عبد الحميد أحمد

توصيفات عامة حول القصة والرواية في دولة الإمارات

لم يؤرخ أحد إلى الآن للأدب في دولة الإمارات العربية المتحدة، وهذا الأمر طبيعي لعدم وجود تلك الكثافة الأدبية وذلك الزخم الثقافي الذي يسمح لأي مهتم أو ناقد أو دارس بتناول هذه القضية بالدراسة والبحث والتحليل والتأريخ والنقد، فعمل أدبي هنا وآخر هناك لا يخلق حركة أدبية، والمقصود بها تلك الحركة التي تحمل في نبضها الكثير من العطاء والإبداع، وبالتالي الكثير من التيارات والأفكار والمضامين والأشكال، كل تلك المسائل قادرة على إثارة الجدل والسؤال والنقاش والتي تشكل حركة فعّالة ضمن حياة ثقافية شاملة غنية ومتدفقة، وهذه لا تتأسس إلا عبر مسيرة المجتمع في نموه وتطوره وصراعه من أجل الأفضل والأسعد والأرحب، من أجل المستقبل.

وكل ما سبق ذكره، رغم ذلك، لا يلغي وجود الجنين في أحشاء المجتمع، لا يلغي وجود هذا التشكل، أو محاولة التشكل والتأسيس لحركة أدبية، ولذلك فقد ظهرت بعض الاجتهادات والمقالات التي حاولت في حدود ما توفر لكاتبيها من معلومات أن ترصد بعض الأعمال التي نشرت في الصحف والمجلات أو في كتب ومجموعات، وحاولت هذه الكتابات إعطاء دلالات وخلفيات للأعمال المنشورة بما يشبه النقد. وحاولت تصنيفها وإبداء الرأي الفني فيها، وكانت القصة، موضوعُ هذا الحديث، من ضمن الأعمال التي لامستها بعض الكتابات، لكن هذه الكتابات، وهي قليلة للأسف، لم تستطع أن تفلت من اسار الانطباعية الشخصية ومن تأثير اللحظة الوقتي والمؤقت، وبعيداً عن مجمل مؤشرات الحياة الثقافية والاجتماعية، والتي بالتأكيد لها الدور الأكبر والأهم والحاسم في صياغة الأدب، والقصة خصوصاً واتجاهاتها وأشكالها، ومن دونها تظل أية رؤية لمسألة الأدب عموماً رؤية قاصرة تجزيئية وتنقصها العلمية والموضوعية.

ولعل الملتقى القصصي الأول هذا الذي نشارك جميعاً في أعماله يكون بداية خير، وبداية حقيقية للاهتمام بهذا الفن من جانب، ولتناوله تناولاً علمياً يثرى بالحوارات والنقاش، ويشكل إضافة جادة وحقيقية للإلمام بالقصة في الإمارات، وهي ناشئة لا شك، من كل جوانبها، تأريخاً وفناً ولغة وتطوراً. وهذه الدراسة أو شبه الدراسة، الموضوعة هنا لا تدعي الإلمام الشامل بالمعرفة ولا تقدم نقداً أدبياً فنياً لهذه القصة، وإنما هي مجرد محاولة متواضعة لرصد فترة زمنية ظهرت فيها القصة واستمرت، محاولة لتأريخ ظهور هذا الفن في الإمارات ومن ثم تطوره مع محاولة ربطه بالأسباب والمؤثرات الداخلية والخارجية التي سمحت ببروز فن حديث كفن القصة، رغم أن هذه المحاولة، وهو اعتراف صريح، فاتها كثير من المعلومات وصادفها كثير من العقبات في الحصول على مثل هذه المعلومات، لكنها محاولة تكتسب مشروعيتها من باب الاقتناع التام بضرورة تسجيل بدايات بروز هذا الفن وربطه بمجمل المتغيرات الثقافية والاجتماعية، ليكون هذا التسجيل هو الأرضية الصلبة التي يمكن أن تقف عليها أية دراسة أدبية للقصة في الإمارات مستقبلاً، من جانب؛ ومن جانب آخر ليكون حافزاً لدراسات وبحوث أخرى حول هذا الموضوع.

