عبدالرحمن الصالح

الزنزانة رقم «2» – عبد الرحمن الصالح

كان الجو حاراً.. وذرات البخار المشبعة بالماء المالح تتكثف بسرعة غريبة على جبينه، وكلما مسح جانباً من صدغه، أمطر الآخر عليه سيلاً من العرق. منديله الذي بيده، صار خرقة تنزّ ماء، وتحوّل لونه الوردي إلى لون رمادي.

الهواء شبه معطل، عدا التيارات الناتجة عن سرعة السيارات المارة إلى جانبه.

هو معتدل القامة، ذو بشرة بيضاء نقية، وشعر كستنائي ناعم تنسدل خصلاته على مؤخر الرقبة والأذنين، عيناه واسعتان كعيني صقر تحيطهما رموش مستطيلة، ترتخي بحياء على محاجر العينين.. وعلى ارتفاع متواضع من الجفن العلوي، يتقوس هلال من الشعر الناعم، داكن اللون معتدل الكثافة.. الأنف عربي أصيل يشمخ بكبرياء وأنفة.. والرقبة شبه ممتلئة، تدثر عروقها طبقة لحمية ناعمة.

كان وحيد والديه، يغمره الدلال المترف حتى أخمص قدميه، أكمل تعليمه الجامعي وواصل المسيرة ينهل المزيد منه من أجل اليوم الأسود.. هكذا كانت جدته تقول له، عندما كانت تحثه على المذاكرة.

حينما حصل على الدكتوراه في العلوم الاقتصادية، عمل مديراً لأكبر الشركات في بلاده، لكن الزمن في أيامنا هذه لا يثبت على حال. انقلبت الموازين.. تغيرت.. أصبح الأبيض أسود، والأسود ازداد حلكة وقماءة.. ظهرت الجرذان من جحورها، وطارت الخفافيش، تمتص الأريح، وتنفث القبح في كل مكان.. هذه ردة نهايتها الدرك الأسفل.

هكذا انطلق صوته محذراً، وداعياً للوعي بعد أن فقد الجميع وعيه. التعليمات الصادرة.. تتساقط، كالحمم البركانية، في صباح يوم قائظ.. والعلامة أطلقت العنان لصوتها المبحوح في الحي.. ثرثرة وتضليلاً..

«الناس خرجت على الشرعية.. متمردون يبحثون عن شيء.. للناس؟». ارتعشت يد جدته التي تجاوزت الستين عاماً، وهي تطل من الشرفة، حينما شاهدت تابوت الأحياء الجماعي يقف عند باب بيتهم.. أربعة على الأقل من أهل العرس قفزوا إلى الشارع.. يتقدمهم نافخ البوق، ذو الشكل المزركش.. والنجوم البراقة.. التي اعتاد أن يتزين بها في مثل هذه المناسبات.

بعد عشر دقائق كان أشرف، حبة رز، ضمن حشوة «الكوسا» مرصوصاً في عمق التابوت. انتحبت أمه، شهقت الجدة.. والأب، ظل في صمته العنيد، يحملق في المجهول.

***

انتهز فرصة خلو الشارع من السيارات القريبة، وخطا إلى الأمام قاطعاً الشارع من اليسار إلى اليمين.

الشمس تكاد أن تسقط على رأسه من شدة الوهج الملتهب، العرق هذه المرة ينبع من تحت أظافره، وكم قميصه لم يشفع له في تنشيف السيل المنهمر من مسام جلده، لم يعتد هذه الحرارة.. لقد هرب من فرن الشواء.. إلى فرن الجحيم.. هذا لا يهم، هناك أمل، والربيع سيأتي.. لا محال.

هكذا علل الأمر لنفسه، ووقف ينتظر سيارة أجرة تقله إلى قلب المدينة، حيث الوزارات والمؤسسات والأمل!!

على بعد أمتار منه، توقفت سيارة أجرة.. حث الخطى إليها.. سائقها وسيم لولا كومة الأوساخ التي على ملابسه.

***

انطلقت السيارة تنهب الطرقات، معتذرة للإشارات الحمراء.. لم يكن ذلك استهتاراً من السائق أو وقاحة، وإنما هو قلة حياء الفرامل التي رفضت الاستمرار في العمل!!

النذير، يملأ السمع دوياً، بصوته الحاد الملعون، فوقع قلبه في حجره.. إنه يكره مثل هذه الأصوات، التي اعتاد سماعها في جحره المحفور في باطن الأرض.

تقدم شرطي المرور من السائق، ودار بينهما حديث لا يعنيه من أمره شيء.. سرح ببصره.. وعادت به الذاكرة.. إلى من أحبها، فاستكثروا عليه أن يحبها، اغتصبوا مقدرته على الحب.. ورموا به إلى الخارج!..

