صالح الهويدي

قراءة في عالم عبد الحميد أحمد القصصي

تقديم:

تنتمي إسهامات القاص الإماراتي عبد الحميد أحمد إلى مرحلة البواكير الأولى للقصة القصيرة في الإمارات، وهي مرحلة أسهم فيها قصاصون من أمثال: عبد الله صقر، وشيخة الناخي، وعبد الرضا السجواني، ومريم جمعة فرج، وعلي عبيد، ومظفر الحاج علي، ومحمد المري، وعبد العزيز خليل وسواهم، إذ ظهرت نتاجاته الأولى خلال الأعوام 1972-1975. وهي فترة وإن جاءت تاريخياً في أعقاب سنوات معدودة من كتابات بعض الرواد المجايلين له، لكننا لا نستطيع افتراض وجود أسوار عازلة بين تلك الكتابات، كما ذهب القاص نفسه حين أرّخ لمسيرة القصة الإماراتية وتطورها، جاعلاً من كتاباته امتداداً للمرحلة الريادية الأولى. فهي من جهة كانت معدودة ولم تشكل زخماً قصصياً، ومن جهة أخرى فإن سنوات تقل عن عدد أصابع اليد الواحدة لن تشكل مرحلة مستقلة يمكنها الفصل بين الكتاب الرواد؛ بعضهم عن بعض، فدلالة السبق هنا لن تعدو كونها دلالة تاريخية(توثيقية) أكثر منها دلالة نوعية فنية. ومن هنا فإن عبد الحميد أحمد ينتمي إلى الرعيل الأول من كتاب القصة في الإمارات وإلى الأجواء الفنية لذلك الرعيل. والحق أن التأريخ الفني للمسيرة الإبداعية لا يمكن أن يركن إلى تواريخ النشر معياراً وحيداً موثوقاً، ذلك أن قصاصين أو شعراء كثيرين قد يسبقون في الكتابة مجايليهم، لكنهم قد يتأخرون عن النشر سنوات، لأسباب شتى، ويبادر المتأخرون عنهم في نشر نتاجاتهم قبلهم، فتسجل الريادة التاريخية للمتأخر؛ لأن نتاج السابق ظل في منأى عن الدارسين. ولعل الاختلاف القائم على ريادة شعر التفعيلة (الحر) بين السياب ونازك الملائكة، ومن سبق الآخر، يعود لنشر نازك الملائكة قصيدتها (الكوليرا) قبل أن يصدر للسياب ديوانه الأول في السنة نفسها التي ظهرت فيها قصيدة نازك. ولكن علينا أن نعاود التفكير في معنى صدور مجموعة شعرية، وفي زمن كتابتها في السنة نفسها، وفي الزمن الذي استغرقه الشاعر لإنجازه قصيدة قصيدة، وإلام يرجع تاريخ كتابة أول قصيدة فيه؟ أما الأمر الآخر الذي نود أن ننوّه به فهو أن علينا أن نمايز في تحقيباتنا ودراساتنا النقدية دائماً، بين ريادتين: تاريخية وفنية.

وفي تقديري أنه على الرغم من ظهور عبد الحميد أحمد ضمن جيل الريادة الذي صدر جميعه، في نتاجاته الأولى، عن رؤية فنية غلّبت المحتوى القصصي في معالجاتها السردية على البناء الفني، أو في الأقل منحته الأولوية، وهو ما يوصف في الدراسات السردية بتغليب القصة على الخطاب السردي، أو المتن الحكائي على المبني الحكائي بمصطلح الشكلانيين الروس*، أقول إذا كان الرواد قد صدورا عن هذه الرؤية فإن القاص عبد الحميد أحمد استطاع بوعيه الاجتماعي والفني أن يمسك بطرفي المعادلة على نحو أدى إلى إكساب نتاجه خصوصية بين مجايليه ومن تلاهم.

وللقاص ثلاث مجموعات قصصية تلخص تجربته قبل التوقف عن الكتابة القصصية، هي:(السباحة في عيني خليج يتوحش)(1). و(البيدار)(2). و(على حافة النهار)(3) المجموعة الصادرة بعد عشر سنوات من صدور مجموعته الأولى (1992).

وبتوقف القاص عن النشر فقدت القصة الإماراتية صوتاً قصصياً ذكياً، مثلما خسرت عطاء كان يمكن أن يمد مسيرتها بنتاج مميز.

صوت المهمشين:

لقد بدا واضحاً منذ البدء أن عبد الحميد أحمد كان يصدر عن رؤية تنتمي إلى منظومة وعي منحاز إلى فئة المعدمين المسحوقين، أناس القاع الذين يتخذون من الخيام وأبنية الطين مأوى لهم، وجلهم من النكرات والهامشيين، الذين كثيراً ما ينتهون نهايات فادحة كالمسخ والجنون والموت.