منطقة الخليج العربي عرفت هذا الفن كما عرفت أشكال الفنون الأخرى كالشعر الحديث والمسرح والتشكيل متأخراً بالمقارنة مع الدول العربية الأخرى، كمصر وسوريا والعراق ولبنان وفلسطين وغيرها، وذلك للظروف السياسية التي مرت بها تلك الدول، وهي التي تحررت من الاستعمار المباشر وقامت فيها حركات نهوض وتنوير وتحرر دفعت المجتمع قدماً إلى الأمام؛ ومن ثم الثقافة، وأدت إلى الاتصال المبكر مع دول العالم وثقافاتها فأخذت منها وتأثرت بها في بعض أشكال الثقافة، ومع وجود واقع اجتماعي وسياسي واقتصادي يختلف نوعاً ما عن واقع ما قبل التحرر والاستقلال وجدت أشكال الثقافة الحديثة مجالها وفرصتها للتعبير عن واقعها الجديد المتحرك والمتفاعل داخلياً وخارجياً على السواء، مما أدى إلى ارتفاع وانتشار التعليم والانفتاح الحضاري والثقافي وإلى إيجاد وتطور المؤسسات وأنماط من الإنتاج المتقدم عن مراحل سابقة، وبالتالي إيجاد نوع من الفرز الاجتماعي تبلور في كثير من الدول، فظهرت اتجاهات فكرية متضادة ومتناقضة ومتصارعة، وكان لكل اتجاه أساليبه ومضامينه فيما يخص الفن والرؤية بشكل عام، وتم التعبير عن هذه الأفكار بأشكال متعددة، وتطور الفن ومنه القصة، في خضم الأفكار الجديدة الحيوية، والمتطورة الساعية إلى تحقيق حلم الإنسان في الحرية والعدالة والمضادة للأفكار القديمة الثابتة والسائدة.

أما دول الخليج العربي، فهذه الظروف لم تخضها إلا بعد أن قطعت كثير من الدول العربية شوطاً في مجال البناء الاجتماعي والثقافي، فكان أن عزلت هذه الدول طويلاً، وظلت جامدة، ولم تبدأ حركة المجتمع فيها إلا بعد بدء حركات التحرر ونجاحها خاصة ثورة يوليو/تموز 1952 في مصر، والتي خرجت إلى العالم العربي بنظريات جديدة وبمقولات استطاعت أن تجمع حولها الشعوب العربية كمقولة القومية العربية، مع الأخذ في الاعتبار عاملاً مهماً آخر بالنسبة لدول الخليج هو عامل النفط، الذي غيّر بل هزّ المجتمع القديم.

الكويت والبحرين، كان لهما السبق في الدخول إلى ميدان الحراك الاجتماعي، وكان وراء ذلك، إلى جانب موقعهما الجغرافي القريب من بلدان تحركات سياسية واجتماعية كالعراق وإيران، ظهور البترول مبكراً فيهما، فمع تدفق الثروة ونيل الاستقلال والاتصال المبكر أو التأثر بالمتغيرات المستجدة في العالم العربي، لا سيما في العراق القريب منهما، تطورت الحياة الاجتماعية والوعي الاجتماعي بالتالي في هذين المجتمعين العربيين، وانتشر التعليم، وظهرت حركات وطنية واجتماعية وإصلاحية دفعت بالحياة السياسية والثقافية دفعاً إلى الأمام، وهكذا فإنه ليس غريباً أن تظهر القصة في كل من الكويت والبحرين مبكراً إذا ما قورنت، بدول خليجية أخرى كالإمارات وقطر وعمان، وليس غريباً كذلك أن تتطور أشكال الفنون الأخرى فيهما كالشعر والمسرح والتشكيل والموسيقى مع اعتبار نسبية هذا التطور بين فن وآخر وبين البحرين والكويت، وهذا التطور في الفن نتيجة لتطور الظرف السياسي والثقافي، وكشواهد على هذا التطور الذي أصاب وحظيت به كل من الكويت والبحرين ظهور تجربة البرلمانات والحياة الديمقراطية والنقابية ومؤسسات الشعب، والصحف وغير ذلك، وللمزيد من هذه المعلومات حول ظهور وتطور القصة في الكويت والبحرين يمكن الرجوع إلى الدراسة الكبيرة والقيّمة التي وضعها الناقد البحريني إبراهيم عبدالله غلوم بعنوان «القصة في الخليج العربي – الجزء الأول – الكويت والبحرين» والصادرة عن مركز دراسات الخليج العربي بجامعة البصرة.

