ظبية خميس

بعد الخامسة مساءً – ظبية خميس

أقلب الصفحات، وأجد نملة حية «تتمشى».

أقلب الورقة وتقع النملة، تذهب إلى حال سبيلها.

أحاول الكتابة تحت ضوء شمعة أوشكت على قضاء نحبها في مقهى «بوهيمي» قديم. المقهى يضج بالوجوه الأليفة، وغير المتآلفة. قبل مجيئي للمقهى تصفحت دفتر «أرقام الهواتف». بدت الأرقام باهتة. الكثير منها لم يعد يعنيني، الآن. بعض الأسماء مضت، كالنملة، في حال سبيلها. البعض بيني وبينه جغرافيا قاسية (وهذا هو البعض الأهم). البعض صار يسكنني كالأشباح.. والبعض صار أشباحاً حقيقية.

اشتقت لأخي الذي مات حديثاً. جدي مات قبله، وأبي. أرقام أخي ما زالت في دفتر الأرقام.

يخيل لي أنني سأستمع لصوت على الجانب الآخر لو أدرت الأرقام.

جدي زارني في الحلم.. ذلك العجوز البائس، كم أحبه. البحر، ورائحة الأسماك لم يفارقاه حتى عندما زارني، مؤخراً، في الحلم.. لكن شيئاً ما اختلف في ملامحه. عيناه بدتا لي زجاجيتين، بلون الرصاص.

أبي، دائماً، يأتي أخيراً. ربما لأنني لم أعرفه جيداً. عندما مات لم أحزن كثيراً.. لكنني الآن، صرت أشتاق إلى أن أعرفه. بحثت عنه في رجل ما، لكنني لم أجده. كم تأخر الوقت.. كثيراً على ما أظن.

اليوم لم يكن خاصاً، جداً.

ذهبت إلى عملي، كالمعتاد. زملائي مشغولون بأعبائهم، وأنا كذلك.

ثمة شخص يتردد على المجلة. أعرفه من مقهى مكتبة الجامعة التي أحضّر فيها دراساتي العليا. شاب خجول، وغريب بعض الشيء. عمل في المكتبة المجاورة بعض الوقت. حاول العمل معنا، ولم يوفق. أحضر لي مقالاً، ولم يصلح للنشر، اليوم طرق باب مكتبي، وقال لي إنني عاملته كشحاذ عندما أراد استدانة بعض النقود من المجلة. اعتذرت له، أحياناً أنا أعتذر لأشياء لم أفعلها، ولكنني كنت قد أعطيته بعض النقود، بالأمس. لم أعامله كشحاذ رغم رداءة موضوعه الذي لم يُنشر.

فتاة أمريكية تجلس إلى الطاولة المحاذية، وتتحدث بلكنة «نيويوركية» ذات رنين عالٍ. أظن أنها يهودية. صوتها عالٍ، يزعجني، ونظارتاها سميكتان جداً. الذين يجلسون معها يعتقدون أن حديثها ممتع، رغم تذمري الصامت من الموسيقى الصوتية النشاز التي تعزفها حنجرتها.

عندما هممت بمغادرة المكتب، اكتشفت أنه خالٍ، وأن الجميع قد ذهب رغم الأنوار المضاءة. الغروب اللندني يتسلل من خلف النافذة ويبسط عباءته الباردة. أمام المكتب هناك عمال ينقلون أثاث شخص ما قد انتقل إلى الشقة المجاورة. طلبوا مني مساعدتهم، وهززت كتفيّ مبتسمة.

رذاذ المطر رمادي. حذائي ابتل وتغير لونه قليلاً.. تحول إلى رطب، المحال لا تزال مفتوحة، والناس تغدو وتجيء في حركة صامتة، ووحيدة.

تقودني خطواتي إلى «التيوب». البعض يسميه «الميترو». لا أجد مرادفاً بلغة الآباء لهذا الاكتشاف المقيت. حسناً لنقل «المقبرة الأرضية المتحركة».

الفتاة الأمريكية، بقربي، يعلو صوتها أكثر، وتعلن أنها لا تمارس الجنس في أول ميعاد لها مع الرجل، ولكن ربما في ما بعد. ماذا ستقول جدتي أو أختي لو استمعتا إليكِ.

أصوات إيطالية تتبعني. رجلان يتحدثان بأياديهم، وأقدامهم، وكل أعضائهم الجسدية الأخرى يحادثاني، أنا أيضاً. أهز كتفيَّ، وابتسم.

أنزل إلى المقبرة الأرضية. قد يتأخر القطار بعض الشيء.أجلس، وأنتظر. مجموعة تدخل، وتغني بأصوات عالية، وتشاغب الناس. ها هو القطار. أحب أن أجلس في طرف الكرسي وبقرب الممر، فأنا أكره الإحساس بأنني محصورة في الزاوية.

