باسمة يونس

مرآة هاروكي – بقلم باسمة يونس

كان يمكن أن تنتهي الليلة على أحسن ما يرام بعد أن سبقها نهار أكثر من جيد وممتع بالنسبة لي.
كنت قد تمكنت صباحا من اتخاذ قرار نهائي بالانسحاب من الجامعة لأنني كنت أنوي التخطيط للالتحاق بعمل يتيح لي الحصول على راتب شهري يسمح لي بشراء كل ما أريده من مستحضرات تجميل وثياب، ثم تناولت غداء لطيفا ومتنوعا مع بعض الصديقات في ساحة المطاعم بالسوق الحرة لمطار دبي ، ولم أعد أفكر بالعشاء لأني بدأت اليوم مواجهة صارمة مع وزني المتزايد خفية .
كنت أعقد العزم على النوم مبكرا لأقمع ضعف إرادتي أمام المأكولات اللذيذة وكرهي لخنوعها كلما وقفت أمام مرآتي الكبيرة التي تنتصف الحجرة عاكسة أمامي صورة كاملة لجسدي المترهل فتعاتبني على تخريبه وتلومني على ما اهدار تناسقه بدون وجه حق. لكن القدر الذي لديه قرارات مختلفة كالعادة قام بتغيير مزاجي القلق على قوامي تماما وتدخل بغتة ليثبت لي سيطرته على مستقبل الأحداث بكل جرأة وتصميم. وتمكنت قطعة حلوى من انتزاعي من اغراء الرشاقة بسهولة، ودفعتني لتفكير بالسهر أمام شاشة التلفاز لمتابعة الفيلم التركي المترجم “سنرى الأيام جميلة “. مرت دقيقة على انتصار قرار سهري وتناول الحلوى عندما ومض في ذاكرتي كتاب قصص “هاروكي موراكامي” الذي اشتريته عصرا من المكتبة الكائنة في مبنى السوق الحرة بعد انتهاء الغداء وكنت طوال اليوم أمني النفس بسهرة جميلة معه .
لم يطل الصراع بين رغباتي فقد حسمها فوز قرار قراءة قصة واحدة من المجموعة على الأقل ومن ثم الخلود إلى النوم.
وهذا ما حدث.
بدأت قراءة قصة “المرآة” التي جعلتني من السطر الأول أؤمن بأن “هاروكي” ولد ساحر ا ، وخلق ليكتب فيختطف القارئ من واقعه ويجعله جزء من قصصه أو بطلا من أبطالها بكل سهولة . كانت حكاية المرآة المرعبة عن شاب وجد نفسه ضحية تخاذله محبوكة بعناية وذكاء ، وكدت أشهق من الرعب حينما صور “هاروكي” تلك المرآة العاكسة لرجل يشبهه تماما واقفا بداخلها يحاسبه وينفث في وجهه شرر غضبه عليه .
سرت تفاصيل القصة في عروقي مثل لسعة كهرباء حارة، فأنهيتها بسرعة و أغلقت الكتاب مشبعة بالخوف من حكايته القصيرة. تلك المرآة المرعبة جعلتني أخشى سقوط عيني على مرآتي التي تنتصف الحجرة، فاندسست أسفل الغطاء راجية انقضاء الليلة كما تمنيت . ورغم علمي بأن معظم توقعات المرء سيتحقق خلافها إن أيقن بأنها ستتحقق كما يريد فما حدث بعد قليل أثبت لي صحة ذلك . لم تمر عدة دقائق بعد قيامي بإطفاء زر إنارة مصباح المنضدة المجاور وإغلاق عيوني تمهيدا للنوم حتى سمعت صوت ارتطام زجاج يسقط مهشما فوق أرض الحجرة كما يتهاوى جدار ويتفتت على الأرض وتبعه لحظتها صدى رنين المنبه في هاتفي الجوال .
انبلجت عيناي المفزوعتان، فأنا لم أحدد ساعة للاستيقاظ في منبه هاتفي لكنه كان يرن بإصرار مثل تصميم هاتف بطل قصة “المرآة ” على الرنين المتعمد لإيقاظه .
تذكرت ذلك الحدث بالذات في القصة فانتفضت مفزوعة وقد انتزعني الرعب من دوامة بداية الغرق في النوم لأجد نفسي في مواجهة أحداث القصة المرعبة!
