وثب عازف البيانو الأسمر على خشبة تشبه المسرح وأنتظر قليلاً قبل العزف..
قبل ثوانٍ من تلك اللحظة كان صديقه الصحفي، يجلس على طاولة صغيرة منزوية في انطفاء مستبد، ينتظر صديقه عازف المساء، أو يقال بأنه ينتظر النادلة الصبية التي تداعبه قبيل طلب الشاي، وبالتأكيد يتجافى عن سماع صوت المغنية البيضاء التي لا يطرب لها، لا تأسره في غنائها
كانت لحظة قليلاً ما يحصي فيها أياماً وسنوات منذ ارتاد هذا “الكوفي شوب” في بهو فخم من قلب الفندق، وفي الآونة الأخيرة تمادى في جلوسه مع عازف البيانو وثقل على آخرين كان يجالسهم.
وفي لحظة مباغتة بدأ العازف بإزالة القماش الناعم عن وجه آلة البيانو المطلي باللون الأحمر، بدأ يمسد على أصابع النغم البيضاء والسوداء، يظهر مفاتن جلية لها وهو يدندن من دون لحن، كأن يستدرج إليها الروح، يهيئ الجمع على بدء ذي شفافية عذبة ولها من الجسد ما يشبه فتاة في أنوثتها تخفق بترانيم لا تبارح ذاكرة حلمه.
وكعادته اليومية يبدو منتشياً يعبر بين ممرات “الكوفي شوب” الضيقة، يلاطف أصدقاءه بمتعة مبتسمة متجذرة في عزف المساء الجميل، ينتهي به المطاف إلى طاولة صديقه الصحفي، يصافحه بابتسامة من القلب، تشبه شفافية الستائر المطلة على البحر
ووقت المساء لا شيء سوى اللحظات تجدف بالبحر نحو الهدوء، لكن هناك ما يغلب الحوار بينهما وهما أمام تسربل دقائق الوقت وارتباكها بين انعتاق رائحة البحر وتهيؤ العازف.
يقول الصحفي .. لا هدوء ولا سكينة فكيف لك العزف يا صديقي؟
كيف تعد اصابعك للضربة الأولى؟
كيف وعلى الضفاف الأخرى من الحياة غربة تلفظ أمواجها بما تبقى من أرواح الصغار؟ كيف لك العزف والحياة تشهد بمعاناة جسيمة تتشرد منها الإنسانية؟
وجم عازف البيانو الأسمر وجوماً كأنه تمنى لو تخطى هذه الطاولة الصغيرة، كان لو استمر إلى الطاولة الأخرى لحدّث جاره طويلاً عن حاله حين كان بولاية “جورجيا”
لكن عاد ليتحدث معه بهدوء العازف قائلاً: فعلاً الـمُثل في الحياة قد اختفت تماماً وما بدأ يتجسد هو الجنون والفوضى فحين كنت بولاية “جورجيا” نقول لا معاناة تشبه معاناة السود وتاريخ نضالهم من أجل الحرية تلك القسوة التي ولدت قوة التحرر.
إنها ثورة العزف من أجل العالم الذي تتملكه ثورات وثورات ..
فلا تنسَ ثورات الحياة التي بدأت منذ زمن كثورات الجسد والجنس التي برزت بعد إخفاق حالة الحب وتشرنقه حتى أصبح كبتاً يضاهي كبت الحرية الآن في الأوطان المحاصرة.
فقال لولا مجيئي إلى أبوظبي لظللت أعاني من مهزلة اسمها عاطلاً عن العمل، ولظللت أستجدي المارة من أجل لقمة العيش، ولظللت من البؤساء أعاني النفي المستبد من مدينة إلى أخرى.. ورغم هذا لم يكن في الحسبان أن ينتهي بي العزف إلى هذا الفندق الفخم والمعتاد بضيوفه من كبار الوزراء والدبلوماسيين إلا أنهم بسبب ثورات الشعوب في أوطانهم رحلوا شرقاً أو غرباً أو ها هم يستمعون إلى عازف مثلي من طبقة مهمشة فكم هذه اللحظة مدهشة،
فلا بد أن يبدأ العزف ويؤجل الحديث، فالمغنية البيضاء تأخذ مكانها.
فلا بد أن يبدأ العزف معها فهي دون سواها لن تنطلق حنجرتها صادحة إلى عناء القاعة بدون العزف.
فما لبثت إلا لحظات حتى انطلقا سوياً هو يعزف ما اتفقا عليه وهي تردد أغاني شهيرة كعادة المغنين والعازفين أمثالهم يغتاتون من غناء غيرهم إلا أن معاناتهم لا تقل عن أي مهنة فهي قبل الغناء لا بد من طقوس محفزة فهي في حالة تأهب يعني ما يبقي على طبقة صوتها قابلة للغناء.