لقد قادت معالجات القاص لحيوات هذه الفئات الشعبية إلى النظر إليها ضمن أفق رؤية اجتماعية بانورامية، كان لا بد لها من أن تنتهي إلى بنى التجاور الكاشف عن مظاهر التضاد. من هنا فقد كانت مظاهر الفقر والانسحاق تستدعي على الدوام حضور وجهها الآخر النقيض في ضرب من ضروب الثنائية: الخيمة/الفيلا، الزبالة/النظافة، الخشونة/الترف، الجهل/الثقافة، الموت/العافية، الجنون/العقل، العاهة/الصحة، القهر/الرضا. كما غلب على ملامح الشخصية الرئيسة مظاهر الانكفاء، إذ تبدو حزينة، معذبة النفس، دبقة الوجه، متعرقة الملامح، عطنة الروائح رطبة ومخربة، حتى لتبدو تلك الشخصيات وكأنها ضحية شرطها التاريخي الذي لا فكاك لها منه أمام جبروت العصرنة الجديد واندفاعه الأرعن، في حملها ذاتاً مخربة وتيهاً محتوماً ومسخاً دائماً، من جراء عجزها عن التواؤم مع الواقع الجديد. وقد استعان القاص بأكثر من أسلوب قصصي، وإن كان الأسلوبان(الفانتازي) الغرائبي، والواقعي بتنويعاته المختلفة، ظلا الأبرزين في معالجات القاص القصصية. ففي حين كانت الرؤية الواقعية للمعالجة هي الغالبة على قصص مجموعتي القاص الأولى(السباحة في عيني خليج يتوحش) والثانية(البيدار)، كانت الرؤية الفانتازية هي المهيمنة على أجواء مجموعته(على حافة النهار). وهي رؤية وجدت بذورها في بعض قصص مجموعته الأولى التي حببت للقاص المضي في دروب الفانتازيا والتغريب، وإن ظل الواقع وأناسه هدفه الأساس في كل ما كتب وأنتج.

ولعل هذا مما يحسب للقاص. فعلى الرغم من محاولات التجريب والمغامرات الشكلانية التي مارسها، فإن الانشداد إلى الناس والأرض وفضاءات النشأة الأولى ظلت الهاجس الأساس والعنصر الأكثر وضوحاً لديه حتى في تلك التجارب المشار إليها، بغض النظر عن طبيعة هذا الاختيار، ومدى ما حققه في كل من مفرداته من نجاحات. فهو يظل دليلاً على أن الكتابة عن الطبقات المطحونة وأناس القاع لا يشترط فيها أن تتخذ من الواقعية بأنواعها منهجاً أوحد في المعالجة والتعبير كما يظن بعضهم، وأن الشكلانية والتجريب ليست ترفاً أو لزوم ما لا يلزم من إنتاج الطبقات البرجوازية ومخلفاتها العبثية.

ومن اللافت للنظر أن تخرج قصة واحدة من بين قصص المجموعتين اللتين تنتظمهما رؤية واحدة، لتحلق خارج السرب، متخذة من المنهج السيكولوجي(الفرويدي)، وعقدة أوديب تحديداً محوراً لها. وأقصد بها قصة “أغنية بيضاء في ليل دامس” التي بدت تطبيقاً لمعطيات التحليل النفسي، ممثلة في تلك الرؤية الكابوسية التي يتعلق فيها الابن بأمه وشعوره باضطهاد أبيه له، وبكراهيته له وإنكاره بنوته، ورغبته من ثم في الانتقام منه بقتله، وتصريحه لأمه بذلك، وخوفها على ابنها من دون أن تبدي تعاطفاً تجاه الزوج، وانتهاء القصة بذهاب الشاب إلى السجن بتهمة محاولة القتل، في وقت كان فيه الشرطي يرفسه على مؤخرته، ليستلقي على الأرض وهو يسمع تردد عزف الأغنية البيضاء التي طالما ترددت في وعيه، تأتيه من بعيد، مذكرة إيانا بالفكرة البيضاء التي حملها في ذهنه وتلخصت في رغبته السادية في قتل أبيه وإخراج أحشائه بالسكين، على الرغم من أن الآخرين كانوا يرونها فكرة سوداء. في حين وجدنا ما يقرب من ثلاث قصص كادت تدور عقدتها الأساسية خارج الرؤية المحورية التي شغلت ذهن القاص في مجموعته (البيدار)، هي كل من (الفأس) و(هدهدة) و (المرأة الأخرى). 

الفضاء السردي:

لقد عني القاص ولا سيما في مجموعتيه الأوليين بالوقوف على مظاهر الحياة الاجتماعية الإماراتية، للنبش في خصوصيتها، سلوكاً وتقاليد ومعتقدات وقيماً وأنماط معيشة ومكاناً، حتى ليمكن القول إن نصوصه كانت من بين نصوص قليلة نجحت في النفاذ إلى عمق الذات الإماراتية بمفهومها التقليدي(الفولكلوري)، لتظل شاخصة في مخيلة قارئها.

والحق أن الخصيصة الفولكلورية لم تكن في نتاج عبد الحميد أحمد مجرد ملمح خارجي، إذ يبدو أنه أراد لطريقة سرده القصصي أن تعيد تفسير نشوء المعتقدات والخرافات والأساطير وطريقة تشكلها اجتماعياً، وشيوعها منذ انطلاق بذرتها وحتى تحولها إلى معتقد شعبي راسخ في أذهان الناس، من خلال ما قدمه من قصص اتخذت من الراوي الذي يماثل دور الراوي الشفوي، وأسلوب روايته التي تنطلق وتتنامي، وسيلة للتعبير عن طرائق تشكّل قناعات الناس ومعتقداتهم وسلوكاتهم. كما في قصة”عطش النخيل” من مجموعته الأولى، وقصة (البيدار) في مجموعته الثانية التي تحمل الاسم نفسه، وقصص “نسمة هواء طائشة” و”على حافة النهار” و””الطائر الغمري” من مجموعته “على حافة النهار”.

كما كان للبحر حضور واضح في المنجز القصصي للقاص، فقد كان دائم التردد والحضور، بأساليب متنوعة، وأدوار متعددة، ودلالات مختلفة. فتارة يأخذ بعده الواقعي كخلفية وفضاء طبيعي كما في قصة “السمكة”، وتارة يبدو أفقاً للأمل كما في “السباحة في عيني خليج يتوحش”، في حين يبدو رمزاً شاخصاً للبقاء ولمقاومة التغيير كما في قصة “قالت النخلة للبحر”، وطوراً يأخذ شكل عالم لتحديد المصائر وتغييب الشخصيات كما في “غواية”، وربما بدا ملاذاً من جور الواقع وخلاصاً للنفوس المعذبة، وذرفاً للدموع على ما آل إليه من مصير كما في قصة (حالة غروب) من مجموعة (البيدار).

