عجيب نازل! حتى الأمريكان اعترفوا بشطارته وأحبّوه.
في وداعنا الأخير، خاطبني مستر “رايت” بعربيَّته المكسَّرة: “صديقك مستر نازل ذكي، وأنا سعدتُ بالتعرُّف إليه”.
قبل قليل فتحت عينَيَّ وأنا في فراشي. اليوم أبدأ حياتي الجديدة دكتورًا، والفضل يعود لنازل.
سريعٌ يأتي إليَّ شريطُ دراستنا في أمريكا.
“تعال”! أذكر اتصاله في تلك الليلة. أخافتني نبرة صوته، فاعترضت: “منتصف الليل”!
“تعال حالًا”. صرخ، ففهمت أن حاجته لا تحتمل التأجيل.
كأني أرى هيئته: كان ينتظرني بوجه محتقِنٍ: “غدًا تسحب أوراقك من الجامعة الزفت”!
“لماذا”؟
“اليوم وصلني كتاب فصلي، ولن تبقى وحدك وتأخذ شهادة جامعية”.
استغربت طلبه: “لا ذنب لي”! أعدتُ عليه أنه في السنة الثالثة، وقد تنقَّل بين أكثر من كُليَّة، ولم يتجاوز النجاح بخمس مواد. لكنه قاطعني: “ستبقى معي في الحلوة والمرَّة، دخلنا الجامعة معًا ونخرج منها معًا”.
لم أره حزينًا كما في تلك الليلة.
“يعتقدون أنهم سينهون مستقبلي! يخسئون، أنا أقوى منهم، وسأثبت لك”.
من أجل صداقتنا وذكرياتنا الكثيرة سحبتُ أوراقي من جامعة الكويت، وحين أخبرت أمي، انفجرت تصرخ: “الله يسوّد وجه نازل ووجهك، كيف وافقته”؟!
*** *** *** ***
فاجأني بعد أسبوعين بسؤاله: “في أي كلية تريد التسجيل”؟
اعتقدت أنه يمزح كي يضايقني، لكنه مدَّ نحوي أوراقًا تحمل شعار جامعة “شهادة تاون”!
“أنتَ تحلم! شهادة تاون! لا يمكن أن يقبلوا أيًّا منا كعامل تنظيف للحمامات”!
“تريد كلية الهندسة، أو الاقتصاد، أو الآداب؟ اختر أي كلية”.
بعد أيام، وبمساعدة “مهاود”، سكرتير مكتب والد نازل الذي يُجيد اللغة الإنجليزية، دخلنا موقع الجامعة، وسجَّلنا أوراقنا بشهادة الثانوية العامة المصدَّقة من وزارة التربية الكويتية، والمعتمدة من السفارة الأمريكية، والمختومة من وزارة الخارجية، وأرفقناها بصورة جواز سفر كل منا، وصورة شخصية، وعن طريق بطاقة
نازل البنكية “الفيزا” دفعنا رسوم التسجيل، واستلمنا وصل القبول.
بادَرنا مهاود مُهنِّئًا: “مبروك”! فتبسّم نازل، ودسَّ في يده المقسوم. لحظتها، ردَّدت ونفسي: “اتبع العيار لباب
الدار”!
*** *** *** ***
عن طريق الإيميل تلقّينا رسالة القبول، ورقم التسجيل الشخصي لكل منا. بعدها، حصلنا على فيزة دراسية من السفارة الأمريكية، وخلال أقل من شهر سافرنا أنا ونازل من الكويت إلى مطار “جون إف كينيدي” في نيويورك، وخُتم جوازانا بختم دخول الولايات المتحدة، ومن هناك ذهبنا إلى ولاية شهادة تاون، وكمن يعيش أحداث حلمٍ جميل، كنت أكاد لا أصدّق ما يمرَّ بي.
*** *** *** ***
لأوَّل مرة أزور أمريكا. أمضينا ثلاثة أسابيع بين ربوع الولاية، وعَشِقَ نازل صيد السمك في أنهارها العذبة؛ لأنه فاق بمتعته صيد السمك في الكويت. صار زبونًا للكازينوهات التي تسهر بفتياتها الطيِّبات حتى شروق الشمس.
