجهت مسرعة نحو دورة المياه دون أن تراها، أو تلقي عليها التحية كما اعتادت كلما جاءت من الخارج.. لقد شعرت سامية بصدق عاطفته، وعذرت له ما فعل بعد أن غاب عن عينيها.. لكنها لم تستطع حين كان معها أن تتجاوز ألماً أن يضعها موضع اختبار، أو أن يساوره مجرد شك في نزاهتها..

حقاً هي فقيرة، ومحتاجة إلى كثير مما تتمتع به الأخريات، لكن ليس كل فقير، أو محتاج خائناً.. بل الخيانة في معظم الأحيان تأتي من الموسرين.. لقد علّمها أهلها العفة إلى جانب العلم.. بل قصدوا من العلم صيانة للعفة من الحاجة، والسؤال، والخيانة.. هي حقاً لا تملك مالاً كالذي يملكه صديقه، وربما هو.. لكن لديها شيء أثمن من المال.. لديها الكرامة وعزة النفس:

… صباح الخير..

… صباح الخير، سيد محمد..

فصمدت أمام نظرة حادة أطلقها نحوها لأول مرة:

… كفي عن إطلاق هذه الألقاب السخيفة التي تعلمتها في الأيام الأخيرة..

شعرت بأنها قد أثارت عصبيّته، فنظرت في أوراق بين يديها لتتحاشى الابتسام:

… الأستاذ خليفة في انتظارك..

اقتضت الخطة بينها، وبين خليفة ألّا تظهر علمهاً بما يحدث وبالتالي لا تبدي تحولاً عن نادر حتى لا يستشعر أفراد العصابة خطراً، وطلب خليفة منها فقط أن تشعره إذا حضر إليها نادر دون أن يخبرها السبب، لذا حين جاءها نادر بعد دخول محمد إلى مكتب المدير افتعلت عذراً، ودخلت إليهما:

… نادر في مكتبي..

خاطبت خليفة بذلك هامسة دون أن تنظر نحو محمد، فأومأ الأول برأسه متجاوباً.. حتى إذا عادت إلى مكتبها فتح جهازاً سريّاً للتسجيل ثبتته الشرطة بطلب من خليفة في أحد أجزاء مكتبها دون أن تعلم عنه شيئاً.. ولم يكن سبب إخفاء وجود الجهاز عن سامية بقية شك في نزاهتها التي تأكد منها الاثنان بقدر ما كان تجنيباً لها من الاشتراك في ذلك الشرك الأمني، واحتياطاً أن تضعف الفتاة، أو ترتبك إذا علمت بوجوده.. كـان ذلك الإجراء الاحتياطي صادراً من مسؤول الأمن المكلف بتتبع القضية أضطر محمد للرضوخ له على مضض، وكان القصد من وضع الجهاز مضاعفة الأدلة على العصابة، وقد أدّى فعلاً

النتيجة المرجوة منه…

رسو المناقصة على الشركة كان أول جرس إنذار قرع في اطمئنان إلهامي، وهدوءه لعلمه المسبق أن سعرها ليس أقل الأسعار.. فلما أخطرت الشركة من قبل الوزارة برسو المناقصة رسميّاً، وجاء ضمن خطاب الإخطار السعر الذي لم يضعه، أيقن أن المناقصة التي وضع سعرها قد استبدلت بواحدة أخرى،

فارتبك في البدء، ثم حمل الخطاب إلى مكتب خليفة..

… أبو أحمد.. هذه ليست مناقصتنا..

شعر خليفة أن شريكه يطلق مناورة ليبرئ نفسه من خلالها، فابتسم دون أن يظهر شكاً:

بل مناقصتنا.. أو لنقل نسخة ثانية منها..

… كيف!.. لم أفهم..

… قدمت أثناء سفرك نسخة أخرى، بعد أن خسرنا مناقصات كثيرة، وقد نجحنا ولله الحمد

… لكن سعر هذه المناقصة ليس كافياً.. بل قد يعرضنا للخسارة..