ظل صدى صوت التهشيم يرن في هدوء الحجرة بعد أن قاطع غفوتي وتمادى مثل هدير جارف و عميق في داخلي جاعلا اياي أستعيد كلمات بطل القصة وهو يقول “حدث هذا عندما بلغت ثلاثين سنة ونيف ولم أكن قد رأيت شبحا يوما في حياتي ولم تتملكني هواجس رؤيته ، لقد رن المنبه بجواري في تمام الساعة الثالثة فجرا ، فاستيقظت على شعور غريب يراودني.”
انبلجت أجفاني مثل سمكة اصطادتها صنارة صياد صبور أخذ يجرها لإخراجها من الماء بجسارة، وامتلأت أمعائي بمياه مالحة تتعكر بمذاق خوف لا أعرف سببه ، وكنت أنتفض وكأن يد خفية هي التي هزتني لأستيقظ ولم يكن بإمكاني تحديد موقعها في العتمة .
استيقظ بطل القصة على رنين جرس المنبه، كما استيقظت للتو من نومي على رنين جرس المنبه !
ألم يكن هذا ما حدث للحارس في القصة ؟
لكنها مجرد قصة متخيلة، فلماذا أشعر وكأنها مشهدا واقعيا في حياتي؟ !
ارتج قلبي وأحكمت لف الغطاء وسمرته حول جسدي. أنا نائمة في سريري لا أزال، ولكن لم يكن بإمكاني أو بإمكان أحد سماع ضجيج ذلك الطرق الهادر في أعماقي. كنت أرى نفسي وكأني لا أزال جالسة في سريري حاملة الكتاب بين يدي وأقرأ تفاصيل وأحداث قصة “هاروكي ” وكأن عقلي يصف لي الموقف الذي وجد الحارس نفسه فيه لحظتها وهو راقد في سريره. اشتد الخفقان ارتفاعا كما حدث للحارس الذي استيقظ مفزوعا في منتصف الليل، ينبض قلبه من الرعب لأن يد خفية قد امتدت لتوقظه .
-من أيقظني من نومي؟
كانت أصوات الرياح المتوسطة تهب في فضاء دبي في تلك الليلة الموغلة بالبرودة في أواخر ديسمبر وتصفق نوافذ الحجرة كما يصفع سعف نخلتنا المزروعة في حديقتنا باب مرآب السيارات . كل شيء لحظتها كان يصدر حفيفا يشبه حفيف غصون شجرة السرو التي وصفها ” هاروكي ” في قصته بأنها كانت تصفق البوابات المكسورة لمسبح المدرسة التي يحرسها بطل قصة “المرآة” !
ظل صرير مفاصل البوابة التي تجيء وتروح ذهابا وايابا ي حديقة منزلنا مستمرا طوال الليل ، وكدت أعتاد تلك الضوضاء اللامتناهية حينما تعاظم فجأة رنين منبه الساعة بجواري من جديد فدفعته بيدي بسرعة ليسقط على الأرض مهشما ولم أجرؤ على النظر في الوقت خشية أن أجد العقرب متوقفا عند تمام الثالثة فجرا.
-يا رب السماء ، ساعدني !
في تلك اللحظة رأيته ، كان الحارس الراقد بجواري على السرير ينتفض من منامه بعد أن قاطعه رنين المنبه المباغت وينظر حوله . شهق قلبي فزعا وانقطعت أنفاسي خشية أن يسمعها. ظل جالسا في السرير لوهلة ثم قرر النهوض من الفراش ليعرف ما إذا كان قد استيقظ في الواقع أم أنه لا يزال يحلم ولم يغادر مكانه.
جلس على حافة السرير مشبعا بالقلق، يهدر في رأسه صوت التساؤل المفزع عما أيقظه في هذه الليلة الشتائية الكئيبة ثم غادر فراشه متقلدا سيفه الخشبي وخرج من حجرتي متجها إلى الممر . كان يمشي متسائلا عن السبب الذي يدفعه للقيام بجولته اليومية والتي اعتاد القيام بها لزيارة وتفقد مرافق المدرسة للاطمئنان على خلوها من الغرباء كعادته، ولم تكن برودة الليلة وأجوائها يسمحان بهذه الجولة المريبة، لكنه استيقظ وخرج وأنا أرقبه بلسان مشلول من الصدمة !
