تراب الأرض

تراب الأرض – بقلم علي الحميري

مشوارٌ طويل من عمل متواصل، محني الظهر، وراء المكاتب، جعل خطواته لهاثاً، كلما أطال السير، وآلاماً في المفاصل، خاصةً الركبتين، كلما اضطر لصعود مرتفع.. فجاهد، حتى بلغ مقعداً خشبياً طويلاً، على الكورنيش الشمالي لمدينة أبوظبي، ودس بين قضيبين من سياجه الحديدي، المدهون باللون الرمادي، زجاجة من عصير البرتقال، نصف مملوءة ..
عشية جميلة حررها هبوب بحري مريح من قبضة الرطوبة، المسيطرة عادة على مناخ المدينة، في مثل تلك الساعة من فصل الصيف، فأحالها نسيمات رقيقة، أخذت تدغدغ وجهه، وتنعش أعصابه المنهكة.. ضاعف من رقتها رذاذ منعش، صادر عن النافورة العملاقة، الواقعة خلفه مباشرة، فأغمض عينيه مستمتعاً، لعدة ثوان، لكنه عاد، فأطلقهما نحو الشمس، التي شرعت بالاستحمام في اللون البرتقالي، حاثة الخطى للانغماس في الأفق ..
انتقلت عيناه إلى شاب ضخم الجثة، أقرب إلى القصر، أخذ بملاحقة شرقية غازية فاتنة، تتخذ سروالاً بنياً، شديد القصر، لا يكاد يحجب سوى الثلث العلوي من فخذيها، يعلوه قميص أبيض، حررت زريه العلويين من عروتيهما، فبدا له الشاب، رغم تصنعه الجرأة، أقل منها جسارة.. لا يلبث يتشاغل، بين حين وآخر، بأمر يعيقه، فتبطئ هي من خطواتها، وتلتفت لتمنحه ابتسامة مشجعة.. ظلت عيناه عالقتين بالشابين، حتى تجاوزاه، ثم نقلهما إلى زاوية أخرى، حيث تجمعت أسرة على رمال الشاطئ، خلف السياج، حول طفلة، في حدود الرابعة، ترقص على أنغام أغنية مرحة، تصدر عن آلة تسجيل، وقد أخذ الجميع يصفقون لها، مسرورين.. أعاد عينيه عن الأسرة، وأطلقهما نحو زرقة البحر، شديدة الصفاء …
مكث شارداً بذهنه في عهود بعيدة من حياته، وما لقي فيها من أفراح وأتراح، حتى جذبه إلى الواقع، جسم غريب، أخذ يتسلل من جهته اليمنى.. لم يحاول الالتفات مباشرة.. بل اخذ يلحظ الجسم المتسلل من زاوية حادة.. يد سمراء صغيرة، أخذت تمتد برشاقة، نحو زجاجة العصير.. كان هو قد نسي الزجاجة تماماً، أو بالأصح رغب عن الكمية المتبقية.. لكن اليد الصغيرة استفزته، فترصد لها، حتى إذا كادت الأصابع النحيلة تلتف بعنق الزجاجة، وتذهب بها، هجم يحتويها بكفه، ثم التقت عيناه بعينين لامعتين، خضبهما خوف أليم، فهرع هو إلى ابتسامة، لتمحو الخوف عنهما : اسمك ؟..
.. ثعيد ..
أجاب بثغة جميلة قلبت السين ثاءً، وشرع يقاوم كفه، فترك هو الذراع، وضم الجسم كاملاً بين ساعديه : لا تخف يا حبيبي ..
خف الخوف تدريجياً، عن العينين اللامعتين.. لكن المقاومة أخذت طابع التملص، لتنقذ صاحبها من الطوق المحيط به: لا تخف بابا.. أود التحدث معك فقط.. تعال.. اجلس هنا، بقربي ..
لم يقتنع الصغير في البدء بقوله، فأردف هو : تعال .. تعال.. اجلس هنا ..
اقترب الصغير نحو الكرسي متردداً.. واتخذ جلسة المضطر، على الطرف البعيد من المقعد.. لكن عينيه ما انفكتا تبحثان عن مهرب.. سروال أزرق شديد الاتساع، يكاد يبلغ الركبتين، شد عطفاته حزام بيج، ذائب الحواف، كيلا يخر عن الخصر النحيل، واقعاً على الأرض، وقميص رمادي مهترئ، منتوف الجيب، تغطيه رسومات باهتة الألوان، وعديد من المزق.. وحذاء، كان قديماً لونه أسود، ثم اشتركت الرطوبة والعتق في تفتيت قشرته، والشعر كثيف، سقطت مقدمته على الغرة، والعينين …
عاد إلى الشرود، مرة أخرى.. لكن هذه المرة، إلى عهد أبعد.. إلى الصبا، لما فارق وأخاه، أبويهما صبيين، فجاعا، وعريا، وناما في المساجد، وتحت كراسي المقاهي، وتعرضا للضرب، من كفوف غليظة، لم ترحم بؤسهما.. لقد نسي كل تلك الآلام، بعد أن أنعم الله عليه.. نسي، وغفر لكل من قسا عليه، وعلى أخيه.. غفر، حتى لامرأة موغلة في قسوتها.. امرأة كان يعمل لديها، دست في فمه يوماً، مكنسة لتنظيف المراحيض، ونسي لرجل ظلمه في أجر عمله.. نسي أشاء كثيرة، لكنه لم ينس قط وجه رجل كريم رحيم، لمحه وأخيه، ينظران بحسرة، إلى الناس يأكلون، من خلف زجاج أحد المطاعم، فأخذ بأيديهما، وقدم لهما وجبة كاملة …
طبعت صورة ذلك الرجل في مخيلته طويلاً، وتمنى لو رآه مرة أخرى.. تمنى أن يتعرف عليه، في شيخوخته، فربما رد له شيئاً من جميله.. ثم التفت نحو الصبي الجالس بجواره، مستكيناً..
.. ما رأيك يا سعيد، بسندوتش شاورما، من ذلك البائع ؟..
أطلق الصغير نحوه نظرة متسائلة، كأنه لا يصدق ما يسمع.. فلما وجد على وجهه ابتسامة حنان مشجعة، شعت على الوجه الوديع ابتسامة جميلة، وهز صاحبها رأسه موافقاً :
.. هاك إذاً.. ابتع لنفسك اثنين، وواحد بالدجاج لي.. سنأكل معاً، ما رأيك ؟.. موافق ؟..
هز الصبي رأسه، مرة أخرى : موافق ..
ثم بانت في عينيه، لمعة الطفولة الجميلة، وأتجه بالورقة النقدية نحو الكشك، فهتف به، قبل أن يبتعد : سعيد !..
… نعم عمو ..
.. لا تنسَ أن تبتاع لنفسك عصيراً ..
.. حقاً !..
.. نعم ..
.. بل أريد آيسكريم ..
.. وآيسكريم أيضاً ..
.. وأنت ؟..
.. قنينة ماء صغيرة ..
تألقت اللمعة في العينين الجميلتين، وتضاعف صفاؤهما، حتى حاكى صفاء بحر أبوظبي ..