الإمارات ظلت حبيسة العزلة الحضارية زمناً طويلاً حتى منحها الاستقلال وقيام دولة الاتحاد، وقبل ذلك سارت عجلة التطور فيها ببطء شديد إن لم تكن العجلة صفراً وكانت أشكال الإنتاج الاقتصادي فيها بدائية: غوص على اللؤلؤ، صيد سمك، رعي، بعض الزراعة والتجارة المتخلفة، هناك ما يشبه الاقطاع (الغوص) وما يشبه المشاعة البدائية (حياة البادية والقبائل) وما يشبه الإنتاج الزراعي البسيط مع شيء من التجارة والسفر، كل ذلك في ظل أوضاع اجتماعية متخلفة ثقافياً وفكرياً، وهذا الوضع الخليط كان مرتبكاً ومربكاً، على المستويين والصعيدين الاجتماعي والثقافي، ولولا بعض التعليم الذي أصاب المنطقة بشكل معقول بعد المد القومي على أيدي البعثات التعليمية من مصر، والتي صرفت عليها الكويت خاصة في الستينات، لقامت الدولة من دون أن تجد من بين أبنائها متعلماً واحداً، لذلك لم تشهد الإمارات أياً من أشكال الفنون الحديثة إلا بعض الرقصات الشعبية والمواويل البحرية والشعر الشعبي، وهذه الأشكال كانت صادقة ومعبرة عن واقع الإنسان ومعاناته وحياته بسبب ارتباطها المباشر بحياة الإنسان الإنتاجية وهي نتاج لذلك أساساً، أما أشكال الفنون الأخرى كالمسرح، والحديثة كالقصة والرواية والتشكيل فلم تظهر منها إلا أعمال نادرة ومتقطعة بجهود الاتصالات الفردية مع الخارج وفي وقت لاحق تماماً، حيث بدأت الأمية تقل والعزلة تتكسر جدرانها القاسية مع الزمن المتطور الذي دفع بالراديو إلى المنطقة وسمح للطائرات وسفن نقل المسافرين بالهبوط والرسو، وللكتب أن تتداولها الأيدي. فمع اقتراب هذا الزمن من السبعينات، أصبح في الإمارات ما يشبه المخاض. وقبل ذلك بدأت الانسحابات البريطانية من المنطقة وتهيأت، أو أجبرت، كثير من الدول الاعتماد على نفسها، فكان أن استقلت الكويت مبكراً عن غيرها ولما اقترب العام (1970) كان لابد للإمارات من الاعتماد على نفسها أيضاً.. هكذا تشاء إرادة الإمبراطورية التي بدأت تغيب عنها الشمس، وعلى المستوى الشعبي تماماً، فإن أحداث الوطن العربي كان لها الأثر العميق في خلق وعي جديد لدى الناس، وعي بشعارات الاستقلال والعروبة والتطور، على الرغم من عدم انتشار التعليم بشكل كبير، فالستينات خاصة كانت عهداً قومياً بالنسبة لصيادي السمك وغيرها فكيف بالشباب الذين لم يفتهم أي من خطب جمال عبدالناصر مثلاً، أو الاطلاع على نضال شعوب عربية أخرى كالجزائر والعراق وغيرهما، وهكذا كانت الستينات وجزء من الخمسينات بداية التأسيس الثقافي والفكري للسبعينات التي شهدت قيام دولة أكدت على هذا التلاحم العربي من ناحية وأجبرت – طالما هي دولة – على نشر التعليم والصحة والثقافة وغير ذلك من أمور أنضجت الوعي بشكل كبير.

