فاطمة العامري

أين يذهب الموتى؟ – فاطمة العامري

يظنّنا الأحياء أننا انتهينا.. تحلّلنا.. ذبنا.. تبخّرنا.. أو أكلنا الدود وتعفّنا، أو صرنا رماداً، بعد أن أحرقونا في طقوسٍ معينة، فذرتنا الرياح واختفينا.. البعض يظننا صرنا فضلات، أو سماداً للنباتات ومع مرور السنوات دارت بنا دورة الحياة.. إلى بطون الحيوانات.. أمعائها.. وعُدنا إلى الأرض.

لابد أن هذه ظنُونكِ أيضاً، لكن ما تظنّينه أنتِ والأحياء – يا عزيزتي – ليس صحيحاً تماماً!       
دعيني أخبركِ كيف حدث الأمر، أو بعبارةٍ أكثر دقة: دعيني أخبركِ أين يذهب الموتى!

بعد أن كفّننا الأحياء.. دفنونا، ثم أهالوا علينا التراب، بكوا علينا.. وضعوا بعض زهور «الونكا» على قبورنا؛ زهورٌ قصيرة الساق، فاقعة الألوان، وبلا رائحةٍ تقريباً.. ثم غادرونا. في أول يومٍ لي تحت الأرض شعرتُ بالضيق. ليس من المتوقّع أن يشعر أحد بالراحة في قبرٍ على كل حال. حسناً، لنستثني ضريح تاج محل والأهرامات. في ساعاتي الأولى انتابتني هواجس وأمنيات غريبة.. أن يُدفن قلمٌ معي مثلاً.. أو تُدفنين أنتِ معي.. فكرةُ الالتصاق بكِ حتى في قبرٍ تبدو مثيرة!        

مع توالي الأيام والشهور والسنوات، ازدادت أعداد الموتى، حروب.. كوارث طبيعية.. حوادث سير.. إجهاض.. اختناق.. إعدام.. افتراس.. عنف أسري.. سوء تغذية.. جرعة زائدة.. سرطانات.. سكتات قلبية.. قتل.. جفاف.. هرم.. غرق.. أمراض الشيخوخة.. ناهيك عن حالات الانتحار. أف! كم نحقدُ على المنتحرين، إنهم يزاحموننا ويأخذون مساحاتٍ من الأرض فقط لأن الحياة «فوق» لم تعد تعجبهم. المهم أننا بدأنا نشعرُ بعدم الراحة، صحيحٌ أن فكرة كونك تحت الأرض بحدّ ذاتها غير مريحة، لكننا كنا نطمح أن نحظى ببعض الخصوصية.. أما بتزايد الأموات، ازداد الصخب وكثرت زيارات الأحياء وعلَت أصوات بكائهم ونواحهم وانزعجنا، ولهذا قررنا أن نعقد اجتماعاً.. واخترنا أقدم ميّت بيننا ليترأس الاجتماع. لم يكن «آدم» بالطبع، فليس من المعقول أن ندعو جميع أموات العالم لحضور اجتماعنا هذا، هناك بعض التعقيدات.. كاللغة مثلاً.. وبعض الطقوس التي أُدّيت أثناء مراسم الدفن، ثم إن بعض الأموات عنيدون.. يرفضون مغادرة مكانهم، لذلك حصرنا الاجتماع ضمن الموتى في مقبرتنا!     

قالت امرأة ماتت مُحترقة:       
– تعوّدنا.. وسنتعوّد.   

تجاهلناها جميعاً، لكن رجلاً قال:        
– صحيح.. لنتحمّل ونصبر.   

فردّ آخر:      
– لن نتحمّل أكثر.. لا فوق الأرض ولا تحت الأرض نرتاح.. لابد أن نتحرّك.. نفعل شيئاً!

– لا تُجادل وتتذاكى.. ما أنتَ إلا ميّت! 
علّق أحدُ المنتحرين.