… لا أظن… حاول أن تدرسها مرةً أخرى..

… من الذي قام بوضع السعر؟..

… المهندس حسن..

… أكاد أجزم إذاً بأنها خاسرة.. هذا الشاب لا يعرف أسعار المواد تماماً..

… هذا ما حدث.. وأنا من كلفه بذلك.. فحاول أن تدرسها على مهل

… نعم.. سأحاول..

ثم غادر المكتب متصنعاً الغضب، فودّعه خليفة بنظرة ساخرة.. لكن إلهامي لم يحاول تلك الليلة رؤية المناقصة، بل شرع منذ أن غادر مكتب شريكه في ترتيب أمور أخرى تشير إلى عزمه السفر.. وبعد ثلاثة أيام منعته شرطة أمن المطار من ركوب طائرة متجهة إلى بلد أوروبي، ونقلته إلى غرفة صغيرة في قسم

التحقيق بمديرية الأمن…

ظل محمد قلقاً أن تكتشف سامية جهاز التصنت الذي ثبتته إدارة الأمن في مكان خفي من مكتبها، أو أن تعلم بأمره حتى تم فصله.. كان يعلم شدة حساسيتها، وقد أخذ وقتاً طويلاً حتى استطاع تخفيف شدة حنقها عليه نتيجة عرضه الخروج معها إلى مكان عام، وقبل ذلك وضعها تحت الاختبار عندما أخفى شخصيته الحقيقية، وجاءها في هيئة طالب وظيفة:

… ما كنت أحسب أن هناك أناساً حاقدين إلى هذا الحد..

قال ذلك وهو يهبط خلفها سلالم الشركة.. وكانت قد تجنبت استخدام المصعد حين رأته يتجه نحوه، فتراجع عن دخوله حين رآها تتجه إلى السلالم، ولحق بها:

… السلام عليكم يا..

… إن ذكرت لقباً سأتهمك بملاحقتي..

قال ذلك مندداً بصورة مرحة، فابتسمت، وزرعت عينيها في الدرجات:

… أتدرين.. يفتنني هذا الوجه الجميل المحاط بالخمار الأسود..

ثم شرع يدندن بالقصيدة الشهيرة حتى أضحكها:

… هل أوصلك في طريقي؟..

… لا ..

… ألن تدعيني يوماً على وجبة في بيتكم؟..

… لا ..

… لمَ؟

… نحن أناس بسطاء، ولن يرضيك طعامنا..

… جربيني ثم احكمي..

… لا.. لن أفعل..

… ما أكثر كلمة لا في قاموسك، لكنك ستفاجئين عندما أقرع باب شقتكم ذات يوم، وترحب بي امرأة أكرم منك..

… ذلك الحين لن تكون أمامي وسيلة لرفض استضافتك..

ورغم ذلك كانت تتمنى في نفسها أن تلبي كل ما طلب.. لقد نما حبه في أعماقها نمو بذرة قوية المنبت في أرض شديدة الخصوبة، فأخذت براعمها تتفتح سريعاً، وأفنانها تمتد في كل الاتجاهات حتى ظللت سائر المساحات، وغطت جميع أحبته بعد أن عرفت وضعه لربما خامرها شك في حقيقة ذلك الحب، ووسوست لها ظنونها بأنها قد طمعت في شاب موسر لكنها في الحقيقة قد حلمت به شاباً مكافحاً تضع يدها في يده لبناء أسرة صغيرة مستورة الحال، فهل سيرى الأمر كما رأته هي أم ستنبت في خلده نحوها أصابع للتهم ذات يوم؟.. ذلك ما يرعبها، ويشحذ خناجر الرفض التي توجهها إليه كلما حاول الاقتراب منها.. ليته بقي كما كان.. ليته حقاً الموظف الصغير في قسم الحسابات…

فوجئ خليفة بمحمد يقف أمامه دون أن تعلن سامية كالعادة عن مجيئه:

… هنئني يا سيادة المدير..