ومثلما تتعدد صور البحر وتتباين دلالاته، تتنوع طرائق توظيف القاص له في قصصه، تبعاً لأسلوب المعالجة القصصية والرؤية الفكرية. فقد يقدمه القاص بطريقة يبدو فيها مجرد معطى واقعي، وقد يقدمه بوصفه خلفية للنسيج الفني للقصة ومحركاً لأحداثها أو معبراً عن دواخل شخصياتها وواقع مشاعرهم. وقد يبدو معطى بصرياً ولوناً من ألوان اللوحة التي تلعب عليها ضربات فرشاة القاص، في مشاهد متغيرة تبعاً لتغير مجريات الأحداث وتبدلاتها في القصة.

كما يلاحظ على أسلوب القاص إيغاله في تقديم شخصياته المهمشة الشقية في مظاهرها الرثة القاتمة، من خلال منظور واقعي اقترب في بعض قصصه من نزعة المذهب الطبيعي في الواقعية الغربية، كما لدى أميل زولا مثلاً. من ذلك بروز شخصياته مقرونة بمظاهر الهزال والضعف والتعب وصور مياه بالوعات الصرف الصحي والقمامة والبراز والدبق واللعاب والقيء والروائح العطنة والعرق وأماكن قضاء الحاجة والقاذورات والصراصير وروائح الزيت المحروق والاستمناء، حتى أن القاص لم يتوان عن جعل المشهد الختامي لقصة”آل مغضوب برسم البيع”ينتهي عند توقف الشخصية المندحرة عند بقعة بصاق بدت لامعة بفعل ضياء القمر المنعكس على إسفلت الشارع. وهذا الأسلوب جزء من تقنيات القاص الهادفة إلى إبراز رؤيته لأناس تلك الشريحة الاجتماعية وتعميق الإحساس بواقعهم وإحباطاتهم وأحاسيسهم العبثية. ومنها طرق تشويه الملامح ومسخ الشخصيات في القصص ذات المنحى الفانتازي بخاصة، بل حتى في القصص الواقعية التي جعلت ملامح الحمار تبدو أبهى وأكثر قبولاً وجمالاً من ملامح “مريش” الشخصية الرئيسة في قصة “خلالة” من مجموعة (البيدار).

الأدب الملتزم:

وإذا كان عبد الحميد أحمد قد اتخذ من حيوات المهمشين وأناس القاع مادته الأساسية في قصصه التي نهجت نهجاً واقعياً، فإنه حاول إكساب أغلب نماذجه بعداً واقعياً، إذ رأينا الشخصيات وهي تدلف إلى أحياء دبي التي اتخذها القاص فضاء لتحركها وبيئة لمعيشتها وتاريخها، قاصدة الجميرا أو سواها من الأمكنة التي تصور على نحو يعيد إلى الأذهان صور الفريج وعلاقاته الإنسانية ومظاهره الاجتماعية، في مرحلة خاصة من مراحل اشتباك لحظة التحول بما قبلها، وما تكشف عنه هذه المرحلة من لحظة الصدام القاسي بين البساطة والعمران، الصدق والزيف، الراحة والعذاب، الكدح والبطالة، الاطمئنان والخوف..إلخ. وهي لحظة لم يأت اختيار القاص لها جزافا، بقدر ما كان اختياراً أريد له الكشف عن مصائر الشخصيات والنهايات المأساوية التي ألمت بها، والقناعات التي كونتها؛ والأهم من ذلك كله إيصال الدلالة التي أراد لنصوصه أن تحملها.

لقد عبرت معظم المظاهر التي عكستها النصوص القصصية للقاص عن مرحلة التحولات التي حملت للناس الكوارث والموت والحاجة والصراع والسوء والدمار الذي جاء على حساب الإنسان والبيئة والحياة؛ على المستويات المادية والاجتماعية والقيمية، كما أرادت القصة التعبير عنه، فإن القاص حاول جاهداً ألا تبدو معالجاته وتعرياته، وما تمخض عنها من نتائج اجتماعية تعبيراً مباشراً عن حمولة فكرية جاهزة، وذلك من خلال ما كان يتيحه للشخصيات في التعبير بطريق الحوار عن مواقف مختلفة وآراء متباينة، ولا سيما في مجموعته القصصية “على حافة النهار” التي بدا فيها أكثر تدبيراً وإخفاء لصوته، مثلما بدت قصصه أكثر تخففاً من حمولتها الفكرية. لكن ذلك كله لا يمنعنا من ملاحظة بعض مظاهر القصدية وعلو نبرة الخطاب الفكري في بنية النسيج الفني.

لقد كشفت رؤية القاص عن انحيازها للفضاء المادي البسيط، ذلك الفضاء الذي أنتج قيماً تكافلية إنسانية بسيطة، أقرب إلى قيم القرية، منها إلى قيم المدينة العصرية ومظاهرها الباذخة وعلاقاتها المعقدة التي سرعان ما تحول المجتمع إليها. يؤكد ذلك أن القصة الوحيدة التي شهدت مديحاً صريحاً للمدينة من قبل القروي المنبهر بمظاهرها انتهت نهاية جعلت الشخصية تعبر عن ندمها على موقفها، لتربط بين ما وقع لها من تلقي صفعتين وبين مظاهرها العصرية بطريقة المقارنة التي لا تخلو من كشف وتصريح غير مسوغ: “لكنه أحس، وهو يتحسس وجهه المصفوع، إن المدينة صفعته صفعة قوية على غير ما توقع، وبأنها ليست إلا كالمرأة التي خاطبها، جميلة جداً، لكنها غبية جداً، لا تملك في داخلها غير الصراخ الأهوج”.

