عبد الحميد

غواية – عبد الحميد أحمد

 

لا يعرف منذ متى بدأ يحلم بالماء.

كان يمشي في البداية مسرعاً إلى البحر.

هكذا رآه الآخرون، وحين رأوه عقدت الدهشة ألسنتهم، إذ فجأة سقطت إحدى يديه في الطريق، ولم يكترث لها، لم يتوقف لالتقاطها، ولا ليذرف دمعة عليها.

تركها ومضى في طريقه مسرعاً، غير عابئ بنظراتهم، إذ إن المفاجأة نفسها داهمته قبلهم ثم تجاوزها. هكذا بدأت : انفصل إصبع من راحة اليد، ثم لحقه الثاني والثالث فالرابع فالخامس، مع كل خطوة، حتى تساقطت جميعها، وحين نظر إلى يده كانت بلا إصابع، لكن البحر كان أكثر إغراء وسحراً وجاذبية، وها إنه الآن يحث خطاه مستبسلاً الوصول إليه، ثمة شيطان، أو قوة، أو إحساس قاتل يدفعه دفعاً إلى الماء، وها هو يلوح من بعيد لامعاً كالفضة، أو الأصداف، تحت شمس النهار الضاحكة، وها هي زرقته البهيجة توشح المدى، وتوقظ الطفولة الغابرة. ضاعف من سرعته، بخطوات أوسع، وحين بدأت أصابع يده الأخرى في التساقط لم تجرفه المفاجأة : لتلحق الأخرى.

كل شيء يتخلى ويغادره، لا بأس! حدَّث نفسه، ومضى جذعاً فوق قدمين، ورأساً فوق جذع، أمامه جسد أزرق شاسع لا حدود لغوايته التي لا يعرف منذ متى بدأت، ولا يعرف مثيلاً او شبيهاً لآلامها وعذاباتها الممتعة، ولمسراتها الفاجعة. وبعد قليل، بعد خطوة أو خطوتين، رعشة أو رعشتين، سيجد الماء في انتظاره، يلجه من جديد ، يتكور فيه، حيث الدفء والرطوبة اللذيذة، سمكة أخرى بين الأعشاب والقواقع والبياض الكلي، في هدوء وسكون نهائيين، وحيداً خارج الضوضاء والأصوات الأخرى.

وفجأة أخرى، اختفت زرقة الماء وحمرة الشمس، إذ سقط على وجهه متعفراً بالرمل، بعد أن تعثر بإحدى رجليه حال انفصالها عن جذعه وسقوطها أمامه.

رفع رأسه ولعن الجسد المتآكل، وشتم العيون الهازئة والهمسات الراثية والصخب القادم من كهوف الأفواه الأخرى. الماء لم يعد حلماً ها هو يراه أمامه وعما قليل سيلمسه إلى الأبد، وإلى الأبد لترحل الأطراف جميعها، ليندثر الآخرون ولتحترق حقول المرارة في هجير الشمس، أو لتكتوي بنيران بؤسها وفجيعتها الأزلية، تلك الأجساد والأصوات والرؤوس المدماة بالعذاب. الماء. الماء. منذ متى بدأ يحلم بالماء؟ ويعذبه الحنين إليه؟ وهكذا نهض على رجل وحيدة، حمل جسده ، وكان وجهاً لوجه أمام البحر. ومثل عصفور كسير الجناح قفز في اتجاه الماء، قفزة، ثم قفزة أخرى، ثم قفزة ، وقفزة أخرى، لكنه ارتطم مجدداً بالأرض، إذ أصبح  جذعاً ورأساً بلا أطراف، سمكة أو أفعى، لو أنه وصل الماء، لسبح بعد أن تكون زعانف قد شبت فوق جذعه بدلاً من هذه الأطراف المتساقطة في الطريق.

حدَّث نفسه، وهو يرفع رأسه المتعب إلى السماء الزرقاء الصافية، هي زرقة البحر. البحر هنا! حدَّث نفسه. بعد لحظات سيكون حراً مثل سمكة، سيعوم إلى الأعماق البعيدة الدافئة المعشوشبة، عارياً من كل شيء من الليل والنهار، البحر هنا! حدَّث نفسه، جاء صوته إلى أذنيه كترنيمة خرافية انبعثت منذ زمان ضارب في القدم، أمواجه تصطخب بلا نهاية، موجة، موجة، رعشة رعشة، دفقة دفقة، يسمعها وهو ملتصق بالأرض.

محاولة أخرى أخيرة ويصبح مجدداً في الماء إلى زمن طويل طويل.

على بطنه بدأ يزحف بإصرار واستماتة وعناء.

لهاثه يتلاحق كلهاث سمكة أخرجت للتو من البحر، توشك على الموت، رذاذه يتناثر شظايا على الرمل الناصع.

البحر يقترب أكثر. شم رائحته العابقة بالرطوبة الباردة والأعشاب والحصى والطحالب والأسماك اليانعة.

حاول أن يتذكر منذ متى بدأ يحلم بالماء.

تفصدت ذاكرته عرقاً، لكنه لم يتذكر شيئاً غير الحنين الذي ينغل في جوفه كالشهوة المميتة، كالرعشة الأولى اللذيذة الموجعة.

ثمة عطش كالسحر يسوقه إلى البحر قطيعاً من ذكريات وخرافة موغلة في النسيان. لم يعد يعبأ بجلده المتشقق زحفاً، كما لم يعبأ من قبل بأطرافه المتساقطة، طرفاً طرفاً، ولا بالأصوات الأخرى القادمة من بوابات الجحيم، أو بقطرات الدم التي صبغت التراب تاركة وراءه خيطاً متقطعاً.

شعت في عينيه نجمة كبيرة من الفرح، إذ رأى الماء أخيراً أقرب إليه من نبض قلبه، فاتحاً له ذراعين ممتدين كالأفق وها هي الزرقة المتسامية تدعوه في لهفة جسد أليف يعرفه جيداً. البحر أخيراً .البحر أخيراً.

زحفة واحدة ويكون في الماء يغرق في عذوبته الأزلية مرة وإلى الأبد.

زحفة واحدة، لكن الرأس تدحرج بعيداً منفصلاً عن الجسد، فهمد الأخير فوق التراب المشبع بالرطوبة كحجر أصم، فيما العينان في الرأس ترنوان بشبق إلى الموج الأزرق والأبيض وهو يقذف إلى اليابسة سمكة أخرى تحتضر!

من المجموعة القصصية (على حافة النهار)، إصدارات اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، 1992