فرفع خليفة رأسه باسماً نحو صديقه الذي تسلل إلى مكتبه في غفلة من رقابة سكرتيرته، ثم غادر مكانه ليصافحه في منتصف الطريق:

… مبارك.. مبارك.. هل تمت الخطبة..

… بل جاءت الموافقة من الوزارة، وسأغادر هذا المكتب عن قريب..

… ماذا؟!..

قال خليفة منزعجاً:

… ذلك ما حدث..

… وتريدني أن أبارك!.. ستتركني، وتريد مني مباركة!..

… نعم.. وسيرتاح موظفوك من مشاغباتي، وحشر أنفي في شؤونهم.. سأصبح يا أبا أحمد، موظفاً حكومياً ملتزماً بساعات دوام رسمية ولو لم أؤد فيها شيئاً، وسيكون لي مكتب خاص، ومدير معقّد أجامله، وأرضخ لأوامره ولو كانت غبية، وأمتدحه أحياناً..

فأخذ خليفة يضحك من الأسلوب الساخر الذي يصف به صديقه حال موظفي القطاع العام، ثم شرع يشاركه النقد بنفس الأسلوب المرح:

… وقد تتأخر ترقيتك سنوات طويلة إذا لم يعجب وجهك المدير..

… وقد يرفع المدير عني تقارير سيئة إذا شعر أنني قد اكتشفت غباءه..

… وقد يقدم عليك في الوظيفة أحد معارفه، أو محسوبيه في غياب الرقابة الإدارية..

ثم أخذا بالضحك، والمرح:

… وقد.. وقد.. لكن لا بد من ذلك..

… وما الذي يحوجك إلى كل ذلك يا صديقي!.. لمَ لا تفكر في العرض الذي طرحته عليك؟!

… حرام يا أخي أن ألغي مجهود سنوات من التخصص..

… لا تكن مثالياً جداً.. أمور الدولة ستسير بدونك، ولن تحصد أنت سوى الإحباط والهموم..

فقال محمد متهرباً من إصرار صديقه بالبقاء معه:

… دعني.. دعني أجرب حظي.. لعلي أجد مديراً نادراً…

كما تشاء.. لكنني سأخسر وجودك معي حقاً..

… العفو..

… على أي حال، سيظل عرضي مفتوحاً طوال الوقت..

والآن:

… ماذا؟..

… ماذا فعلت مع صاحبتك؟..

… تحسنت الأمور بعض الشيء.. لكنها شديدة الحساسية

اسمع..

… ماذا؟..

… دخلت إليك في غفلة منها.. لمَ لا نحاول ممازحتها قليلاً..

… كيف؟..

… دعني أخاطبها عبر الجهاز، واختف أنت في الشرفة..

… هيا افعل..

ثم اتجه إلى باب الشرفة ضاحكاً بينما اتخذ محمد مكانه خلف المكتب، وفتح زر الجهاز

… سامية..

حاول أن يحاكي صوت صديقه، وأسلوبه:

… نعم، يا أستاذ خليفة..

… ألم أنهك مرات عديدة عن استخدام هذه الألفاظ السخيفة!..

حينها ميّزت سامية صوته، فانطلقت ضاحكة:

… ثم كيف تغفلين عن دخول شخص مزعج إلى مكتبي!..

لم يجعلها الضحك تقول شيئاً:

… الآن عقاباً لك ضعي ابتسامة جميلة على وجهك، وادخلي إليّ بسرعة.. انتهت المحادثة..

فلم يستطع خليفة البقاء في الشرفة، وعاد إلى المكتب ضاحكاً ليواجه سامية في الباب الآخر تضحك أيضاً.. ثم قالت حين وجدت صاحبها محتلاً مكتب صديقه:

… كنت متأكدة أن هذا الرجل اللطيف المحترم لا يتحدث بهذا الأسلوب المناكف..

