- مرحبا عمير، لقاؤنا الخميس القادم في الموضع الذي جمعنا قبل ثلاث سنوات، لم يتغير شيء. دعوت الأصدقاء كلّهم، احرص على الحضور.
كلمات سهيل معطف أمين في ليلة باردة، صوف مغزول بعناية، هكذا تصل دماثته ولو عبر الهاتف، ولا أستطيع إزاءها سوى التلبية وتحقيق الرجاء؛ أكان قطعَ أربعمئة كيلومتر لمشاهدة السيارات المجهزة للصحراء تتسابق في صعود التلال المرعبة، أو طَبقًا إضافيا من البوفيه، أو مراجعةً أخيرة لتقرير التخرّج نيابة عن المجموعة، وعلى أية حال.. لم يكن اللقاء الدوري لزملاء الجامعة من الهجمات الاجتماعية التي أتدرّع عنها بالأعذار، أبرع في ذلك تُجاهَ المناسبات الأخرى، والتي تُلزمك الابتسام الباهت وقول عبارات معلّبة، كالأعراس والأعياد مع العائلة، وعزاء الأباعد، أرى أن جلسة الزملاء أقلَّ سوءًا؛ ففيها – ابتداءً -تدريب لذاكرتي المعطوبة بعدة طرائق، إما بمطابقة الوجوه مع سجلّ الأسماء، أو بسرد قصص واستعادة مواقف حدثت قبل أكثر من ثلاثين سنة ولو بجهد تكافلي، حيث يضيف كل واحد رشَّتَه من المفارقات لتصدر النسخة النهائية شهية وحرّاقة، بهارات تنجح كل مرة في تمرين عضلة القلب، ودحرجة التاريخ إلى حيز المتخيّل، فتنشأ نسخة جديدة من الذاكرة المشتركة، مزيفة لكنه مقبولة بالإجماع. لعلّ هذا ما يجعل لقاء الزملاء مستساغا، كما إنه يفتح لي نوافذَ على حيوات أقراني، ويمكّنني من زحزحة شيء من الذنب، فلا بد أن يكون أحدهم قد اتخذ قرارات أكثر تهوّرا أو سفها منك، لا تشفّيًا ولا استهزاءً، وإنما أحب أن أضع الأمور في نظام كلّي. رحم الله أينشتاين، أراحنا بالنسبية.
خرجت قبل الموعد بساعتين، ساعة للطريق، وأخرى لي، أردت أن أستنشق المطر في الكثبان، وأن أتحدّى بصري بتحديد النجوم الحقيقية وفرزها عن الطائرات وأقمار الاتصالات التي بثّها إيلون ماسك بالآلاف في الفضاء الذي لم يعد اسمه صالحا له.
أخذت المسرب رقم 119 باتجاه الطويّيـن، وبعد مستشفى خليفة ببضعة كيلومترات خرجت عن المسار وأبحرت في الرمال، بنعومة وصلت إلى الموضع المتفق عليه، لم يكن بعيدا عن الأسفلت، أطفأت المحرك جوار شجرة غاف كبيرة شذّب الإبل أغصانها من الأسفل في خطّ مستوٍ، بينما حافظت على عفويتها من الأعلى. فرشت ثلاثة حُصر، ليس ثمة رياح تجبرني على تثبيتها، أنزلت تُرمس الماء وعدة إشعال النار، ودلتي الشاي والقهوة، وصففت الفناجين وكؤوس الشاي، ورحت أجمع الحطب قبل وصول الزملاء، وعندما عدت وجدت أوّل الواصلين، بلا سيارة، يبدو أنه أوقفها بمحاذاة الأسفلت وجاء – كما أرى – حافيا، يضع لثاما ويشاكسني بلعبة التخمين، ينثر بعض المعلومات عن الجامعة يحثني أن أتبعه في دهليز، وعندما أصبت في إجابة ثانوية بعد عشر محاولات، نزع لثامه مهنّئا، ومزهوًّا كذلك:
- صدقت، أنا حمدان، كنت في كلية التاريخ، لم أدرس الطب معكم أيها المتفوّقون. وكنا نتبارى – أنا وأنت – في تنس الطاولة في النادي الاجتماعي، والميزان يميل لصالحي دائما، لا شك أنك تذكر!