سار متنقلا بين ردهات ودهاليز المدرسة المهجورة في الليل، وكان يسير كمن يطير ومدفوعا مثل النائم بأيد خفية تحركه. شعرت وكأن روحي هي التي تقود جسده، لكنها لم تكن روحي التي أعرفها، بل ولا أعرف كيف أيقظته وقادته وإلى أين تمضي به .
كنت أراه ماضيا في ممرات منزلنا، لكنه يعتقد بأنه يسير بين ممرات المدرسة كي يمارس مهمته اليومية، فهو حارس مدرسة وهي الوظيفة التي لم يتمكن من العثور على غيرها لأنه لم يكن قد أكمل تعليمه الجامعي ، ولأنه رفض أن يتعلم راضخا لنوازع مراهقة أوقعته في هوة الجهل . لقد أصبح حارس مدرسته القديمة لأنها الوظيفة الوحيدة التي قبلوه فيها.. بعد فشله في الحياة!
ازدادت رعشات جسدي أسفل الغطاء، وكان الدم ينسحب من أوردتي لأني أراه أمامي وأشاهد كل ما يجري في القصة، كمن تعيش في حلم الحارس بطل قصة “المرآة” . ورغم أن العتمة حولي كانت تمسح كل المرئيات بحلكتها كانت صورة الحارس تزداد وضوحا وتومض من بين السكون.
وفوجئت برؤيتي واقفة في ممر من ممرات تلك المدرسة التي يحرسها وكل ما حولي يتمايل كما تتمايل غصون السرو وتلطم وجه باب مرآب السيارات ، فماد بي سريري وكأنه يلفظني خارجه ويدفعني للسير خلف الحارس وملاحقته . لماذا ألاحقه ؟ لم أكن أعرف الإجابة لكنني مضيت أتبعه ، وكنت لا أسير على قدمي بإرادتي بل هناك من يدفعني من الخلف ويقودني قسرا خلف الحارس . كنت سادرة إلى حيث لا أدري .
لمت نفسي مرارا ، فأنا الآن في موقف لا أحسد عليه ، ولا أدري إن كنت قد أخطأت بقراءة تلك القصة المرعبة قبل النوم أم أن روح الحارس هي التي دفعتني إلى قراءتها بعد أن ومضت في ذاكرتي كي يجرني وراءه إلى قلب الأحداث . أنا الآن أحلم بدون إرادتي، والحلم يدفعني للوقوع في هوة كابوس مرير وكلما حاولت الاستغاثة بأحد يتهشم صوتي ويتساقط متناثرا في الفراغ .
لم يكن بالإمكان الخروج من ذلك الكابوس إلا إذا حدثت معجزة واستيقظت، ولكن من سيوقظني الآن؟
ظلت تفاصيل القصة تمخر عباب ذاكرتي وتكبر الأحداث فيها ببطء فكأنها تلفني مثل غلاف فضفاض يعلق سيقاني في الهواء ويدور بي في الفضاء . تحولت القصة إلى كابوس حقيقي يسحب أقدامي إلى قلب رماله المتحركة هكذا قلت لنفسي بينما لا زلت أمضي وراء الحارس الذي يسير في ردهات المدرسة صامتا، فلا أسمع سوى احتكاك باطن حذاءه المطاطي فوق بلاطها الصقيل.
كان حفيف السيف الخشبي المتدلي على خاصرته يرعبني ومع هذا لم أكن قادرة على التراجع أو حتى الاستنجاد بأحد خشية أن يستيقظ من نومه ويراني. سار الحارس موغلا في الممر الضيق مع تزايد صرير الرياح المتلاطمة والتي ظلت تزعق وتعوي في الأفق، بينما سحبتني أقدامي مجبرة وراء الظل وكنت أمضي خلفه مثل خرساء ضريرة .
مضى الحارس يفتح أبوابا ويغلقها، فهو يتفقد الغرف ويفعل ما اعتاد القيام به يوميا ، وعندما وصل إلى صالة الرياضة توقف طويلا واضعا يده على مقبض الباب ، وسمعت صوت لهاثه يعلو قبل أن يدفعه لينفتح . كنت لا أزال واقفة خلفه أرقب ما يجري برعب ، وأراه مترددا يحدق في الأكرة كمن لا يعرف لماذا جاء إلى هنا ولماذا يقف أمام الباب وماذا سيرى في الداخل لو دفعه . لقد استيقظ قبل قليل ولا يدري لماذا رن جرس المنبه بجواره ولا من يدفعه للحركة في تلك الاتجاهات ولماذا يذهب إلى هناك في تلك الساعة المتأخرة من الليل وماذا سيرى لو فتح الباب وولج الحجرة .