لكن من اللازم القول إن محاولات القاص التجريبية لم تستطع الحيلولة دون علو صوت الأيديولوجيا على صوت الفن أحياناً، ولا سيما في مجموعته”السباحة في عيني خليج يتوحش”. فثمة على الدوام مظاهر الفقر والجوع والحرمان والضياع والقهر وفقدان الصحة والموت المجاني، مقرونة بمظاهر الترف والغنى السريع. وثمة على الدوام شكوى من فقدان الشجر والنخل والثمر في مقابل علو العمران وسده الآفاق والبقاع، حتى أن ترداد كلمة النخيل في قصة”السباحة في عيني خليج يتوحش” من مجموعته القاص الأولى بدا أشبه ما يكون بكلمة السر التي تلهج بها الشخصية الرئيسة في القصة.

لقد جعل القاص إحدى شخصياته في قصة “رائحة العطش” تتمنى لو أن أحداً يبني داخلها ويعمر ما تخرب فيها، بدلاً مما يجري حولها من عمران، ما جعلها من ثم تغضب من الناس الذين يضحكون حولها، لتسألهم عما يضحكهم. في حين يجعل الشخصية في قصة “آل مغضوب برسم البيع” تعبر عن حالة الخوف من الغد التي تنتابها، في ضياع كيانها وأرضها ونفسها. إلى جانب تردد الموقف النمطي من الأجنبي السارق المستغل، والموقف من ممارسات النوخذة، بوصفه الرمز الطبقي للتسلط والقهر، فضلاً عما تفصح عنه عناوين قصصية من مثل: عطش النخيل، السباحة في عيني خليج يتوحش، الأرصفة العربية..إلخ.

لقد تردد حضور الآخر كثيراً في قصص عبد الحميد أحمد، سواء منه الآخر الأجنبي(الغربي)، كما في قصص “عطش النخيل” و”السباحة في عيني خليج يتوحش” و”رجل من بنغش” من مجموعته (السباحة في خليج يتوحش)، أو الآخر الآسيوي، كما في قصص “قالت النخلة للبحر” و”آل مغضوب برسم البيع” و”رجل من بنغش” من المجموعة نفسها، أو الآخر العربي(الفلسطيني والعماني) كما في قصتي “الأرصفة العربية” و”البيدار” من مجموعته (البيدار). وبهذا يكون عبد الحميد أحمد من أكثر كتاب القصة الإماراتيين. ولا ريب في أن اهتمام القاص بالآخر يأتي من واقع منهجه الواقعي وما يفرضه الحضور الواقعي لهذه الفئات في البلاد، ما يستلزم عدم تغييبها، ولا سيما الفئة الآسيوية التي مضى على مزاولتها العمل عقوداً عدة في البلاد.

وإذا كنا نستطيع القول إن معالجات القاص لموضوعة الآخر الآسيوي، والهنود والباتان منهم على نحو خاص، لم يكن ليخرج عن رؤية القاص للفئات الاجتماعية المطحونة، وأن تناوله من ثم لم يش بمظاهر ضيق منهم، فإن الموقف من الآخر الأوربي قد بدا في قصة “عطش النخيل” معبأ ولا يخلو من مشاعر سلبية، عبرت عنه أكثر من شخصية داخل القصة، فباستثناء صوت واحد محايد كانت الأصوات تعبر عن روح العنف والانتقام والكراهية التي بلغت غايتها في حدث العنف الذي كاد يؤدي إلى جريمة على يدي الشخصية الرئيسة التي مثلت دور الراوي، وإن حاول القاص الاحتشاد له، والسعي لتهيئة المسوغات الفكرية لموقف العنف الذي بدر منها. بل لقد تعدى القاص موقف الحياد حين طال بغضبه من كان وراء رعاية هذا الآخر واحتضان وجوده وتوفير الحماية له، بأسلوب تعبيري موح، تكرر في أكثر من قصة. كما نجد التلميح بعدم الحياد السردي من الآخر الأشقر الذي تدلل عليه اللغة التعبيرية في وصف الأجساد الحمراء التي تستجدي الشمس، في قصة “حالة غروب” من مجوعته القصصية “البيدار”.

من التجريب الشكلاني إلى تجريب الرؤية:

كان القاص عبد الحميد أحمد من القصاصين الإماراتيين القلائل الذين اختاروا الميل إلى ممارسة التجريب القصصي في كتاباتهم إلى جانب أسلوب المعالجة الواقعية الغالب على نتاجه.

ويمكن القول إن التجريب القصصي لدى عبد الحميد أحمد جاء في مرحلة شهدت ظهور اتجاهات تجريبية في القصة القصيرة العربية في أعقاب هزيمة الخامس من حزيران عام 1967، مثلها عدد من كتاب القصة في العراق ومصر خاصة. وهي اتجاهات تلتقي في أساليبها وأجوائها وروحها بما قدمه القاص من نماذج قصصية، إذ يعيد بعضها إلى الذهن، في بعض جوانبها، تجارب محمود جنداري وجليل القيسي الأولى، ولا سيما في مجموعة القيسي الأولى “صهيل المارة حول العالم”.