       
ثم قال طفلٌ:   
– أين نذهب؟  

تعالت الأصوات.. وكثُر الجدال، وبعد نقاشاتٍ طويلة، اتفقنا أن نُغادر بطن الأرض، نزعنا أكفاننا.. نفضنا عنّا ما علق بنا من أتربة الأرض وعوالقها.. ثم خرجنا.  
كلا! لا أقول إننا بخروجنا من مقابرنا إلى سطح الأرض صرنا أحياءً، كنا لا نزال أمواتاً، لكن يفصِلُنا عن الأحياء كوننا غير مرئيين.. وأخف وزناً.. ليست تلك هي الفوارق الوحيدة، فبعد خروجنا بأيام، اكتشفنا أن لنا قدرةً على التماهي في الأشياء.. التنامي بها.. التشكّل.. الانسكاب.. والتقمّص!   

كان من بيننا سيدةٌ تماهت في نخلة، وبعد أشهرٍ انقضت، لم يستطع أصحاب البيت التحديد، لماذا من بين جميع أشجار النخيل، كانت تلك النخلة الوحيدة التي تثمر رطباً أبيض.. يكادُ يكون بلا لون تقريباً.. فسّرها البعض أنها طفرةٌ جينية ونسوا الأمر! 

وآخر تنامى في إصيص يضمّ حزمةً من ورود تبّاع الشمس التي كانت قربَ نافذة صبيّة أحَبَّها. كان يتتبعها بعيونٍ نهمة، يدورُ ويميل ناحيتها لا ناحية الشمس، ولسببٍ ما بدأت الفتاة تغيّر ثيابها في الحمام. انفجرنا من الضحك عندما سمعناها تهمسُ لصديقتها مرة:   
– أشعرُ أن ورود تبّاع الشمس تُراقبني! 
لكِ يا عزيزتي أن تتخيّلي حجم الإحباط الذي أصابه. قُلنا له:     
– كان عليك التشكّل في قطعة صابون! 

أما أنا.. فبحثتُ كثيراً عن مكانٍ يُمكنني التماهي أو التشكّل أو الانسكاب فيه، كان أول ما تبادر إلى ذهني ثيابُك، لكنني استبعدتُ الفكرة تماماً عندما تخيّلتكِ تُبدّلينني كل صباحٍ ومساء، أو أن أشعرُ بالغثيان وأنا أدورُ في الغسالة! ثم فكّرتُ أن أكون دبوساً تثبّتينه في شعركِ، لكنني انزعجتُ لمجرد التخيل أنكِ ستنزعينني، وقت الاستحمام، أو في المناسبات والأعياد، ستستبدلينني بآخر.. فكرة الاستبدال هذه تصيبني بالتوتر! ماذا عن مرآتكِ؟ ثابتاً في مكاني أراكِ كل وقتٍ وحين، أراقبكِ وأنتِ تسرّحين شعركِ، تميلين بجسدكِ، ترقُصين أحياناً، تبتسمين أو تنظُرين لنفسكِ/لي تلك النظرة الشقية المغرورة كلما وضعت مسحةً إضافية من المكياج. حلوة فكرة المرآة! لكنني أبحث عن مكانٍ أكثر التصاقاً.. أطول بقاءً.. أعمق شعوراً.. وفكّرت كثيراً، وبقيتُ وقتاً طويلاً بلا مكانٍ أو ارتباط، حتى اهتديتُ إلى مكانٍ بدا لي مثالياً جداً!    
       
لا أستطيعُ الإفصاح عنه صراحةً.. لكنكِ يا حُلوتي، وبعد سنواتٍ تزوجتِ رجلاً آخر، حبلتِ.. ورُزقْتِ بطفل. هل تذكرين نظراتك إليه كيف كانت؟ محدّقة.. محتارة.. مرتابة.. وكأنكِ تتساءلين.. لماذا كانَ طفلُكِ يُشبهني؟  

قصة من مجموعة: أين يذهب الموتى، الفائزة بجائزة راشد بن حمد الشرقي للإبداع – الدورة الثانية.