… أتمتدحين أمام مديرك شخصاً غريباً!.. سأخصم من راتبك أسبوعاً..

ظل محافظاً على هيئته الجادة مسيطراً على الضحك.. فقال خليفة:

… اطلبي شاياً لثلاثة يا سامية وتعالي لتساعديني على هذا المتمرد..

اتجهت إلى الباب، وبعد أن طلبت من موظف المقصف المراد، عادت متسائلة

… خيراً إن شاء الله يا أستاذ؟..

… أصر هذا على تركنا إلى وظيفة حكومية.. ثم قرر ألّا يأتي لزيارتنا حتى تدعيه إلى طعام في بيتكم.. رأيت كم هو نهم هذا الشاب!..

كشف التحقيق مع أفراد العصابة أموراً كثيرة، وأدخل ضمن الأربعة السابقين إلهامي، ورئيس الحسابات، وزوجته، ونادر وعددا آخر في قسم الهندسة، والمخازن والمعدات.. لكن بعضاً منهم كان جرمه أخف من الآخر حيث كانوا خاضعين لأوامر صادرة من شريك صاحب الشركة، وكبير مهندسيها، ثم شمل مجموعة أخرى من أصحاب وموظفي المحال التجارية والمؤسسات التي تتعامل معها الشركة في جرم التزوير والرشوة، وإصدار فواتير مخالفة للقيم الحقيقية.. كما تم إغلاق وشطب اسم الشركة الوهم التي كان إلهامي يتستر خلفها من سجلات البلدية والجهات المختصة الأخرى، والخلاصة أن خليفة قد استعاد قرابة المليونين من أرصدة إلهامي داخل البلاد، وأرصدة أخرى في الخارج كما استعاد خليفة مبلغاً لا بأس به من بقية أفراد العصابة، فقام بمكافأة المخلصين الذين قاوموا تيار الفساد والضغوط التي مارسها تجاههم ذلك التيار من أمثال السيد عمر والمهندس حسن.. كما عين خليفة الأول رئيساً للحسابات، والثاني كبيراً للمهندسين، وحاول كثيراً أن يغري محمداً بالبقاء، فعرض عليه نسبة ١٠% من صافي الربح إضافة إلى راتب شهري مرموق لكن صديقه قاوم جميع المغريات، وأصر على الوظيفة الحكومية…

فوجئت سامية عندما فتحت باب الشقة بوجود أمها أمامها مباشرة:

…تعالي من هنا.. لدى أخيك ضيف غريب..

فطرقت رواقاً صغيراً يؤدي إلى غرفتها مباشرة.. كانت مرهقة، وتريد أن تتناول الوجبة ثم تلجأ إلى الفراش لتنام لمدة ساعتين على الأقل قبل أن يزف موعد العودة إلى المكتب لفترة بعد الظهر.. لقد لاقت إرهاقاً شديداً في الفترة الأخيرة بعد أن وثق بها المدير كثيراً، واعتمد عليها في ترتيب كل شيء كما أن غياب صاحبها قد طال.. طال كثيراً، وأصبح الشوق إليه يؤرقها ليلاً.. خلال النهار تتشاغل عن طيفه بالعمل، وإذا عادت إلى البيت تشاغلت بأمها وأخيها، وبعض الجارات، لكنها إذا أوت إلى فراشها، وأخمدت ضوء الغرفة انبعث من تحت أجفانها المطبقة يقول لها باسماً.. أما لك أن تدعيني إلى بيتكم؟.. ولجأت إلى دورة المياه تنضح وجهها بالماء البارد لتقاوم النوم.. فقابلتها أمها لدى مغادرتها:

… سامية.. هل تعرفين شخصاً يدعى محمد عبد الله حسن؟..