أصبح سماع أصوات تساؤلاته المتداخلة في رأسي مؤلما فكأني أستعيد قراءة قصته وهو يفكر فنتلاقى في مكان لا يعرف أي منا محله ولا يدرك أي منا سبب هذا اللقاء العجيب حتى بدأ الخوف يحتقن في قلبي فعلت خفقاته وخشيت أن ينبه ارتفاعها الحارس أمامي .
أوغل مفتاحه في ثقب الباب ودفعه، فصر منفرجا عن هوة معتمة وداكنة ، فاح من داخلها عبق آثار عرق اللاعبين وروائح الأجهزة والادوات المطاطية المستقرة في أماكنها ، دخل وأغلق الباب خلفه ثم تابع سيره ماضيا وأنا أتبعه مسيرة بلا صوت ولا خيار ، ثم أدركت فجأة بأنني لحقت به رغم أن الباب كان مغلقا ، وجفت دماء عروقي لأني خلت بأنني روح مثله و جسدي مدفون في هذه الصالة الرياضية الكبرى.
كان يسير بلا توقف إلى أن شهق فجأة ثم تجلد في مكانه وهو ينتفض مرعوبا كمن رأى شبح .
ارتعش جسدي مثله ، ولم أرى سوى عيناه مثبتتان فوق مرآة منضدة الزينة في حجرتي والتي أصبحت الآن في مواجهته لأنها تنتصب في منتصف حجرة نومي .
-هل سيراني؟
تراجعت حتى كدت أهوى على الأرض مفزوعة ، فالحارس يقف الآن أمام مرآة حجرتي ، وهو ليس شبحا خارجا من قصة لأنني لا أؤمن بالأشباح ، لكنه لو دقق النظر في المرآة سيراني خلفه وربما سيستل سيفه فيشقني بسبب خوفه نصفين !
كان الحارس لا يزال واقفا في مكانه يحدق في المرآة ذاهلا ومستغربا مما يراه، فهو لم يراها في تلك الصالة من قبل ولم يتذكر وجودها هناك طوال فترة عمله في المدرسة . همهم في أعماقه صوت خفي متسائلا عن سبب وجود تلك المرآة في ذلك المكان وكيف وصلت إلى هناك ومن جاء بها . ظل واقفا أشبه بجثة باردة لا تتحرك ولا تتنفس و عيناه تحدقان في وجهه المنعكس على وجه المرآة الصقيل بكل استغراب. كان ينظر إلى نفسه لكنه يراها أكبر سنا من حقيقته وإن كان لايزال مرتديا ثياب حارس أمن المدرسة!
-أهكذا سينتهي به الأمر؟ حارسا في المدرسة ؟
عاد رعبي يدق بعنف ، حينما بدأ الحارس يلتفت حوله شبه مذعور كمن يبحث عن أحد يفشي له سر خوفه ورعبه ، سينتهي حارسا ضئيل الشأن في مدرسته ، ولن يكبر أبدا وينال ما ظن يوما بأنه سيحصل عليه !
كاد قلبي يقفز من صدري ويتدحرج أمامه على الأرض لكنني لم أجرؤ على الحركة لأني أخشى إن استدار أن يراني خلفه وإن تحركت لأهرب أن يلحظ انعكاس صورتي في المرآة فيقتلني بسيفه المجهز للقتل !
انتفضت وأنا أرى عينا الحارس تتسعان فوق حدود صورته في المرآة التي لم يتوقع رؤيتها في تلك الساعة من الليل. لم يفتح فمه بكلمة ، لكنه ظل يتنفس بتثاقل ويشهق مرعوبا ، وكدت أتهاوى على الأرض من الفزع ، فكأن شهقاته المتتابعة تستدعي كل أشباح العالم لتهاجمني .
ظل جسدي يتلاطم مثل عقلي مع غرابة الكابوس فأنا لا زلت راقدة أسفل الغطاء وفرائصي ترتعد مثل فريسة أوقعها الغدر بين أنياب وحش ، لكنني في الوقت نفسه واقفة خلف الحارس أرقب انفعالاته وأقرأ توقعاته ، فلم يكن هناك فرق بين وصف “هاروكي” للمرآة في قصته وبين مرآة حجرتي التي ترتفع فوق منضدة الزينة وتملأ فضاء الجدار المنصوب أمام سريري .