قبل رجوعنا إلى الكويت، قابلنا مستر “رايت”، مسؤول قسم التسجيل الجامعي، بهندامه الرسمي، ونظَّاراته الطبية دون إطار. كلَّمنا بعربية مُكسَّرة، ووقَّعَنا على مجموعة أوراق. توقفتُ أنا أمام رسم اسمي واسم نازل باللغة الإنجليزية. وقبل أن نغادر مكتبه قدّم له نازل ساعة “رولكس” أصلية مُذهَّبة كهدية، وبادِرة تعاون علمي بين جامعتهم والشباب الكويتي الطموح. أطْلعنا على جدول المقررات، وبشيء من الجِدِّ، أخبرنا: “الجامعة سترسل جميع التقارير الخاصة بكما عبر الإيميل”.
“يهمّنا رعايتك”. خاطبه نازل بنبرة جادة.
“سيكون”.
ليلتها، أتصلتُ بأمي، وطمأنتها: “كل شيء طيب، سجّلنا في الجامعة”.
*** *** *** ***
الآن، والحمد لله، أنا دكتور، وأحمل شهادة رسمية. ما توقعت يومًّا أن أحقق ما تحقق! بدل جامعة الكويت، أنا خريج أمريكا!
أمي لم تصدّق أنني سأحصل على شهادة، وظلَّت بعِراكها معي: “يا غبي، سيقضي على مستقبلك”.
كلَّا يا أمي، نازل لم يقضِ على… هو بذكائه وماله وطيبته رعى دراستي الجامعية، وأمتعني بصحبته، وفتح عينيَّ على عالم عجيب ما كنت أحلم به، وجعل مني دكتورًا!
على مدى السنتين الماضيتين، كنا نسافر أنا وهو، على حسابه، كل أربعة أشهر، إلى ولاية شهادة تاون. نستمتع
حدَّ السُّكر بين ربوعها، خاصة بعد أن تعرَّفنا بصديقتين أسعدتا قلبينا، وآنستا غربتنا، ودفّأتا لحظاتنا، وصارتا دليلنا السياحي إلى ولايات أمريكا. تحملت العزيزة روز، حبيبة نازل، مشكورة عبء المراسلات؛ كونها صلة الوصل بيننا وبين مختلف إدارات الجامعة. ومرارًا، أدهشتني طيبة قلب نازل، وتودُّدُه الإنساني، وهداياه لروز وصديقتها! كان يقدم لهما الهدايا الغالية، ويبرر لي: “الطْيبُ مع الطَّيِّب تجارة”.
*** *** *** ***
في زيارتنا الأخيرة للتخرُّج، أخذْنَا مهاود معنا. رتّب لنا ملابس الحفل: العباءة والأحزمة والقبَّعات المائلة، والشريط المتدلي منها. وكانت مفاجأتنا سارَّة، حينما رأينا أكثر من شاب كويتي يشاركنا حفل التخرج من الجامعة! صوَّرَنا مهاود في لقطات كثيرة لحسابات نازل في تويتر وفيس بوك وإنستغرام، ولأصدقاء نازل في صفحات الجرائد الكويتية، وأرسل صور تخرُّجنا لوالد نازل. يومها نبّهني نازل: “انشر صور حفل التخرُّج إلى جميع أصدقائك، ليعلم الجميع بتخرُّجنا من جامعة عريقة، منعًا لأي تقوُّل أو شكٍّ في شهاداتنا”. بينما كلَّف مستر رايت إحدى جرائد الولاية المحلية بعمل لقاء مدفوع الأجر مع دكتور نازل، بمساعدة العزيزة روز!
*** *** *** ***
طوال السنتين الماضيتين، وكلما سافرنا، وفي مواقف كثيرة، كنت أردد مع نفسي: الخير فيما اختاره الله!
أذكر أننا عدنا مساءً إلى الكويت بعد تخرُّجنا، وبينما نحن نقف في طابور العائدين لختم جوازَيْنا بختم الدخول، التفتَ إليَّ نازل بوجه مبتسم قائلًا: “الحمد لله على السلامة دكتور”.
“ربي يسلمك بروفيسور”.
*** *** *** ***
منذ استيقظت ولحنُ الأغنية يصدح برأسي بصوت المطرب عبد المحسن المهنا: “الله أمرْ”، كأن الشاعر الغنائي عبد اللطيف البنّاي نطق بلساني: “إن عادلوني بالذهب ما أبدّلك ثاني”!
استقبلتني أمي بزغاريدها وقبّلتني بدموعها: “ألف الحمد لله. أخذت الشهادة وصرت دكتورًا. ربي يطوّل بعمر نازل”.
الساعة جاوزت الثامنة، لن أبقى في فراشي. اليوم أبدأ مشوار عملي، وحرف الدال يسبق اسمي!