الرجل الذي يجلس على الطرف الآخر من الكرسي الذي أجلس عليه، وقرب المدفأة، في المقهى، الذي أكتب فيه، قد بدأ في الشخير. سقط رأسه على صدره، وأخذ يشخر. في البداية خيل إليَّ أنه قد مات أو أنه يموت، لكن الشخير لا يصاحب ذلك، عادة. هو أصلع، قليلاً، وشعره يتدلى على الجانبين، ذكّرني برجل لئيم كنت قد عرفته في أجواء صحفية سابقة. حاولت التأكد من أنه بخير، لم يجبني.قال لي الجالسون على الطاولة الأخرى، والمقابلة لطاولة الأمريكية ذات الصوت المزعج، إنه سكران أو ربما مخدر.

– «اتركيه ينام قليلاً، إنه بخير وهو يشعر كأنه في بيته».

أعود للكتابة، إذن.

عندما وصلت إلى المحطة التي أريدها، خرجت من المخرج المؤدي للأسواق. أردت أن أشتري (معجون أسنان، فرشاة جديدة، قطناً للعادة الشهرية، صابوناً، حليباً، خبزاً، عنباً، وأفوكادو).

عند باب المحطة هناك ثلاثة شباب سود، شعورهم مجدولة والخرز يتدلى منها، يغنون أغاني جامايكية، ويرتدون ملابس ذات ألوان صارخة.

أفزعني صراخ الفتاة التي تجلس على الطاولة المقابلة. إنها تصرخ بأعلى صوتها، باللهجة الإيرلندية، وتشتم رجلاً كنديّاً كان يجلس معها في مجموعة صغيرة. لا أدري ما سبب عدم التفاهم، ولكنها طلبت منه أن يعود إلى كندا كي يتخلص من مشاكله العقلية.

حملت حقيبتها اليدوية، وخرجت غاضبة. عادت، بعد قليل، لتأخذ معها كيساً صغيراً كانت قد نسيته. لست متأكدة من أنها إيرلندية، قد تكون اسكتلندية، ولكنها إيرلندية على الأرجح.

فكرت، قبل شراء أغراضي الصغيرة، كيف سأقضي هذا المساء، هذه الأيام أنا مستوحدة، جداً. صعبة المزاج وأشعر بصهيل المهرة في داخلي. أفقد شهيتي في مجالسة الآخرين، وأبحث عن ذلك الذي ليس هنا.

في طريقي إلى البيت أوقفني رجل طويل. نظرت إليه. كان أشقر الشعر، أزرق العينين، وله شارب مضحك… ربما لأنه شارب أشقر. يحمل حقيبة صفراء فيها جرائد الصباح. قال لي إنه يشعر بالوحدة الشديدة، ويحب أن يشرب معي كوباً من القهوة. لا أعرف… لماذا، ولكنني وافقت. الآن يبدو لي أنني أشفقت عليه. كانت في عينيه نظرات كلب ضائع… وذلك الشنب الأشقر.. مسكين لماذا بلته الطبيعة به.

ذهبنا للمقهى المجاور.. أخبرني أنه بولندي، مهندس، وصديقته الإنجليزية غاضبة عليه لأنه قامر بنقودها بالأمس، وفقد الكثير.. بدأ في مغازلتي، أعجبته عيناي، وهما تجلبان لي المشاكل دائماً. أخبرته بأنني متزوجة، وأن عينيّ ليستا جميلتين لأنني أرتدي نظارة طبية، وأنه لديّ أطفال أصغرهم لم يبلغ الشهر الثامن بعد. أذهله ذلك وقال: «لكن لا يبدو عليك». أريته زجاجة الحليب، وقلت له يجب عليّ أن آخذها إلى طفلي. فتح فمه، وغادرت.

عندما تخبر فتاة رجلاً ما أن لديها أطفالاً، يصدمه ذلك، عادة، ولكن المسألة ناجحة في شد انتباهه مما قد شرع به. هذه القصة استعملتها ذات مرة مع شاعر فلسطيني. قال لي: «حسناً، فليصبح أطفالك أربعة، وليكن فلسطينياً هذه المرة». لكنه لم يفلح.

صحيح أنه ليس لديّ أي أطفال، ولست متزوجة، لكن لماذا يفترض الرجال، دائماً، أن أية امرأة هي برسم الدخول معهم في علاقة ما.. حتى ولو كانت…

أحب منزلي الصغير، جداً، ولكنني قلّما أجد الوقت لتنظيفه، الهاتف يرن، ولا أجيب. أتركه يرن.. أشعر بالوحدة، ولا أرغب في رؤية أحدٍ ما بالتحديد، أو ربما لا أحد بالمرة. أطبخ عشائي، وأحضر الحمام الساخن لأغتسل.