حدقت في مرآة حجرتي مليا وكنت أتساءل عما إذا كانت مرآتي تشبه المرآة التي وقف الحارس قبالتها في القصة ، وهل يمكن أن تكون هي نفسها ؟ خطر لي هذا السؤال المرعب مع اشتداد برودة المكان وطغيان صوت قلقي واستبداد صورة الحارس المنتشرة على سطح المرآة الصقيل حتى ظننت بأن قلبي سيقفز من جوفي ويقع صريعا أسفل قدميه.
كنت أعلم أنه بإمكاني رؤية نفسي في مرآة المنضدة التي تواجه سريري رغم نومي فاستدرت دورة كاملة لأجد الحارس الذي كان لا يزال واقفا هناك يحدق في صورتي المنعكسة في مواجهته.. فصرخت:
– لقد رآني!
صحت من الخوف مرارا ورغم أن صوتي المحبوس لم يخرج من حنجرتي فقد رأيته يلتفت إلي برأس يخلو من الملامح ولسان مقطوع يقطر بالدم وكان يطلب مني النظر إليه لأرى نفسي بعد مرور سنوات لم أحقق فيها شيئا في حياتي !
بدأت أصرخ لكن صوتي كان يصدر من حنجرة عاجزة عن الاستغاثة، وأطرافي مصابة بخدر يعجزها عن السير، ثم لمحته يعاود التحديق في المرآة متسائلا عما يحدث ومن أين جاءت تلك المرآة ولماذا يرى صورته فيها فتيقنت بأنه لم يراني لكنه إن فعل فسيظنني شبحا مثل شبحه الذي يسدل الليل ستار عتمته عليه .
ارتج قلبي من الخوف مع تردد أصوات الرياح الهائجة والغاضبة وهي تصرخ في وجه النافذة وتلطمها بعنف فتشبثت بالغطاء أكثر ولففته حول جسدي بإحكام لأغلق كل المنافذ و أحمي نفسي من انتقام الحارس .
لو رآني الآن سيجرني من أسفل الغطاء كي يمزق جسدي ويغرس سيفه الخشبي في قلبي بلا رحمة !
هكذا فكرت وتمنيت في أعماقي لو أموت فأنجو من افتراس وحش لن يتردد في نهشي وغرز أنيابه في رأسي وقلبي.
جحظت عيون الحارس في تلك اللحظة فجأة كمن رأى شيئا غريبا في صورته المنعكسة على المرآة ، وسقط قلبي محدثا دويا في أعماقي ، هل يكون قد رآني ؟ هل أدرك وجودي معه في الكابوس عبر المرآة ؟
ولكن ولحسن الحظ لم يكن ينظر إلى صورتي الظاهرة في المرآة بل كانت صورته هي التي لا تزال تنظر إليه وتحدق في وجهه بغضب شديد وكأنها ترشقه بقذائف نارية مغموسة بالكره والغيظ .
بدأت أطفو فوق جليد صقيل عائم على سطح مياه بحر مظلم وكان الحارس المشدوه ينظر إلى غريمه في المرآة ويتبادلان نظرات ملؤها الخوف والكره ، لكنهما عاجزان عن الكلام بسبب لسانه المقطوع ولأن غريمه سجين الزجاج .
في تلك اللحظة وجد الحارس نفسه في مواجهة غريبة لا يعرف سببها ،فهو لا يعلم من أيقظه وكيف دفعه ليأتي إلى هذا المكان ، أيكون غريمه العجوز القابع في تلك المرآة قد دعاه ليرى نفسه بعد سنين ؟ هل سيكون على هذه الصورة بعد أن يفارقه الشباب ويلقي به في جعبة الشيخوخة والوهن ؟ ولماذا اختارني ليتجسد في هذا الزمن ؟
تأوهت خوفا عندما لمحت نظرات الحارس تخضل بالدموع ، فهو عاجز عن كراهية شيخوخته المحبوسة في المرآة ومدرك لحقيقة ما وجد نفسه فيه . أيعقل أن ينتهي به الأمر مجرد حارس في مدرسته بعد أن كان يحلق بطموحاته إلى فضاء أبعد مما يتخيل؟
في تلك اللحظة ، لمحت توهج الغضب في نظراته ، ثم انتفض مرتبكا برعب المفاجأة ورفع سيفه الخشبي ليهوي به على وجه مرآة منضدتي بكل قواه .كان يقتل صورته العجوز ويمحق نظراته المخيفة المترعة بالكراهية .
