علي العبدان

الأزهارُ الرَماديّة وقصصٌ أخرى قصيرةٌ جداً – علي العبدان

الأزهارُ الرمادية

كان يقولُ للناس كما يقولُ لعائلتهِ في جميع شؤون الحياة: “إما أبيض، وإما أسود. أنا لا أحب الرمادي”!

لكنْ لمّا كان الأبيضُ في طرَف، والأسودُ في طرَفٍ مقابل، خارَت قواهُ وهو يَسعى بينهما، ونظَرَ فوَجَد أزهاراً رماديةً في بُقعةٍ قريبة، فارتمى عليها، وشعر بسعادةٍ مُريبة.

أزاميل

وجَدَ نفسَه في حُجرةٍ ضيّقة، لا نوافذَ لها، وقد أُقفِلَ بابُها، وشعَرَ بمرارةٍ كبيرة، إذ رأى صخرةً من رُخامٍ معه في وَسَطِ الحُجرة.

لا شك في أن الذي حبَسَهُ معها يستهزئُ به، لأنه يعلمُ بأنه نحّات، يا للسخرية، إنه لم يترك له حتى أدواتٍ للنحت، لكنّ النحّاتَ سيصبرُ حتى تنموَ أظفارُه، وحينئذٍ سينحتُ في الصخر.

عازفُ الكمان

عزفَ على كمانهِ نغماتٍ جميلة، لكنّه مَلّ، فوضعَهُ جانباً، وأخذ قهوةً مُرّة، وخرَجَ إلى الشُرفة ليُدخن، وظلت النغماتُ تحومُ في فضاء الغرفة حائِرة، لا تعرفُ هل سيعودُ للعزفِ أم لا، إنها تكره رائحة دخانِه، وطعمَ قهوتِهِ المُرّة، كما تكرهُ مزاجَه، لكنها تطمعُ في أن يَهبَها الحياةَ من جديد، فظلت حائِمةً في انتظارِه.

صندوقُ الدنيــا

لم يكن يعرفُ كيفَ يعتذرُ لزوجتِه، كما لم يكن يعرفُ كيفَ يُوضح لها خطأَها في المقابل، وقد كان رسّاماً، فأعادَ صياغة ما حدَثَ بينهما في رسومٍ صغيرة، وضعها مُرتَّبَةً حسبَ تسلسُلِ الأحداث في (صندوق الدنيا)، وحمَلَهُ إليها مبتسِماً، ودعاها إلى التفرُّج على تلك الرسوم وهو يُحرِّكها، وحين رَأت ما رَأت، اعتذرَت إليه، وعَذَرَتهُ أيضاً، ثم قامَ إليها، فقَبَّلَها.

مَنــام

رأى في مَنامِهِ أنهُ يُؤمَرُ بِذَبحِ ابنِه، فقامَ في الصباح مُتَدبِّراً في رؤياه، وقصَدَ إلى ابنهِ الذي كان يَغُط في نومٍ عميق، فوضَعَ وردةً لطيفةَ الشَذَى على صدرِه، وقالَ لنفسِه: “أنا لستُ نبيِّاً”، فكافَأَهُ الرَّبُّ بأنْ رَزَقَهُ أرضاً ذاتَ نخيلٍ وأعناب.

أعطِني الناي

مَرَّ بعَظمةٍ طويلةٍ مَنخورة، دخلَت فيها ريحٌ فصَوَّتَت، فعَجِبَ لذلك، فالتَقَطَها، وجرّبَ أن ينفخَ فيها، فلم يصدر صوت. ثم مَرَّ بنهرٍ نبَتَت على شطّهِ عِيدانُ القَصَب، فرأى عُوداً منها فيه ثقوبٌ صنَعها طيرٌ صغير، ودخلَت فيه ريحٌ فصَوَّتَ، فانتزعَ ذلك العُود، وجرّبَ أن ينفخَ فيه، فلم يصدر صوت. ثم رأى بالقُربِ منهُ إنساناً مِثلَه، لكنها أنثى، كانت جالسةً تُسَرِّحُ شعرَها، وتُصَفِّرُ مِن فَمِها بنَغَمٍ عَذب، فاقتربَ منها، ورَمى العُودَ جانباً.