دفع هذا الوعي التحرري والقومي العربي بمجاميع من الشباب في الإمارات إلى الاهتمام بالثقافة، فتأسست الأندية الرياضية مثلاً ليس لتهتم بالرياضة وحدها، وإنما بالنواحي الثقافية أيضاً، فكل أندية أواخر الستينات في دبي خاصة كانت فيها لجان ثقافية نشطة وفاعلة، ولهذه اللجان نشاطات مثل صحف الحائط ومن ثم نشرات تطبع على «الاستانسل» ومكتبات ومحاولات مسرحية وغنائية وغير ذلك، ومن هنا، فإن محاولات كتابة القصة في الإمارات بدأت في أواخر الستينات وبداية السبعينات، بظهور بعض المطبوعات البسيطة كمجلات الأندية الرياضية التي كان يصدرها أعضاء اللجان الثقافية، وهم شباب حصّلوا قسطاً من التعليم وارتبطوا بحرارة بأحداث العالم العربي وتطوراته السياسية وتأثروا فكرياً ببعض حركات التحرر القومية، مثل ثورة مصر، والجزائر والعراق، وكذلك ثورة ظفار القريبة والمتاخمة لحدود الإمارات الجغرافية، وسمح بتطور هذا الارتباط والتلاصق والتلاحم ومن ثم بروز الوعي الجديد دخول المجلات الأدبية، والثقافية والسياسية إلى البلاد سواء عبر الاشتراكات أم التوزيع المحدود لبعضها، فكان أن ارتاد مجال الكتابة الحديثة عموماً ولو بشكل متواضع مجموعة الشباب في الأندية الذين بدأوا يكتبون نقداً اجتماعياً وأخلاقياً مباشراً وسافراً للمجتمع الراكد في صحف الحائط ومن ثم في نشراتهم البسيطة، ومنهم من جرب الإبداع في مجالات الشعر والقصة والكاريكاتير، كخليفة غالب ومن بعده كاظم محمد سعيد (كاريكاتير) وعبدالله صقر أحمد (قصة وشعر) وغيرهم، ولعل عبدالله صقر أحمد كان أول من خطا خطوة في مجال القصة دون غيره في الإمارات، فكتب عدداً من القصص القصيرة كقصة «قلوب لا ترحم» المنشورة في نشرة نادي النصر الرياضي في أواخر الستينات، ومن المفيد أن يذكر هنا أنه كانت لعبدالله صقر مساهمات جادة وواعية في الشعر الحر، وقد أصدر بعد ذلك بسنوات قليلة (ربما في العام 73/74) ديواناً يحمل عنوان «اغتراب في زمن مسلوب»، ولعل هذا أول ديوان يصدر في الإمارات فيما يختص بالشعر الحديث مضموناً وشكلاً، ولعل السبب ذاته كان وراء انتشار هذا الديوان والاحتفاء به رغم فشله في الحيازة على رضا القارئ العادي الذي لم يكن قد سمع بعد بالشعر الحديث أو الجديد، كذلك أصدر عبدالله صقر – قبل إصداره الشعري المذكور – أول مجموعة قصصية في الإمارات بعنوان «الخشبة» وعلى حسابه الخاص، لكن هذه المجموعة لم تصل إلى القارئ حتى الآن، فقد صودرت وأحرقت لأن موضوعاتها دارت حول الإنكليز بشكل عنيف فغابت عن ذاكرة الناس وكأنها لم تصدر إطلاقاً، حتى تاريخ صدورها الفعلي لا يعرفه إلا صاحبها فقط. ومع عبدالله صقر أحمد كان لفيف آخر من الشباب قد بدأوا محاولات في نشرات الأندية منهم مريم جمعة فرج التي بدأت الكتابة مبكراً عن غيرها.

استمر الشباب يحررون ويكتبون في نشرات، ثم تطورت إلى مجلات الأندية كــ «النصر، الزمالك، والشباب والأهلي»، وكانت تدور كثير من الحوارات الجادة والردود في صفحات هذه المجلات، ثم صدر بعضها مع صدور هذه المجلات الرياضية وبعضها بعدها، كما ظهرت مطبوعات رسمية أخرى كنشرة «أخبار دبي» التابعة لبلدية دبي، وجريدة «الاتحاد» في العام 68/69، لكن هذه المطبوعات الجديدة ظلت بعيدة عن كتابات الشباب فلم تحظ بمساهماتهم إلا بعد ذلك بسنوات، بعد توقف مجلات الأندية، وبعد قيام الدولة الاتحادية وظهور المؤسسات الإعلامية وغيرها.

ومحاولات عبدالله صقر هي المحاولات الوحيدة المبكرة إلا أنه توقف عن الكتابة جزئياً ثم نهائياً بسبب ظروف عمله والظروف الخاصة به، (آخر كتابة له ظهرت في «الأزمنة العربية» حيث نشر قصة «الإمية»)، وظهرت بعد عبدالله محاولات أخرى على أيدي مجموعة من الشباب كانوا جميعهم في فترة واحدة تقريباً (من العام 72 حتى العام 75)، وقد حظيت محاولاتهم بالنشر وبشيء من الاهتمام لدى المجلات والصحف؛ وكان هذا أمراً طبيعياً، فترة قيام الدولة وتوفر الإمكانيات ازداد التعليم انتشاراً ووصل إلى مرحلة التعليم الجامعي عن طريق البعثات الدراسية، وكذلك تطورت واتسعت أجهزة الإعلام كالصحف والتلفزيون والإذاعة والمكتبات وصدرت مطبوعات يومية وأسبوعية وشهرية، كـ«الاتحاد» اليومية و«أخبار دبي» الأسبوعية ومجلة «المجمع» الشهرية الثقافية التابعة للمجمع الثقافي الاجتماعي، وهو مؤسسة أهلية – لكن «المجمع» المجلة أغلقت مع إغلاق المجمع الثقافي كله.