ابتسمت، لكني لم أميّز حمدان هذا، ولا أذكر أني قلت اسمه ليهنّئني بالإصابة، لا بأس، لا تنصفني ذاكرتي في المواقف جميعها، وعليّ ألا أكشف هذا الضعف، فالليلة ما زالت في مهدها، ولم يحن بعد أوان التخفّف من الوقار والسخرية من الذات، وكل هذا الهراء. قلت في نفسي: بعد قليل سيصل الباقون ويقلّبون قدر الذكريات، حتى ذاك سأتجمّل.
نشأ اتفاق ضمني أن نهيّئ المكان، تعاونّا على حفر الموقد، صالبنا الأحطاب السميكة، راكمنا مجموعة من الأغصان متباينة، وخلّلناها بالعيدان الرقيقة. بثقة خبير أخذ حمدان يفنّد الأغصان الرطبة، انهمك في ذلك وهو يشرّق ويغرّب في تحليل الأحداث العالمية ومناكفات الدول الكبرى لبعضها، وفي الوقت نفسه متجاهلا نظراتي المختلسة، نثر على كومة الأغصان بضع مكعّبات شمعية كنت أحضرتها معي، ثم قطع مربعا كرتونيا من علبة المحارم وأشعل طرفه بولاعة السجائر، وحين تمكنت منه النار قرّبه إلى المكعبات البيضاء سريعة الاشتعال، وهو يردد بصوت يكاد لا يُسمع: “لولا اشتعالُ النار فيما جاوَرَتْ…”. طقطق الخشب قليلا، وفي رفّة جناح شعرنا بالدفء يتفشّى في المكان، والنور معه. حينها رأيت وجهَه أكثر وضوحا، لكني لم أتعرّفه، ولم أستطع مواءمته مع اسم أو موقف من الماضي، له فكّان محددان وشفتان سميكتان، وجهه مضلّع وأنفه طويل، في عينيه حدّة وله شارب كثيف ولحية حالكة السواد، يضع شماغا أحمر يلفّ جهة واحدة منه على رأسه ويبقي الأخرى منسدلة على أكتاف مكوّرة، الجرس الوحيد الذي صلصل في رأسي وقتها أن رجلا بهذه الملامح وهذا القوام لا يمكن أن يكون من جيلنا، لكني وأدت الفكرة، فنحن نعيش عصر التجميل، ولم يعد من الممكن معرفة عمر أحد من مظهره.
تحققت من الساعة في المحمول وإذ به الموعد المرتقب، لكنْ لم يصل أحد، ولم يتصل أحد، قدّرت أن أصبر لربع ساعة ثم أتصل بسهيل. راقبت حمدان وهو يضع إبريقا نحاسيا كبيرا يظهر عليه أثر الزمن، ظلت ألسنة اللهب تتراقص حول قاعدته، ورفيقي يضيف الشاي والحليب المكثّف والسكّر بإسراف، بَيْد أني بعد رشفة واحدة علمت أنها مقادير محسوبة، بل ومطلوبة لصقيعٍ مُدبّب.
وفي تحوّل غير مفاجئ شرع حمدان يسرد قصصا مليئة بالعجائب، دون التقاط لنفس، ولا انتظارٍ لموافقة أو تصديق، منها عن شعارات الدول التي تحمل رموزا خارجة عن المقبول عُرفا، أو عدّائين بلغوا سرعات لا يصدقها العقل وبرجل واحدة، ووجبات شهيرة تخلط اللحوم بالحشرات، وعجائب عالم الحيوان، وأنا أهمهم وأبتسم بكُلّي، وأقهقه حيث يلزم.
ممّا قصّ عليَّ يومها أن الإسكندر الأكبر كان يحرص أن يحاط بأهل العلم والفكر كما بالبواسل الشجعان، وأن أحد علمائه المخلصين لم يقبل أن يُشق لمدينة اسم من ظلال القائد الأكبر إلا أن تليق بعظمته، وكان مؤمنا بأثر الهواء على الحيوات كلها، فعمل وجرّب حتى توصل إلى طريقة لدراسة الرياح وتياراتها، ومواقيت هبوبها، ونشاطها وخمولها، أنجز ذلك بأن ركّب مسحوقا كيميائيا قليل الاستجابة للجاذبية الأرضية، ينثره في يوم عاصف فيبقى في الجوّ لأيّام عديدة. وبعد تجاربَ امتدّت لعامين جاءت نتائج الإسكندرية في مصر مبشّرة، ومتفوقة على جاراتها من المدن الفينيقية. وعلى مقياس مفصّل حلّ هواؤها في أقصى الخانة الموسومة بالمنعش، والباثّ للطاقة، بل والرافد للإبداع الفكري والأدبي، فكانت هذه علّة اصطفائها من قبل الإسكندر ليشتق اسمها من اسمه، بل كانت الأثيرة ضمن نظيراتها حول العالم.