والحق أن الذي يطبع التجريب القصصي لدى القاص أنه كان تجريباً غلب عليه الجانب الشكلاني، ولا سيما في مجموعته الأولى”السباحة في عيني خليج يتوحش”، إذ تركز في المعطيات البصرية والاشتغال على فضاء الورقة، كتقسيم النص إلى مقاطع تأخذ شكل أرقام تارة، كما في قصة”آل مغضوب برسم البيع”، وقصتي”حالة غروب” و”البيدار” من مجوعة البيدار، أو شكل عناوين جانبية كما في “قالت النخلة للبحر” تارة أخرى. وربما اكتفى القاص بعلامات للفصل بين المقاطع حسب، كما في قصة “الجدار” وقصة “رجل من بنغش”. وقد يذهب إلى أبعد من ذلك قليلاً في محاولة لخلق نوع من الوشائج الشكلية بين النص القصصي وتقاليد الكتاب أو الدراسة البحثية، حين يجعل القصة تبدأ بعنوان يحمل اسم(مقدمة) ويختمها بعنوان آخر هو(خاتمة)، كما في قصة “قالت النخلة للبحر”المشار إليها. بل وجدنا القاص يلجأ إلى أساليب أخرى عرفتها المحاولات التجريبية العربية، كقطع نسق السرد الخطي للدخول على القارئ ومخاطبته على طريقة المسرح الملحمي لدى بريخت، أو الزج باسم القاص في القصة، كما حدث في قصة “قالت النخلة للبحر”التي يتحدث فيها الراوي في نهاية القصة ليقول إنه كان من اللازم أن يكتب هذه الخاتمة بعد قرن أو ثلاثة قرون من حدوثها، وهي آلية ربما كان القصد منها جعلها تنداح ضمن بنية المسكوت عنه.

لكن القاص ينتقل في مجموعته القصصية الثالثة “على حافة النهار” خطوة نحو تجاوز أنماط التجريب الشكلاني المذكورة، ليمارس بناء عوالم من (الفانتازيا) و(التغريب) تطال شخصياته، للتعبير عن أزماتهم الوجودية، كما حدث للرجل الذي يجلس في غرفة مظلمة في قصة “الصدى”، لتتضخم معطيات وعناصر محددة في الغرفة، كالصمت والظلمة واللوحة والكرسي والفراغ، مع استخدام تكنيك أقرب، في تركيزه على بقع الضوء والعتمة ومنحنياتها، إلى فرشة الرسام منها إلى اللغة السردية.

لكن هذا التجريب الذي بدأ بهواجس عبثية في قصة “الصدى” والمذكر بقولة سارتر أن الآخرين هم الجحيم، وشعور الرجل بالحرية لمجرد إحساسه بخروج الآخرين، سرعان ما ينقلب لمصلحة رؤية الكاتب الملتزم التي تسمر رجلي رجل اللوحة ويديه، مغيبة صوته، ليتوحد مع الآخرين في الخارج، في ضرب من ضروب التعبير عن حالة العجز عن الاستغناء عن الآخرين، وانقلاب الهدوء المنشود بعيداً عنهم إلى نوع من أنواع الشلل الإنساني. في حين تفضي فانتازية عالم “نسمة هواء طائشة” بالرجل المعوز إلى الموت تقطيعاً بالسكين ومن ثم التحول إلى صرصار، يدهمه الاختناق والموت ثم السقوط في بالوعة مياه المجاري ومنها إلى البحر، حيث تنتظره سمكة لتلتهمه لقمة سائغة، في وقت كان الرجل فيه يمني نفسه بقطعة لحم يسد بها جوعه. 

أما قصته “غواية” من مجموعته القصصية “على حافة النهار” فتحكي بأسلوب فانتازي رغبة الرجل العارمة نحو السير صوب البحر للاتحاد به وبزرقته اللامتناهية، والاستمرار في العناد والزحف على بطنه، برغم تساقط أعضاء جسده الواحد تلو الآخر، كاليدين والرجلين. وبرغم خذلان الرأس وتدحرجه عن الجذع، لكن محاولات الرجل المستميتة في رمي جسده في البحر بزحفة واحدة أخيرة ظلت تراوده مدفوعاً بنداءات داخلية قصية وروائح طحالب وأعشاب لولا خذلان جسده له وهموده، مع بقاء عينيه في رأسه شاخصتين نحو البحر.

لقد أرادت القصة أن تمنح البحر دلالة رمزية كبرى، بوصفه عالم الحياة الأكثر ديمومة ورسوخاً. وهو المعنى الذي يتردد بطرق غير مباشرة في قصة “قالت النخلة للبحر” وسواها، وإن كانت الدلالات التي تشعها القصص التجريبية لدى القاص ظلت دلالات موغلة في التجريد أكثر من إنجازها بنية قصصية ذات بؤر رمزية واضحة الدلالة. 

وللقاص قصص أخرى سعت إلى خلق عوالم غرائبية حملت ملامح وتحولات تجاوزت الواقع، لكنها لم تدخل عوالم التجريب، كما خلط بعض من درس نتاج القاص، لا لشيء إلا لأنها قدمت من منظور الكوابيس والتهيؤات والأحلام أو من خلال منطق الخرافة ومعطياتها التي تفرض علينا التسليم بعالم تخييلي منذ البدء، كما في قصة “خروفة” من مجموعته “على حافة النهار” مثلاً.

مستوى البناء الفني:

ثمة ملامح ميزت البناء الفني لتجربة عبد الحميد أحمد القصصية، وهي ملامح ليست منفصلة عن طبيعة رؤية القاص ومنطلقاته الفكرية. فمما يلحظ على بنية النسيج الفني غلبة استخدام أسلوب الارتجاع(الفلاش باك)لدى شخصيات القاص. وهو أمر يتلاءم مع تركيز القاص على مرحلة الصدام بين لحظتي التحول وإحساس تلك الشخصيات بانسحاب الماضي الأجمل، ورغبتها في عودته.