ما زال يذكر ذلك المكان، وهو أشبه بقاع بئر.. أكثر من كونه بناء، جدرانه رطبة تنز صديد من مات فيها متعفناً، يعشش في مسامها دود الظل البارد، الذي اعتاد أن يقتات على الدم السائل من تحت الظفر المقلوع «بالكماشة» يلتصق بين الجلد والعظم، ويمص .. ليكبر.

أخذوه إلى السكن الجديد، بعد وليمة الدسم، المصنوعة من التبرز والتبول، وحمل على ظهره حلة الأرجوان المصنوعة من الشوك، الممزوج بجراثيم الموت.. ظل في الحفرة تسعة شهور، أخلي بعدها سبيله.

أمه ركعت على مقدمة الحذاء المعطر، للحرم المصون في الجمعية الخيرية.

***

لم ينتظره أحد عند باب السجن وهو خارج.. وعند مدخل البيت، لم يكن هناك سوى جدته التي جلست على الدرجة الأولى من المدخل، وهي تلتحف بالسواد، في يدها عكازها الشهير المصنوع من خشب الجوز والموروث عن جدتها.. تعانق الاثنان بحرارة وانخرطا في بكاء صامت، وحينما وصل البيت.. أدرك أن والده توفي بعد سجنه بثلاثة أشهر، حزناً وكمداً.

***

السيارة تتوه في الزحام.. وبإشارة منه، فهم السائق غرضه.. انتحى جانباً.. ترجل بعد أن نقده أجرته، ثم توجه إلى تلك الوزارة التي تردد عليها كثيراً.. ووعدوه خيراً..!

حسّن وضع هندامه.. زرر القميص المفتوح، جفف العرق.. واغتسل من دورة المياه، بعدما تمضمض وشرب الحمأ واستدار إلى مكتب المدير.

غرفة المكتب فخمة جداً.. لكنها تفتقر إلى الذوق وحسن التنظيم.. في صدارتها طاولة مترفة.. جلس خلفها قالب ثلج يتخفى تحت نظارات سوداء:

– نعم ..

– سيدي.. كنت قد قدمت طلباً..

تمطى الرجل أولاً.. وتثاءب.. وارتخى مرة أخرى، مشيراً له بيده.. طالباً منه مراجعة مكتب المعاملات.

شعر بالخجل، ارتبك بعض الشيء، ثم استدار إلى حيث أشار.. المكتب الذي أشار إليه المدير مقفل، صاحبه ذهب لشراء «الايدام».. سأل أحدهم عنه.. ضحك آخر وطلب الثالث أن يبحث عنه في كل الغرف!.

امتثل للنصيحة، وبدأ يدور.. صعد للدور الثاني، فالثالث.. هبط إلى الأول، ثم عاد إلى الرابع.. شعر بإعياء شديد، كاد أن يتقيأ من شدة التعب.. ألصق ظهره المبتل إلى الحائط وأغمض عينيه.

***

كم هو جميل، لو أنه واصل الحياة هناك.. بيد أن الذنب ليس ذنبه، الموت هو الذي قرر، حينما سرق أباه، أمه باعت حليّها.. وجدته رهنت مشبكها الماسي الذي أهداه لها زوجها يوم زفافها.. إنه العائل الوحيد لأسرته، وعليه أن يوفر الحياة الكريمة لها. تأوه ومسح دمعة حرى طفرت من مآقيه، ثم عاد إلى المكتب الذي قيل له أن يراجعه.

***

صاحب المكتب هذا، لو رأته العين لظن ناظرها أن البلاد في مجاعة.. نحيف كعود القصب، ذو رأس مستطيل، أصلع الشعر من الأمام، عيناه تميلان إلى الجحوظ، غاطس في أكوام من الملفات والأوراق.

– أي خدمة؟

– لي معاملة هنا.

– كم رقمها؟

– لم يعطني أحد رقماً.

– هل سجلتها؟

– قدمتها للسيد المدير.

– إذن اسأل المدير عنها!

قالها له بعد أن حدجه بنظرة سريعة، ثم انكب على قراءة الجريدة التي أمامه.. كان يحملق في برج الثور.

لم يكن وضع المدير يسمح باستقبال أحد في تلك اللحظة.. ومع هذا اقتحم عليه المكتب.. كخيط النور المتلصص إلى غرفة مظلمة.

رفع المدير سماعة الهاتف عن أذنيه ونظر إليه من تحت نظارته.

– ها.. وجدتها؟

– لا

– بحثت عنها..؟

– في كل مكان..

– قد تكون ضاعت؟

– جايز..

– بالتأكيد ضاعت.. على العموم اكتب طلباً آخر، وقدم أوراقك إلى الغرفة رقم (2).

تعودت أذناه على سماع مثل هذه الجمل، لأنه تعود أن تضيع أوراقه في كل الوزارات. هذه المرة قرر تسجيل المعاملة، واستلم رقماً خاصاً بها، وحصل على وعود سخية، وموعد، لا يتجاوز الأسبوعين.