الحَفلُ التنكُّريّ

حين وصلَ إلى قاعةِ الحَفل، وجدَ لافتةً كبيرةً في المدخل، كُتِبَ عليها (الحَفلُ التنكُّريّ)، فعَجِبَ لذلك، إذ لم يكن يعلمُ بأنهُ حفلٌ تنكُّريّ، وقالَ في نفسِه وهو يدخل: “يا لَها من فكرةٍ سخيفةٍ استُهلِكت كثيراً”، وأخذ ينظرُ في الحاضرينَ الذينَ كان يعرفُ معظمَهم، ورأى أن ما يظهرُ عليهم من لباقة ليس سوى تنكُّرٍ وتمثيلٍ وخِداع، وقال: “آهٍ لو أنهم يَظهرون بوجوهِهم الحقيقية”. لكنّهُ انتبهَ فجأةً إلى أن الحاضرين غيرُ مُتنكِّرين، ثم علِمَ أن صاحبَ الحفل دعاهم إليهِ دون أن يُخبرَهم بأنهُ سمّاهُ حَفلاً تنكُّريّاً، فقالَ في نفسِه: “يا لَهُ مِن خبيث”.

عُصفورٌ مِن زُجاج

كان فَرِحاً بهذا العصفور الزجاجيِّ الصغير الذي أهدَتهُ إليهِ أُمُّه، فخرجَ كي يلعبَ به، فمَرَّ بهِ فِتيانٌ أشقياء، وأرادوا أن يأخذوا منه العصفور، فأبى ودافعَ عن نفسِه، فضربوهُ وانتزعوا العصفورَ منه، وقامَ كبيرُهم، فوضعَ العصفورَ تحتَ قدمِه، وداسَ عليه حتى تكسَّر، وكذلك فعلَ بقيّتُهم، حتى أصبحَ العصفورُ هَشيماً، ثم أخذوا هشيمَ الزجاج، ورَمَوْهُ في الهواء، مسرورين برؤيةِ لَمَعانِه، ولجهلهم بتقلبات الجَوّ، كانوا قد رَمَوا الهشيمَ في الجهةِ التي تهب منها الرِيح، فأعادت الرِيحُ ذلك الهشيمَ عليهم، فجرَّحَ عيونَهم، وباتوا عُمياناً.

الأختُ الماكِرة

رأت أختَها قد أصبحت سعيدةً جداً حين تزوّجت، فزارَتها في بيتِها الجديد ذاتَ مساءٍ شِتويّ، وحين اختَلَت بها، اقترَبت منها قائلةً: “أنتِ سعيدةٌ بزواجِك، أَليسَ كذلك؟ فما رأيُكِ لو جعلتُكِ أكثرَ سعادة؟”، وافقتِ الأختُ المتزوِّجة، وسألت أختَها عن الطريقة، فقالت: “قبلَ كلّ شيء عَدّدي لي أسبابَ سعادتِكِ الحاليّة؛ كي أُدَوِّنَها في هذه الورقة، إن حياتَنا هي كلِماتُنا عنها، وبإمكانِنا أن نزيدَ في الكلمات”، ففعلت المتزوِّجة ما طلبتهُ منها أختُها، ثم انتظرَت، إلا أنّ أختَها قامت، ورَمَت الورقةَ في المدفأةِ لِتحترِق، ثم التفَتَت مُبتَسِمةً إلى أختِها المتزوِّجة، فرَأتها شاحِبةَ الوجه.

سِرُّ المُنَمْنَمة

كان يُحبُ الاطلاعَ على المُنمنماتِ القديمة، فقصَدَ إلى المكتبةِ العامّة، وتناولَ كتاباً كبيراً، فيه منمنماتٌ جميلةُ الخطوط والألوان، تحكي قصةَ أحدِ الحكماء القدماء، والحوادثَ العظيمةَ التي مرَّت به، وهي كثيرة، لكنه اطلعَ عليها بِرَوِيَّة، مُنمنمةً تِلْوَ مُنمنمة، ثم قالَ في نفسِه: “ماذا لو أنني قلّبتُ صفحاتِ الكِتاب بسرعةٍ كبيرة، كما كانت الرسومُ القديمة تُحرّك في السينما؟ تُرى ماذا سأرى؟”، ففعَل، لكنهُ لم يَرَ سِوى حياةِ إنسانٍ تبدأ، ثم تنتهي.