لم تنقشع الغيوم المتراكمة.. والجاثمة على صدر تلك السهول المترامية الأطراف منذ أمد طويل.
الجو كان بارداً.. وشمس الخريف تحاول أن تنبثق من بين فجوات السحب، وتنفض عن نفسها نداوة الغبش.. وهو كعادته.. قابع في ذلك الركن المظلم يجتر الصمت محاولاً ألاّ يزعج صاحبه.
بدأت الخيوط الذهبية تتسلل من ثقوب الخيمة.. زحف أبو المعتصم إلى تلك الخيوط الساحرة.. وأخذ يتلمسها.. محركاً يديه.. وكأنه يحاول الإمساك بها.
أتاه صوت مفعم بالنعاس: «بدك تمسك الشمس يا أبا المعتصم؟!!». التفت إلى مصدر الصوت.. ولم ينطق، بل وثب إلى حيث الباب وكأنه تحرر من قيوده.
استطلع أبو المعتصم ذلك النهار بنوع من الاستغراب، حيث أخذ يمعن النظر في كل الأشياء، وكأنه يراها لأول مرة، وأخذ يردد: المكان هو المكان!! والشمس.. هي .. هي.. والخيام.. آه الخيام.. بالتأكيد هي مصدر علتي!! ثم تشاغل بجلب الماء.. وإشعال النار.. واستبد به الغضب فجأة.. وأخذ يلقي كل ما جمعه من حطب في موقد النار.. وهو يصيح: خذي أيتها السعيرة.. خذي يا ناراً أوقدت في صدري.. وصرخ من أعماقه.
تجمع حوله رفاقه.. لا حول ولا قوة.. أخذ يرددها أبو الوليد.. زميله في الخيمة واكفهرت الوجوه المتعبة وساد صمت ثقيل.. وراح أبو المعتصم في سبات عميق.
عندما نهض من فراشه.. كان مبتسماً.. وكأن شيئاً لم يكن!! حمل أدواته الزراعية.. ومضى إلى حيث الشجيرات التي غرسها.. ومنذ وصوله إلى ذلك المكان.. وجد منصوراً يقطف بعض الخضار بشيء من عدم المبالاة، اقترب منه: «ليش هيك يا ابني؟ بدك تنزع الزريعة من جذورها؟».
ارتبك منصور.. وتناثرت الثمرات من بين أصابعه.. ثم مسكه من ذراعه قائلاً: «تعال.. بدي أحكي لك حكاية.. شوف يا ابني: الشجر مثل الإنسان..!! بيتألم.. بيحس هذه الحكاية كانت بتحكيها ستي الله يرحمها.. قالت: شوف يا محمود – الشجرة بتبكي وبتفرح..! مثلها .. مثلنا.. وكمان بتقول بأن الشجرة والأرض اللي بتنبتها لزوم علينا نحافظ عليها.. وما بيصير نفرط فيها!!».
وما إن فرغ أبو المعتصم من حكايته.. حتى عاوده الهم من جديد.. تذكّر الأهل والديار.. وانتابته موجة من الذعر.. فرمى كل ما في يديه وأخذ يركض إلى خيمته.. وبحركة سريعة فضّ صرّته وأظهر منها ألبوماً للصور.. ابتسم.. هذا هو المعتصم.. وتلك هي هند. تذكر قول المعتصم: «بابا – بدي صير مهندس كبير!! وبكتب اسمي: مهندس أول: المعتصم محمود الكرمي». انفرجت أساريره.. ثم قال: هذا هو المعتصم كل حاجة بده يدخل فيها «الأول» .. كان متفوقاً.. ودائماً ترتيبه الأول.. الكتاب لا يفارق يديه.. صفق بيديه.. ثم عاودته ذكريات لا تنسى.
عندما كان المعتصم صغيراً.. كان يقول له: «بابا بدّك تقيس المسافة بين دارنا هون.. ودارنا في طولكرم.. في كم يوم بنمشيه؟!!».
زفر من أعماقه وكأنه يطرد كابوساً يكتم على أنفاسه.. ثم أخذ يقلّب الصور.. وقعت عيناه على صورتها.. تذكّرها عندما ودعته في يوم الرحيل.. قبّلته في كتفه وهمست له: سنلتقي ثم دست في يده ألبوم الصور.. رآها وهي تبتلع حزنها وترسم إشارة النصر.. كانت باخرته تمخر عباب البحر.. عندما لاح له طيفها من بعيد ولآخر مرة.. ضم صورتها إلى صدره.. وصرخ: تركت هنداً في صبرا ورحلت، ثم أخذ ينتحب ألماً وحسرة ويردد.. فقدت كل شيء.. كل شيء..!
أتاه أبو الوليد ليخفف عنه…! اذكر الله يا رجل: اطلب لها الرحمة.. ابنتك شهيدة.. ولم تكن الوحيدة في صبرا..!!
– وجعي مزمن يا أبا الوليد.. لا تلمني.
– ولكن الله أكرمك بالمعتصم..
صرخ قائلاً:
– أين هو المعتصم؟ لقد استبدل البارودة بالكتاب.. انظر إليه.. انظر إنه يتأبط سلاحاً..!! كنت أتمنى أن يحمله، ولكن ليس بهذه الطريقة!!
كان يقول ذلك وهو لم يصرف نظره عن صورة حديثة بعث بها المعتصم.. وهو في لباسه العسكري.. ثم أخذ يخاطبه: «لسّاتك بدّك تعرف المسافة بين صبرا وطولكرم؟!!».
وأخذ يحدق في السلاح طويلاً!! وعندما سمع عن نبأ الرحيل.. أظهر الصورة من مخبئها وأخذ يخاطبه.. إلى أين ستكون وجهتك أيها المعتصم بالله؟!!!
1985م