وقد استدعى موقف القاص التركيز على(المونولوج)من واقع قلق الشخصيات المطحونة المهمشة، ورغبة القاص في نبش دواخلها والتعبير عن تداعياتها ونزوعها للعيش في الماضي وبعث ذكرياته، حتى ليندر خلو قصة من قصصه من استخدام أساليب الارتجاع أو المونولوج.

وقد يتجاوز القاص أسلوب استخدام المونولوج إلى أسلوب(تيار الوعي)الذي يأخذ فيه تداعي المشاعر شكلاً يفقد فيه ترابطه العضوي، محققاً نقلات متباعدة، كما في قصتي “على حافة النهار” و”الطائر الغمري” التي حقق فيها القاص مستوى طيباً في استخدام هذه التقنية. وكلتا القصتين من مجموعته “على حافة النهار”.

لقد استخدم القاص عدداً من طرق العرض السردي، كطريقة السرد الخطي، والسرد المتناوب، والسرد من ختام القصة إلى بدايتها، إلى جانب استخدام أسلوب البنية المغلقة(الدائرية)، أي عودة السرد في نهاية القصة إلى ما بدأت به، ولا سيما في القصص التي وظفت أساليب الموروث الشعبي؛ من روايات شفوية وخراريف، في محاولة للتعبير عن بساطة العالم القديم المفعم بالسحر والخرافة وضيقه وانسداد أفقه، كما نرى ذلك في” قالت النخلة للبحر” و”منشور ضوئي” و”على حافة النهر” على سبيل المثال. كما تأتي الأصوات المتعددة في قصة “خلالة” من مجموعة (البيدار) لتكشف لنا عبر منظورات مختلفة سروداً وروايات مختلفة عن الأحداث والشخصيات.

وثمة محاولات من القاص لتوظيف الظلمة بوصفها خلفية لمجريات أحداثها ومشاعر الشخصيات الرئيسة فيها، كما في قصة “أغنية بيضاء في ليل دامس”وقصة”رجل من بنغش” وقصة “الصدى” و” تلك الأمور الأخرى”. لكن قصة “الصدى” تظل القصة التي شهدت اهتماماً خاصاً من القاص بمعطيات الضوء والظلمة والفراغ، وتوظيف معطيات السرد البصري فيها لصالح القيم التعبيرية، لتبدو الكتل وكأنها كتل لوحة تشكيلية قدمتها فرشاة رسام.

ومع ذلك فقد رافق قصص القاص ولا سيما في مجموعته الأولى ظهور نزعة احتفائية باللغة الأدبية فبل أن يهتدي القاص إلى لغته التعبيرية. وهي لغة بالغت نوعاً ما في استخدام المحسنات البلاغية التي وصلت في مرحلته الأولى إلى حدود اللغة التزيينية المعوقة للنسيج الفني للقصة، كما في قصص”الجدار” و”تلك الأمور الأخرى” و”أغنية بيضاء في ليل دامس” من مجموعته الأولى. وهي مظاهر لم يلبث أن غادرها القاص في مجموعتيه اللاحقتين. فمن نماذج تلك اللغة، ما ورد في مجموعة “السباحة في عيني خليج يتوحش”:

“أفكاري كانت في لون القطن وقلبي كان نهراً ماؤه الحب، هل جف النهر الآن؟ وهل صار ثوباً على جسد كلب؟”. من قصة أغنية بيضاء. ومنها أيضاً، ما جاء في قصة”تلك الأمور الأخرى” من المجموعة نفسها:

” كيف يمكن أن تمتلئ بالغاز أو بالأحلام فتشتعل؟ حالة الانطفاء المزمن، أليس من نهاية لها؟ الوردة عند الشباك لا تزال تفتح مسامها لاستقبال حبات الندى. كما نجدها تتجلى في قصة “الجدار” أيضاً، على هذا النحو:

“اكتشف أن القارة التي بدت على جسدها الرياحين يمتلئ جوفها بالألم بالعذاب(…) بالقسوة. لقد ابتدأ مشوار الخيبة والعواطف المهشمة(…) لكنه حين نظر إلى عيني الطائر وجد فيهما فرحاً يتراقص وخلفه جمرة تتقد”.

ومن تلك اللغة التزيينية ما تكرر في قصة “السباحة في عيني خليج يتوحش” من وصف لعلاقة الشاب بالبنت التي نشأت معه في الفريج، ومنعت حين كبرت من ولوج البحر معه، لكنها على حد وصف القاص ظلت”تتعلم السباحة في عيني خليفة السوداوين” وهو وصف يستند إلى معطيات لغة استعارية لا قبل للقصة الحديثة به، كما هو معلوم. ومنها أيضاً تلك المقابلة المجازية بين الشخصية الرئيسة في قصة “الجدار” والطائر الذي ينفتح عليه المشهد الاستهلالي في القصة وهو معلق بين الأرض والسماء، والإبقاء عليه كمعادل رمزي على امتداد القصة، من دون توفير القاص مقومات الإقناع لهذا التوظيف الفني الذي كان من الممكن أن يرتقي به إلى مستوى التوظيف الرمزي لولا أنه أبقى على ازدواجية الطائر والشخصية الواقعية معا، مثلما كان يمكن للنخلة أن تقوم بهذا الدور في قصتي “السباحة في خليج يتوحش” و”قالت النخلة للبحر” التي بدت رمزاً وحيداً للحياة الماضية والهوية التي سرعان ما طالها المصير المحتوم كما تنبأت من قبل، لولا طغيان عنصر القصدية والتصريح على السرد الفني. كما نلمس الربط المباشر المتكلف بين عفراء والوطن أو محاولة منحها دلالة شمولية مطلقة، بطرقة غير فنية في قصة “حالة غروب” من مجموعة (البيدار).

