سعاد العريمي

انمار

عندما نظر أنمار إلى أعلى، كانت السماء تمطر مطراً أسود مشؤوماً ملغماً بالغبار والفضة.

نظر سيد المكان إلى الأفق وقال: هو ذا يوم سعدي.. فانتقل الخبر إلى أنمار فأقبل.. وتمنى على الملك بأن يستبصر عن أسباب نزول المطر الذي يشبه القطران. وبأن مضارب القبيلة ومراعيها مهددة، وبأن الحلال سينفق.. وبأن الأطفال الرضع سيصابون بالجفاف، وبأن البراري معرضة لانتشار الحمض الضار فيها.

رفع الملك رأسه وكان نافذ الصبر.. إلا أنه كان يستمع إلى أنمار وهو هادئ الملامح، أشار الملك بيده واجتمع جميع المخمنين والمنجمين.. وقال لهم: إن سوء الطالع سيلازمه طالما بقيت السماء تمطر هذا الوابل من القطران الأسود وعليهم أن يبحثوا عن حل ناجع لهذه المصيبة التي حلت بسكان البراري والقفار ثم قال الملك لأنمار: يا أنمار اهد قومك إلى طريق الحق.. وقل لهم إن مناصرة بني العمومة حق لنا عليهم.. فنحن من أنمار ولو غوت. عاد أنمار إلى قومه وقال لهم: أبشروا لقد قابلت الملك في يوم سعده.

تجمع أهل الرأي والمشورة واتفق الجميع بأن هذا الوابل الأسود سيستمر.. وبأن السماء ستتحول إلى كتل من الغبار المتراكم، وبأن الزيوت المتناثرة في الجو ستصبح كتلاً نارية ملتهبة.. وبأن الماء سيتلوث في عمق التراب، وبأن وجه الأرض سيتغير، وسوف تصبح المرابع قاحلة جدباء..

نهض الملك وقال: صدق المنجمون.. قال أنمار: كذبوا.. كذبوا يا مولانا.. قال الملك: نعم كذبوا ولو صدقوا.

شد أنمار الرحال إلى بني قومه وقال لهم: احكموا ستار خيامكم واعقلوا جمالكم ونوقكم، ولا تردوا الماء.. فالملك سوف يوزع عليكم كمامات لحمايتكم من رياح السموم وستصلكم المياه في أنابيب معقمة – مياه صافية كرحيق الزلال لم تذق أفواهكم مثلها من قبل – مياه قراح.

شمر أنمار عن ساعديه وأخذ يشد الأروقة وإحكامها وتركيب أجهزة التكييف وقال لهم: دخلت على الملك في يوم سعده.

قال الملك: الآن وقد عرفنا البلاء، أما آن لكم أن تبعدوا هذه الغمة عن أنفسنا! لقد طالت أيام نحسي وتعاستي، فأتوني بالذي يستطيع أن يجعل الأمور تعود إلى سابق عهدها. وسوف أجزيه ما تشتهي نفسه.

انتقل الخبر إلى أصقاع الدنيا، وتناقلته وكالات الأنباء، وظهر جهابذة العلم على شاشات التلفزيون.. وأخذ كل منهم يعرض خطته، وقال أنمار: ستطول أيام نحس الملك إن هو حزم أمره، وجعل هؤلاء القوم يقبلون في وجوه المشكلة، فالأمر في يد من دبر وقدر.

عاد أنمار بخيبة الأمل، وبمياه آسنة معلبة في أوان بلاستيكية. أخذ يوزعها على أفراد القبيلة فرداً فرداً دون أن ينسى أحداً قال لهم: بعد اليوم ليس هناك مياه معقمة ستصل في أنابيب فاخرة، ولن تكون هناك مكيفات هواء.. وأن يطلقوا عنان الجمال والنوق وجميع الماشية في البراري الواسعة.. وأن سحابة القطران ستظل تمطر ماءً أسود.

وأن جميع الكهنة والرمالين الذين ظهروا على شاشات التلفزيون لن يعثروا على طريقة تمكنهم من كشف سر هذه المحنة. وأن الحلف الذي أبرمه مع الملك ربما لن يدوم.. وأن يوم نحسه سيطول.. وقال لهم: أعدوا العدة.

أمر ساكن المدائن، الكاهن «ميران» أتباعه من النساجين بأن يغزلوا له شالاً أخضر اللون من شرائق العذارى، ويعلق على سفح الطوق المقدس الكائن في أرض المدائن.. وعلى الذي يجافيه يوم سعده أن يتبرك به ويحتسب له. وأمر جنده وبني قومه أن يشعلوا النار، ويجعلوها مضرمة ليلاً نهاراً ويقرعوا أواني النحاس، ويطلقوا اللحى ولا يعتمروا السواد.. وقال لهم: أبشروا لقد جاء يوم الفرج.

قال الملك بعد نفاد الصبر والتصرف بالحكمة والأناة: لقد توالت أيام نحسي وخبرتي بهؤلاء الأقوام غير مكتملة، ولن أعطي الفرصة لأحد كي يستظفر بي وبقومي.

جمع رجال البلاط وقال لهم: استدعوا وكالات الأنباء واسمحوا للأقمار الصناعية أن تلتقط الصور عندما ألقي البيان الذي أعددته بعناية بالغة. شمر ميمون عن ساعديه واستل الحراب وأمن المكان.. وأعدت الشبكات العالمية كاميراتها.. وارتدى الملك عباءته المطرزة بخيوط الذهب والمنسوجة من وبر الأرانب البرية، لبسها على غير العادة.. حيث إنها لا تلبس إلا في أيام السعد. وقال: بعد أن استوى على عرشه، وتأكد بنفسه من مصابيح الإضاءة والميكروفونات.. واستدعى مصفف الشعر عشرات المرات. وبعد أن اكتملت الصورة ظهر الملك ملوحاً بيده وقال: سأقبل عرض صاحب السمو الأمير «ميران»، وهذه عباءتي سأعلقها على ذلك الطوق المقدس طالباً البركة. سأيمم وجهي شطر نوايا الخير، ولن أجعل الأعداء يسخرون من تعنتي.. ولكن إلى أن يأتي يوم السعد يستمر ميمون في عمله بقطع الرؤوس التي تأتي لعرض الحلول غير الموفقة.

فمن لديه كلمة حق فليقلها أو فليصمت.

من المجموعة القصصية (حقل غمران)

انمار