جلس الصحفي يكتب مادته الصحفية مستمتعاً بعزف صديقه وهو يرتشف الشاي وينتظر اللحظة التي يفرغ منها العازف فلم تعد الاستراحة ببعيدة ولعله لم يعرفه حق المعرفه ولأول مرة يعرف بأنه كان عاطلاً عن العمل، وهذا ما أبقى الأرضية مشتركة ما بين متقاعد مثله وعاطل مثل صديقه.
يقاوم التقاعد وهو يكتب لبعض الصحف والمجلات مقالات متفرقة ويستمع إلى صديقه وهو يعزف بجمالية متناهية وكلٌّ له فلسفة وألف فلسفة ولازال يكتب عن حواره القديم المتجدد وعن قضيته في الحياة أن يصبح العالم نباتياً قبعته الإفريقية تمنحه صفة ربما دينية ربما يواري خلفها فلسفته.
وفي حواره الصحفي كان يدعو البشرية إلى أن لا يتغذوا على اللحوم الحمراء والبيضاء بداعي مصدرها حيوانات وأسماك فمن طبيعتها يقول بأنها تتغذى على قاذورات لا تناسب طبيعة البشر. فقال له يا صديقي.. لكن جسدك يميل إلى الاصفرار والخمول والضعف الباين، ولا تنسَ أن النباتات تتغذى عليها الديدان والحشرات وأنت تتقاسمها الطعام فهذا أيضاً لا ينبغي، لكنه ضحك وقال هذا بلا معنى.
بغرفته في الفندق كان متفرداً بفلسفته بأن البشر يجرون الحياة نحو دمار الكون دمار الإنسانية يبث ما يقوله فلاسفة يؤيد أقوالهم وفلسفة حياتهم ويقتديها ويقول على لسانهم بأن دمار الخليقة على يد صانعي هذه القرارات المدمرة، ويقول على لسانهم بأن قوة الاقتصاد تحتقر ضعف الإنسان وتدمر الطبيعة وتسحق كل شيء جميل.
ويستمر في حديثه العازف وبفلسفته بأن سياسيين بعينهم ميزتهم أنهم هم الاقتصاديون الذين يخططون نحو هلاك البشرية فمن رائحة عطرهم تخلق معاناة الشعوب وبعضهم مقيمون بالفندق يستمتعون بعزفي لأنهم أغنياء لكنهم مشردون مثلي باتوا يتقمصون الذات التائهة، لكنهم لا يشعرون بها.
وللمغنية البيضاء الأنيقة يستحضرون فيها أغاني “وتني هيوستن ” و”ليون رجي” و”بيلي أوشن” يقتاتون من وقتهم ومن وقتنا وكلانا يستشعر الحياة من جمالية الموسيقى وفي لحظة نشعر بأن العالم تستقيه روح العزف.
فقال له يا صديقي لكنهم مشردون من طبقة رفيعة جداً فهم نهشوا لحوم البشر وتغذّوا على دماء شعوب لا تحتمل البؤس والشقاء، لذا دماؤهم حمراء فاقعة اللون هم من اكتنز الذهب والفضة ولديهم أموال طائلة.
وأنت ماذا لديك سوى أنك عازف مشرد تحاول أن تشبع رغبتك النباتية مسجلاً من خلالها موقفاً.. فمن العراء جئت لتنام في فندق كهذا وغرفة أنيقة كهذه ليس من عجينة أحلامك ولا هذا الطعام النباتي الفاخر عرفت رائحته من قبل كيف لك ان تسترجع أحلامك.
حديثه أضفى عليه ابتسامة صفراء كعادة ابتسامته النباتية حين تسترجع حالة المعاناة.
كأنه استرجع الألم قليلاً وعاد يتحدث قائلاً: كل منا يمتلك ذاكرة للتاريخ وأخرى للحياة.
أما هم فقد جاء كل منهم من حياة رغد والآن تشردت حياتهم وتشتتت حين لم يحافظوا على المكون الذاتي للحياة فأصبحوا هم وشعوبهم في منفى لا تعلم إلى أين تسير أقدامهم. فقال له: صدقت يا صديقي العازف كان أحدهم على الشاشة الفضية يبدو منتفخاً فأصبح منكسراً ومنصهر الروح حين يجلس هنا في بهو الفندق أو على كرسي “الكوفي شوب” كأن يستجدي ابتسامة من النادلة الصبية كأنه نسي صورته الأنيقة، نسي ضوضاء الأمس وربطة العنق الأنيقة لربما تركها منسية إلى غير رجعة.
وبعد أيام من اللقاء الأخير حضر الصحفي كعادته رآه يجلس بعيداً عن آلة العزف فعرف أنه مودع وقال له حين اقترب منه مصافحاً بصمت النهاية:
سترافقني في ذاكرتي وفي رحلتي.
وأومأ للحضور لأن يكون العزف الأخير، فالحياة تتجسد بالعزف المتجدد وبجمالية الروح التي قد تستوعب العزف.
ربما كان العزف الأخير بحجم منفى آخر.