ولعل التوظيف الفني الذي اقترب من العفوية مغلباً جانب الإيحاء على التصريح محاولة القاص توظيف مشهد النخلة المصاحب لحدث إنجاب سلمى طفلاً من سالم تحت ظل النخلة، بمجرد مناجاتهما لبعض، وارتعاشهما وسقوطهما ليخلفا سعيداً الذي سرعان ما يفقدانه. وهو توظيف يعيد إلى الأذهان قصة ولادة مريم للنبي عيسى(ع)، من دون إيغال في التوصيف أو المطابقة.

وعلى مستوى الإيقاع السردي بدا واضحاً أن عدداً من قصص القاص في مجموعته الأولى كان شهد ميلاً نحو السرد المتقطع اللاهث، حيث كان الراوي يقدم الأحداث والمشاعر بإيقاع سريع، كما في قصة”السباحة في عيني خليج يتوحش” وقصة “الجدار”. في حين بدت قصص من مثل “آل مغضوب برسم البيع”من مجموعته الأولى تعاني من محاولات الجنوح نحو السرد التفصيلي والشروح التي لا تضيف جديداً إلى بنية النسيج القصصي، بقدر ما تسهم في إضعاف نموه وبطء إيقاعه.

كما دفع التزام القاص بالرؤية الواقعية وحرصه على التعبير عن شقاء المهمشين ومعاناتهم إلى ظهور بعض صور المبالغة في نصوصه القصصية، من ذلك ميل القاص في قصة “نسمة هواء طائشة” إلى منح الشخصية الرئيسة فيها اسم(ناحل بن راجل العاري) وتكنيته (بأبي جائع المطحون)، اعتقاداً من القاص بأن ذلك يدخل في باب تعميق الإيحاء بنحول هذا الكادح وعريه وجوعه وطحنه! وليت الأمر وقف عند هذا الحد، إذ رأيناه يضيف إلى ذلك غرابة أسماء أفراد عائلته؛ فاسم زوجته (مسحوقة)، وابنته (مقهورة)، وابناه (جائع) و(مقهور). وهو أمر لا أحسب أن ثمة ما يسوغه فنياً، بل إن من الصعب على الذائقة استساغته، حتى في قصة ذات منحى غرائبي؛ لأنه يبدو أقرب إلى الشرح غير اللازم أو المسوغ.

ومثلما تخلص القاص من هذه المظاهر السردية سريعاً وجدناه يسعى إلى التخلص من وضوح صوت الأيديولوجيا ومظاهر القصدية والإقحام الذي لا يحتمله فن القصة القصيرة عادة. كما حدث في توكيد القاص لرؤية الراوي وإسقاطها على أكثر من شخصية: النخلة، البحر، الجدة، الأم، في قصة “قالت النخلة للبحر” حتى وإن كان هذا الإسقاط غير مبرر فنياً، ولا يتلاءم ومستوى وعي الشخصيات، كما في رواية الجدة للأولاد حكاية القوم أصحاب المجد الذين دب السوس في شجرتهم فنخرها لتهوي في أول ضربة من الخارج، أو إقحام القاص الطفل في القصة نفسها، للتذكير بحكاية المرأة الأندلسية التي قالت لولدها بعد ما حل بمجد الأندلس: إبك مثل النساء ملكاً لم تحافظ عليه. وهي توظيفات بدت ناتئة وقصدية، لم ترتق إلى مستوى التوظيف الناجح. ومنها أيضاً شعور الشخصية الرئيسة في قصة”عطش النخيل”وهو يهم بالاقتصاص من الأجنبي بمشاعر الكراهية وبعلو مقطع من بيت شعر بداخله، لتعميق الإحساس بالوطن والأرض المنتهكين، يقول:”مات النخل يا ولد.. والأرض عطشانة”. أو تصريح الشخصية بموقفها في القصة نفسها حين جاءت الشرطة لتخلص الأجنبي من بين يديه، بقوله: “قد جاءتك الرحمة .. كما يجيئون إليك بها دائماً”. وهي عبارة تصريحية أكثر منها إيحائية.

ومن تلك النهايات أيضاً جعل القاص الطفلين ينطقان بعبارات فوق مستوى وعيهما، في قصة”منشور ضوئي”، إذ يطلب الصغير من صديقه ألا ينسى سؤال أبيه عن معنى كلمة القهر التي لم يعرف لها دلالة حين سأله عنها.

وعلى صعيد المنظور السردي لوحظ على رؤية القاص الفنية في مجموعته الأولى،  توزعها بين ضميري الغائب والمتكلم، مع غلبة للرواية بضمير المتكلم، إذ لم يتح لزوايا التبئير الأخر أن تظهر إلا في قصة “قالت النخلة للبحر” التي اعتمدت على تعدد الروايات، متأثرة بأسلوب القص الشعبي والرواية الشفوية. لكن قصة واحدة من قصص مجموعته الأولى، هي قصة “آل مغضوب برسم البيع” جاءت بضمير المخاطب، لتخرج على نسق المنظور السردي، في حين مال التبئير في مجموعة القاص الثانية “البيادر” نحو اعتماد رؤية الراوي المحايد، إذ وجدنا تسع قصص من مجموع عشر تقدم من منظور الرواية الموضوعية والراوي المحايد، لتتناوب ضميرا الغائب والمخاطب في قصة “المزبلة” التي انفردت بذلك. أما في مجموعة القاص الثالثة “على حافة النهار” فقد وجدنا تعدداً في المنظور السردي، شمل الراوي الموضوعي (المحايد) والراوي المشارك، جنباً إلى جنب مع الراوي المتماهي بمرويه.