***

عند مدخل الوزارة، في طريقه إلى الشارع، تحسس دريهماته.. كانت قد بدأت تنفد.. لم يتبق معه إلا أجرة سريره، ضمن الغرفة، ذات الأسرة الخمسة.. إنه يسكن مع خمسة من الغرباء، في حوش حقير يهدد بالسقوط على رأس ساكنيه، لذا قرر استعمال رجليه في المواصلات.. وهكذا فعل.. أخذ يحوم حول المؤسسات والوزارات، كفراشة حط بها القدر في صحراء من الرمال.. وجميعها ليست لديها وظائف شاغرة..

حتى تلك التي لم يمض على افتتاحها أسبوع واحد، والتي تأمل خيراً في مديرها الذي وعده بالعمل محاسباً فيها.. حنث بوعده.. وعيّن سواه بواسطة زوجته..

عاد إلى منزل الجماعة الذي يؤويه من أعين الشارع، ورمى بنفسه فوق السرير العتيق الذي تبرع به له أحد الساكنين.. وحملق ببصره الزائغ وروحه المكدودة في اللاشيء.

كانت الساعة قد تجاوزت الخامسة مساء عندما أيقظه أحدهم من غفوته الطويلة، وأخذه معه إلى أحد المطاعم التي اتفق مع صاحبها على تعيينه محاسباً عنده بشكل مؤقت ريثما يجد له عملاً.

***

كان مثالاً للأمانة، لذا سمي بالحنبلي، إلا أن الحنبلي، لم يكن يهمه مثل هذا الأمر. كان يعد الأيام تقريباً لها. وكم كان يتمنى لو أن الزمن مربوط بحبل من حديد، يشده إليه.. هكذا ظل حتى صباح اليوم الخامس عشر، تاريخ الموعد.

***

سبق حتى الفراشين إلى باب الوزارة.. وتقاطر صغار الموظفين إلى مكاتبهم بين مسترخ ونشط.. وما كادت الساعة تتجاوز الثامنة والنصف حتى اكتمل العقد، وبقي الكبار.

بدأت جولته المكوكية هذه المرة، نزولاً وصعوداً دون ترتيب.. يلتهم درجات السلالم بنظره.. ويختصرها قفزاً بقلبه ورجله.. في ذلك اليوم نبش غرف المكاتب جميعها بأدوارها الخمسة.. استغرقت رحلته، ثلاث ساعات، وكل الدلائل تشير إلى أنه حصل على الوظيفة، وسميت درجته.

أزهر الحب من جديد في قلبه، وانقشعت الغمامة من أمام ناظريه، وغرد الأمل مزهواً في عينيه، وابتسامة الرضا تطفو صريحة على محياه.

اقترح عليه واحد من ذوي النوايا الحسنة أن يتابع معاملته بنفسه في مكتب الوكيل، لم تكذب الخبر أذناه.. طار إلى الدور السادس، وانتظر مع حشر الناس، حتى تجاوزت الساعة الثانية ظهراً، كان خلالها يشيع الحسان بنظراته وهن في ذهاب وإياب.. وكل واحدة تخرج لابد وأن تكون ضاحكة، عدا تلك المحجبة!

في الثانية والنصف، أذنوا له بالدخول، وجف قلبه فرحاً، ودار شريط الأحلام والأماني أمام عينيه.. قطع الممر المعوج إلى مكتب الوكيل في ثوانٍ كأنها السنون.. عندما وقف أمامه سلّم وانتظر.

الوكيل مشغول بنبش ثقوب أنفه.. وكلما نبش ثقباً رفع إصبعه أمام عينيه التي يبدو أنها تعاملت مع التراخوما، ثم يشم إصبعه.. استمرت هذه العملية ربع ساعة، وهو واقف.. حدجه الوكيل بنظرة من عينيه الصغيرتين.. وسأل:

– أنت أشرف عبدالحق؟!

– أنا..

– تفحص الورق أولاً.. دكتوراه في العلوم الاقتصادية.

– وخبرة خمس سنين في أعمال المحاسبة.

اضطجع الوكيل على كرسيه إلى الخلف، ورفع عقاله، فبان شعره الذي لم يمسه مشط من سنين.. افتر ثغره عن ابتسامة بلهاء.. قال:

– لو سبقت هذه الحلوة.. لحصلت على العمل.

– والآن يا سيدي؟

مدّ له كومة الورق، ثم استرسل ضاحكاً.. تعاونه في ذلك الموظفة الحلوة.

– الآن عينَّاها مكانك.

غاصت قدماه في قاع الغرفة.. شعر بالعلقم، وحرقة الكبد.. انتابه دوار لم يعرف له مثيلاً في حياته، وبدون أن يدري.. امتدت يده إلى منفضة السجاير الكريستالية، ثم غاب عن الوعي.. وجد نفسه في زنزانته الثانية.. ينتظر الحكم.. مات المجني عليه متأثراً بجراحه.

1979م