أقرأ الصحف، وفصلاً من كتاب حول «تحديث الحضارات القديمة». أفتح التلفزيون، ولا تعجبني البرامج. دعاية تلفزيونية عن أحد أنواع السيارات. رجل يرتدي ملابس غريبة، ويفتح باب السيارة لتدخل عشرات «الحريم» المحجبات بداخل السيارة.

يبتسم الرجل ابتسامة غبية، ويغمز المعلق بعينيه مشيراً إلى العربي وحريمه.

أنا الآن أواصل الكتابة من غرفة نومي. الإضاءة خافتة، وأم كلثوم تغني الآهات، وأكاد أرى «خان الخليلي» ممتثلاً أمامي. أصوات الشاحنات في الخارج تذكرني بأنني في «أولد برمتون رود» في مدينة لندن. أصوات المتسكعين والمتسكعات عالية. عندما غادرت المقهى وذهبت إلى الحانة المجاورة، ناداني رجل أعرفه بصوت عالٍ. تصافحنا. أعرف ابن عمه الذي يزورني، أحياناً، في المجلة. هذا الرجل يبدو طيباً للغاية.. وابن بلد. هذا هو شهره الثالث في لندن، لم يستطع أن يحب هذه المدينة. يقول إن الإنجليز باردون، ومدينتهم قبيحة، ولا يعرف كيف سيقضي شهوره القادمة هنا.

يقول إنه لا يمكن للعربي أن يتعايش مع الإنجليز. أخبرني كيف عاش في ألمانيا، قبل مجيئه إلى هنا. لقد عمل هناك في «الكاراجات»، وأحب الألمانيات جداً. يقول إن عواطف الألمانيات مثل العربيات جياشة، وإنهن أقدر على التعامل مع الجسد بعنفوان، وشهوة. أحب امرأة هناك، تزوجها، ثم هرب منها لغيرتها الشديدة. عاد إلى بلده، ولم يستطع البقاء هناك لأنه صغير، ومغلق. وعاد للغرب مرة أخرى بحثاً عن الحرية المفقودة.

على الأرض يجلس رجل أصلع، سمين، وقبيح. في أذنه قرط صغير. يضع يده حول خصر شاب، نحيف، وذي ابتسامة أنثوية.

أنا لا أحب الصلعان، عموماً، ولكنني لا أحب هذا الأصلع بوجه الخصوص. لا أعرف لماذا، ربما لأن له جبهتين في وجهه بدلاً من واحدة. أو ربما لأن نظرته عدوانية. أو ربما لأنه يذكّرني بالرجال «الماتشو» التقليديين الذين يمارسون دورهم الذكوري الفوقي مع النساء.. ولكنه هو يمارسه مع رجل مثله.

ازدحمت الحانة، ودّعت الرجل الذي أعرفه، وحاولت الخروج من ذلك الزحام.. روائح ثقيلة. أحدهم وضع يده على صدري عندما مررت. نظرت إليه بغضب، وأدار وجهه كأنه لم يقصد.

انتظرت الإشارة كي أقطع الشارع إلى الرصيف الآخر. رجل يبدو عليه السكر الشديد مشى والإشارة لا تزال خضراء. كادت إحدى السيارات أن تدهسه. توقفت السيارة فجأة، واصطدمت بها سيارة أخرى. عندما وصل الرجل إلى الرصيف الآخر سمع أصوات الناس في السيارة. أشار إلى الإشارة بيده، كانت قد أصبحت حمراء..

قال لهم: «لماذا لا تنتبهون أيها العميان. إنها حمراء. حمراء، إذن كان يجب أن تتوقفوا، وكان يجب أن أمشي». قهقه، ثم مضى.

الوقت متأخر بعض الشيء. توقفت لأشتري سجائر من «السوبر ماركت» الملاصق لبيتي. ألقيت السلام على السيد الأفغاني صاحب المحل. سألني عن أحوالي، وسألته عن أحواله. قال لي إن نوع السجائر التي أريدها غير موجود، ولكن لديه النوع الثاني الذي أفضله في حال عدم وجود النوع الأول. أخذته ومضيت إلى بيتي.

الشارع الذي أسكن فيه يمتلئ، عادة، بالرجال «المخانيث»، لذلك فهو آمن جداً، حيث قلّما يضايقني رجل عند عودتي إلى بيتي متأخرة، أحياناً. فتحت بوابة البناية. أحد هؤلاء كان واقفاً بقرب البوابة. تمنى لي ليلة سعيدة. ابتسمت، وهززت كتفي، تمنيت له ليلة سعيدة، هو أيضاً.

لندن – بريطانيا

25 أكتوبر 1984م