دفعني الرعب لحظتها لإغلاق عيوني بشدة و حبست أنفاسي خشية أن يلتفت ناحيتي متابعا تحطيمي بسيفه المتأجج بالغضب . تكومت في الفراش مثل صخرة صماء تلهث في أعماقها بالخوف .
تهشم وجه المرآة التي تهاوت نثرات حطامها أسفل قدميه ثم ركض هاربا مخترقا الجدار متلاشيا عبره .
واختفى !
كنت ألهث و يرجني الفزع بينما لا أزال مغمضة عيناي بشدة وكأني أجبرهما على النوم وأحاول اقناع خوفي بأن ما رأيته مجرد وهم وبأن القصة التي كتبها هاروكي لم تكن سوى حكاية مختلقة من وحي مخيلته لا أكثر . كانت المرآة رمزا لضمير شاب لم يكمل تعليمه وانحنى أمام صفعات الحياة التي أجبرته على القبول بوظيفة متواضعة وهي الوجه الذي كشف صورة ضميره العجوز والذي كان يوقظه على نفس الألم كل ليلة ، أليس هذا ما حدث لي ؟ ألم أفضل الانسحاب من الجامعة لأن الدراسة كانت لا تعني لي الكثير ولأني لم أكن أرغب بالحصول على شهادة والعمل مستقبلا ؟
ساد المكان صمت دامس مثل صمت الذهول الذي يحدث بعد انتهاء حفل صاخب وانسحاب الناس من المكان، ولأني لم أعد قادرة على ابتلاع خوفي تفجرت من عيناي دموع الرعب التي تراكمت سحبها فيهما بينما أجاهد بكتم صوت أنفاسي خشية أن يسمعها ويعود خارجا من الجدار !
تمادت عتمة الليل وكأنها لن تنقضي أبدا فتصورت نفسي أنا العالقة بين جدران الأزمنة أدور في دهاليز المدرسة محبوسة بروحي لا بجسدي هناك كما حدث للحارس الذي أضاع شبابه وتعثر أمام أول صخرة أعاقته عن النجاح إلى أن هدر في جمجمتي صوت عظيم، خلته لوهلة بوق يعلن نهايتي المحتومة.
فتحت عيوني، فلمحت العاملة تجر المكنسة الكهربائية التي يمزق هدرها السكون، وقبل أن أؤنبها تذكرت بأن هذا الصوت هو الذي أيقظني من كابوس كاد يبلعني.
كان النهار قد شق عتمة الحجرة متسربا من ثغرة في الستائر، والعاملة تدور في المكان بينما صوت المكنسة الكهربائية يصخب بين يديها غير مكترثة بما تحدثه بها من ازعاج.
انتصبت جالسة على السرير وعيناي تتأملان الحجرة وتستعيدان محل وجودي حتى تيقنت بأنه مجرد كابوس، فأنا لا أزال في حجرتي المعتادة ولم يكن هناك أي حارس أو مدرسة أو أي شيء مما تخيلته.
تنفست الصعداء واستقر قلبي في مكانه بعد أن كاد ينفر من جسدي وكنت قد قررت فجأة ارتداء ثيابي والذهاب الى الجامعة لمتابعة الدراسة فيها والغاء قراري بالانسحاب.
وخرج صوتي لأسأل العاملة عن سبب كنس حجرتي في الصباح الباكر.
فقالت أثناء انهماكها في تنظيف المكان بينما نظراتها تدقق في وجهي بغرابة بأن أمي التي جاءت لإيقاظي صباحا كي لا أتأخر على الجامعة قد فوجئت بحطام مرآة المنضدة متناثرا فوق أرضية الحجرة وكأن هناك من هوى عليها بسيف وحطمها بكل ما يملك من قوة !
لم يكن لدي ما أقوله بعد ما قالته، وكل ما حدث أنني شعرت بارتخاء في جسدي يشبه خدر الصدمة وعاد قلبي يضخ دم الفزع بقوة ، بينما عيناي المنفرجتان قد تعلقتا في السقف ذاهلة .
من مجموعة “ما لن يصدقه أحد ” الصادرة عن هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة عام 2018