ثم حلت ظروف جديدة، تمثلت في حدوث الطفرة الاقتصادية المادية غير المبرمجة والتي عملت على نقل المجتمع بشكل حاد وعنيف من حالة التخلف إلى حالة مغايرة حديثة وغير حديثة في الوقت نفسه: حديثة في الشكل وغير حديثة في الجوهر والمضمون، وسمح هذا الانتقال أو هذا التحول إلى حدوث تغييرات سريعة، فإذا بالعلاقات الاجتماعية القديمة تتصدع ومن ثم تنكمش وتضمحل وتتلاشى لتحل محلها علاقات جديدة سمتها الغالبة روح الاستهلاك الشره والمنافسة واللهاث والفردية، فالثروة الجديدة السائلة وفّرت للناس استعمال كل شيء دون بذل أي جهد إنتاجي حقيقي، وعملت هذه القفزة أو هذه الطفرة المادية على القضاء على أشكال الإنتاج القديمة البسيطة وأحلت محلها الوظائف الإدارية والمساعدات الاجتماعية وفرص التعليم والتجارة الحرة، أي علاقات اجتماعية جديدة أفرزت جواً فكرياً جديداً سماته روح التنافس التجاري وأخلاق الوظيفة الإدارية وسلوكيات المتعلم الجامعي والنزعة الفردية الطموح، وهكذا فإنه مع وجود الدولة برزت المؤسسات الخدماتية والإعلامية والاقتصادية، وتطورت أشكال المواصلات والاتصال، واتسع التعليم، وصارت البلاد قريبة جداً من العالم الخارجي، القريب والبعيد على حد سواء، مما سمح لجيل الاتحاد بالاطلاع على الكثير من تجارب وحضارات وفنون الشعوب الأخرى، ونتيجة لهذه الظروف الجديدة واتساع نشاط الإعلام (صحف، تلفزيون، إذاعة، اتصالات، مكتبات، نوادٍ) ظهرت محاولات أخرى في مجال كتابة القصة القصيرة والرواية هذه المرة أيضاً، وقد نشرت معظم هذه المحاولات في مجلة «أخبار دبي»  ومجلات الأندية التي تطورت في هذه الفترة فظهرت محاولات علي عبيد علي ومنها على سبيل المثال قصتا: «الجزاء» و«ضحية الطمع».. ولعلي كتابات عديدة في القصة، وكتابات مظفر الحاج مظفر، مثل قصص «الجحيم»، «هذا هو الحب»، «ليل بلا آخر» ومحمد علي المري ومن قصصه «يوم في حياة موظف صغير»، «عابر سبيل»، كتابات عبد العزيز خليل مثل «من أجل ولدي» وكتابات عبد الحميد أحمد مثل «الفرار»، «خلف الباب المغلق»، «ذات العيون القاتلة» وغيرها، وقد نشرت هذه النتاجات في الفترة من 72/75، أما عن الرواية فلعله قد صدرت خلال هذه الفترة رواية راشد عبدالله «شاهنده» وكتب محمد غباش روايته «دائماً يحدث في الليل» عام 74 ولم ينشرها إلا لاحقاً في مجلة «الأزمنة العربية».

وقد تأثرت معظم هذه القصص بنمط القصة التقليدية في البناء الفني وكانت تجنح جميعها إلى الرومانسية، إذ كانت تمتلئ بالبكاء والحزن ومشاعر الأسف والندم والخيبة، وكانت أغلب موضوعاتها تدور حول هموم اجتماعية كغلاء المهور وزواج الصغيرات، وإجبارهن أحياناً على ذلك من الكهول الأثرياء، وعدم احترام إرادة الفتى والفتاة في اختيار شريك وشريكة الحياة، وما إلى ذلك من مواضيع تكشف من جانب آخر عن المشكلات الجديدة والروح الجديدة التي بدأت تظهر سماتها في مجتمع علاقات المصالح والنظرة المادية التي بدأت تسود المجتمع، وكانت قصص هذه الفترة تقريرية تماماً ومباشرة وتعتمد في الصياغة على السرد اللغوي والمطول أحياناً، بل إن بعض هذه القصص كانت خطابية، وتتجه إلى القارئ بالخطاب المباشر وتنتهي أحياناً بالنصيحة المباشرة.