ارتبكت سامية عندما سمعت اسمه، ثم شعرت بشيء ما في أعماقها يكاد يضعفها .. لكنها قاومت:

… نعم.. عمل فترة في الشركة.. إنه صديق المدير فابتسمت الأم، وربتت على كتفها، ثم اتجهت إلى المطبخ دون أن تقول شيئاً، فلحقت بها سامية بعد أن ساورها قلق:

…أمي.. انتظري..

فتشاغلت أمها بعمل شيء لتضاعف من إلحاحها:

… أمي.. من أين أتيت بهذا الاسم؟..

… لا شك أنك مرهقة يا حبيبتي.. كيف لم تخبريني بأنك قد دعوت الشاب حتى استعد له؟..

بهتت، وظهر على وجهها قلق:

… أنا دعوته!.. أنا لم أدعُ أحداً، يا أمي

… بلى.. تبدين كثيرة النسيان هذه الأيام، يا سامية..

… أقسم بأني لم أدعُ أحداً..

… والفتى الذي مع أخيك الآن!.. هل سيدعي عليك كذباً؟..

حينئذ تنبهت فلبثت برهة مشدوهة، ثم دفعة واحدة تفجرت ضحكاً:

… فعلها المجنون.. فعلها والله..

فوجئت أمها برهة ثم لم تلبث أن لحقت بها ضاحكةً..

… والجنون.. الجنون الأكبر ادّعاؤه أنك تحبينه..

قالت ذلك الأم أثناء ضحكها:

… أقال!.. أقال ذلك!..

… أي والله قال..

… صدقيه.. صدقيه، يا أمي..

كل ذلك وهما لا تكفان عن الضحك.. لكن الأم توقفت فجأةً بعد سماعها الجملة الأخيرة، وأخذت تنظر نحو ابنتها.. ثم شعرت بالخوف عليها، فضمتها:

… سامية.. حبيبتي.. ما بك؟.. هل أنت بخير؟..

أخذت سامية تمسح بكفّيها دموعاً أغرقت عينيها:

… بخير.. بخير، يا أمي.. لكنني اشتقت إليه كثيراً..

جذبتها الأم من يدها إلى أحد مقاعد المطبخ:

… أخبريني.. أخبريني، ما الأمر؟..

… أحب ذلك المجنون الجالس مع أخي..

… منذ متى حدث هذا الأمر؟..

… منذ أول يوم رأيته فيه.. منذ ثمانية أشهر تقريباً جاء في هيئة شاب يطلب وظيفة..

وبعد أن استمعت أمها إلى الحكاية كاملة مسحت بكفها على رأسها بحنو:

… أنتما معاً مجنونان..

… لكنه جنون جميل يا أمي..

… صحيح.. جنون جميل جداً..

… لقد حاول كثيراً أن أدعوه أنا، فلما رفضت قال لي، ستجدينني يوماً أقرع باب الشقة لأجد امرأة أكرم منك ترحب بي..

… وقد فعلها حقاً..

… نعم، فعلها المجنون..

ولمَ لمْ تخبريني من قبل؟.. بل لمَ كنت ترفضينه إذا كنت تحبينه كل هذا الحب؟..

… خائفة يا أمي.. خائفة من التباين بين وضعينا..

… أنت شديدة الحساسية.. هذه الأمور لا تصمد أمام الحب.. انظري إلى وضعي مع أبيك، رحمه الله.. أنا من أسرة موسرة جداً، ورغم ذلك عشت معه على الكفاف رافضة كل أموال أهلي كما اشترط عليّ.. لقد عشت معه سعادةً لا أظن أحداً من أخواتي الثلاث اللائي تزوجن موسرين قد حظيت بها..

… أحقاً، يا أمي؟..

… نعم.. والآن هيا، دعينا نذهب إلى مجنونك الذي ينتظرك…

العين

8/12/1998

زهرةٌ بين أشواك

علي أحمد الحميري.. من المجموعة القصصية (شيء من هذا القبيل)