يمكن أيضاً ملاحظة ولع القاص في استخدام لغة الحياة اليومية المهيمنة في المجتمع المحلي في الحوار، وأقصد بها هنا اللغة العربية الركيكة، كما نسمعها على لسان الجالية الآسيوية العريضة في الإمارات، وهو ما يتماشى مع الأسلوب الواقعي الذي يلتزم به القاص.

بنية الختام:

يلحظ على بنية السرد القصصي لدى عبد الحميد أحمد أنها تفتقر في معظم أحوالها إلى عنصر الإدهاش أو شد المتلقي، وربما جاز لنا القول إنها تكاد تتفلّت من بين يدي القاص، لتأتي فاترة، غير متوقعة. فباستثناء نهاية قصة “قالت النخلة للبحر” التي تربط الخاتمة ببدئها معيدة إلينا الحكاية ومبتعثة الدلالة المقصودة، لا نجد نهاية لافتة في قصص المجموعة المذكورة. فثمة نهاية تقريرية باردة تنتهي إليها قصة “عطش النخيل” على لسان الشخصية الرئيسة، ومثلها النهاية التي يعود فيها رشدان إلى مصطبة السمك والروائح التي اعتاد عليها في قصة “السمكة”. في حين تنتهي قصة “السباحة في عيني خليج يتوحش” بالمرأة وقد فوجئت بزوجها يردد بذهول كلمات: النخيل.. النخيل .. النخيل، ذات الحمولة الأيديولوجية. ولا تختلف قصة “آل مغضوب برسم البيع” عن سواها، إذ تنتهي بمفارقة تعيد الشخصية الحالمة إلى واقعها وهي تنظر إلى بقعة لامعة لبصقة تلمع فوق الأسفلت تحت ضوء القمر. ومثلها قصة الجدار التي تنتهي باحتضان الشخصية الرئيسة لورقة كلينكس حبيبته التي كانت مسحت بها دمعها، بعد أن دهمته رغبة في التدمير. ولا ندري إن كانت نهاية قصة “منشور ضوئي” المتخمة بالقهر والبؤس قد قصد بومض نجومها وقت افتراق الصبيين إيحاء ببريق أمل وسط هذه الأجواء أم أنها جاءت على نحو غير متوقع ولا متسق مع منطقها. ولا نحسب أن النهاية التي أريد أن يكون الحدث فيها معادلاً رمزياً للعلاقة بين الرجل والمرأة في قصة “تلك الأمور الأخرى” قد خلت من عنصر القصدية والتكلف. كما لا يبدو على المشهد الذي تنتهي إليه قصة “تلك الأمور الأخرى” من ضم الرجل لحبيبته وشعوره بالدفء معها في ليلة باردة، أنه يمتلك عنصر جذب أو إثارة ما للقارئ. ومثل هذه النهاية نهاية قصة “رائحة العطش” التي يلتفت فيها الشاب في لحظة يأس وإحباط صوب أمه سائلاً إياها عن الوقت الذي يمكنها فيه أن تذهب معه لبيت عمته لخطبة شريفة. ولا أحسب أن نهاية قصة “رجل من بنغش” بأحسن حالاً من نهايات القصص الأخرى، إذ تقف بنا النهاية القصصية على الشاب؛ الشخصية الرئيسة المتأرقة وهو يتحسس بقعة خشنة في سرواله إثر هياجه الجنسي.

وما قيل عن نهايات هذه المجموعة يكاد لا يختلف عن نهايات مجموعة “البيدار”، فباستثناء قصص”أشياء كويا الصغيرة” وقصة “المزبلة” وقصة “الفأس” لا تكاد نهاية قصصية أخرى تنجح في لفت انتباه القارئ أو تنطوي على عنصر مفارقة أو إدهاش ما.

وأخيراً فإذا كان ثمة ما يمكن أن يقال في حق تجربة عبد الحميد أحمد القصصية فإن أهم ما يمكن أن ننوه به هو ذكاؤه الفني وتميزه بين مجايليه من كتاب القصة، بما طرحه من نماذج كانت متقدمة على كثير منهم، وبما عرف عنه من دأب واجتهاد وامتلاك لعدة القاص وثقافته. لقد حاول القاص في قصصه ذات الأسلوب الواقعي أن يجعل الشخصيات البسيطة المعدمة محوراً لها أعاد إلينا فيها ملامح القص التشيكوفي تارة والمحفوظي تارة أخرى، ولا سيما مرحلته الأولى التي يتلبث فيها في تقديم شخصياته وتحديد ملامحها وسماتها. وهو أمر لا يمنع من القول بأن التزام القاص بالرؤية الواقعية التقليدية وثيمة حدة الفوارق الطبقية، قد جار على مستواه الفني وحد من انطلاقه إلى مديات أرحب، كان مؤهلاً للوصول إليها.

ببليوغرافيا:

*إذا ما استثنينا عبد الله صقر في مجموعته المبكرة (الخشبة) التي صدر فيها عن اتجاه تجريبي، ظل غائباً عن القصة الإماراتية سنوات.

  • عبد الحميد أحمد: السباحة في عيني خليج يتوحش، قصص، دار الكلمة للنشر، بالاشتراك مع مؤسسة الخليج العربي للدراسات والنشر، بيروت-لبنان، 1982.
  • ……………..: البيدار، قصص، ط1، دار الكلمة للنشر، بيروت-لبنان، 1987.
  • ……………..: على حافة النهار، قصص، ط1، منشورات اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، 1992.

قراءة في عالم عبد الحميد أحمد القصصي