على خلاف الغرائب السابقة، كان حمدان يضع فواصل من الأيمان المغلّظة في هذه القصة. لا أعلم إنْ كان قرأ – مخطئا – صمتي استسلاما وتسليما، فقد ذهب بعيدا في وصفه للإسكندرية وهوائها، إلى أن جعله الرافع الأساس لتأليف الحِكم العطائية، وفي وثبة أخرى زَعَمَ أن ابن عطاء الله السكندري لو عاش في مدينة أخرى لما استطاع أن يأتي بكتابه الفريد. استمررت في سكوتي، أردت أن أكون بدماثة سهيل، وأظن أنني نجحت.
مضى موعد اللقاء بالزملاء منذ أكثر من أربعين دقيقة، وهاتفي ليس فيه إشارة، استأذنت من حمدان وذهبت إلى السيارة لأتحقق من كان الهاتف الآخر، وجدت فيه رمقا من الإرسال، اتصلت بسهيل، وعلمت أنني لم آخذ المخرج الصحيح، فجلستنا قبل ثلاث سنوات كانت على روابي العين لا رأس الخيمة، وأن الزملاء يوشكون على الانقضاض على العشاء، ولا سبيل للالتحاق بهم. سألته عن حمدان، لكنه لم يعرني انتباها كافيا، ولم تسعفه الأصوات من حوله، جاءت عبارة سهيل جابرة لخاطري وحاسمة للحوار: “برّ بلادنا كله جميل. استمتع بليلتك. المعذرة فعليّ الذهاب”، انتهى الاتصال وعدت إلى موضعي أمام النار، الشاي يشهق ويزفر، والدخان يتصاعد من فوّهة الإبريق، أما حمدان فلا أثر له.
ليلة الخميس الذي تلت ذهبت إلى الموضع نفسه، كنت قد حفظته على الخريطة الإلكترونية قبل مغادرتي، قمت بما يجب، لم أكن أريد الجلوس ولا الاستمتاع بلعبة النجوم وفرز أقمار إيلون ماسك عن النجوم الحقيقية، كل ما أردته أن يأتي حمدان ولو صدفة، انتظرت حتى منتصف الليل، فلم يأتِ، لملمت العدّة وغادرت منهزما.
في منتصف طريق العودة إلى الشارقة توقفت جوار كشك لبيع الشاي، أشرت إليه بالسبابة؛ واحد، عرّف الكشك تخصّصه على اللافتة الكبيرة والمضاءة بالنيون، ولا خيارات سوى أن تحدد الكمية، جاءت الصينية وعليها كوب بلاستيكي شفّاف، وأربعة دراهم معدنية تحسّبا لأن أدفع ورقة بخمس، لم أجد إلا عشرة فوضعتها خجِلا، ذهب الرجل ليحضر الباقي، في إقباله عائدا بششت في وجهه شكرا واعتذارا عن تكليفه قطع المسافة مرتين لأجل درهم، فبعثر من خلف اللثام حروفا قليلة وغادر مسرعا، تحركت تروس عقلي للحظات، ثم وجدتي أصيح عليه، فعيناه اللوزيتان وصوته الخافت لا يمكن أن يخطئها إلا أعمى وأصمّ:
- هيه، هل أنت حمدان؟ من فضلك انزع اللثام
- لا.. أرباب، اسمي امتياز
أظهر الرجل استغرابه، وأحسبه كان يتملّص من الإقرار بالحقيقة التي نعرفها نحن الاثنان، هو حمدان صاحب القصص، ليس عندي شك في ذلك، فلم أملك سو مباغتتِه بالقاضية:
- طيّب.. أخبرني يا سيد امتياز، منذ متى لم تزرِ الإسكندرية؟