بعد هذه الفترة، أي بعد العام 1975 وحتى العام 1979 – لم يسجل المزيد من الكتابات القصصية، فقد توقف من وردت أسماؤهم آنفاً عن الكتابة لظروف الدراسة في الخارج، ولم تظهر أسماء جديدة، ولعل هذا يرجع إلى أن الفترة المذكورة شهدت سباقاً محموماً في مجتمع الدولة نحو البناء والإنشاء واللهاث وراء المال، مما غيّب كثيراً الاهتمام بالنواحي الثقافية، وقد شهدت هذه الفترة نشوء وتوسع البناء والتجارة بشكل أكبر وبالمقابل ضمور الثقافة الجادة، فإذا بالمجتمع «ينتفخ» بالمباني والعقارات والوكالات والأسواق والبضائع، فحتى الذين عادوا من الدراسة بالخارج بسنوات بعد ذلك، انتهوا من هم الكتابة ليدفنوا قدراتهم ومواهبهم وملكاتهم الأدبية في أدراج المكاتب الوظيفية، وكانت وتيرة الحياة اللاهثة سريعة إلى درجة لم تسمح بظهور المزيد من الكتابات في هذا المجال، ولولا عمل وحيد وأعمال أخرى قليلة جداً ومتفرقة ظهرت في هذه الفترة لأمكن إهمالها عند دراسة ظهور وتطور القصة في الإمارات، إذ ظهر في هذه الفترة من الأعمال القليلة مجموعة «الشقاء» القصصية وضعها القاص علي عبد العزيز الشرهان فور عودته من الخارج بعد أن أتم دراسته الجامعية. وكانت قصص الشرهان تدور حول فترة ما قبل الاتحاد موضوعاً، وتتناول هموم الإنسان في المنطقة أيام الغوص وصيد الأسماك. وكان الشرهان بهذا يؤكد انتماءه الفعلي كمضمون للجيل الأول رغم انتماء مجموعته زمنياً للحاضر، أي بوقت صدور مجموعته، مما يعزز القول بأن ظهوره في هذه الفترة كان استثناء غير عادي. ومن الأعمال الأخرى القليلة كانت بعض قصص بسيطة لإسماعيل شعبان علي وعبدالقادر أحمد نور وغيرهما نشرت في «أخبار دبي» و«الأهلي» الجديدة بعد إغلاق «المجمع»، وكذلك كان هناك عمل لمحمد ماجد السويدي الذي صدر قبل عام 79، وهو أقاصيص تقرب إلى الخواطر جمعها في كتابه «دانة يا بحر دانة».

تلك كانت مرحلة البدايات ومرحلة امتداد البدايات، لكن متى كانت البداية الحقيقية لنشوء فن القصة الحديثة في الإمارات، أو بالأصح لوثوب هذا الفن وتطوره وتكريمه كفن في حياتنا الأدبية والثقافية؟

العام 1979 كان عاماً حاسماً ليس بالنسبة لفن القصة القصيرة وحده، بل بالنسبة للشعر الحديث والمسرح والتشكيل وغيرها، وبشكل عام فإن هذا العام بداية مرحلة ثقافية واجتماعية جديدة لازال عطاؤها مستمراً إلى الآن؛ فما الذي جرى في هذا العام وقبيله؟

قبيل عام 79 وكردٍّ على سمة الاستهلاك وحياة الخمول والجمود الثقافي، ومع عودة كثير من الخريجين من دراستهم الجامعية إلى أرض الوطن، تشكلت حياة اجتماعية وثقافية لا تخلو من الوعي الاجتماعي المضاد للوعي وللثقافة السائدة، وتأسست كثير من الجمعيات الثقافية والمهنية كبدائل طبيعية للأندية الرياضية التي أهملت الجوانب الثقافية لحساب الرياضة، بعكس ما كانت عليه في السابق حيث شهدت حراكاً ثقافياً لا بأس به وشهدت ولادة قصاصين من بين جدرانها وهم رياضيون أيضاً كعبدالله صقر ومظفر الحاج وعبد العزيز خليل وغيرهم، ففي هذا العام وقبيله، شعر الشباب الخريجون بخاصة بضرورة أن يكون لهم دور ما في حركة المجتمع، وكدفاع عن وطنيتهم وثقافتهم وكردٍّ على أجواء المال والتجارة والركود الثقافي هيأوا لخلق أجواء جديدة تعتبر الإنسان محوراً وهدفاً في عقله وفكره لا في جيبه فحسب، فتأسس النادي الثقافي الاجتماعي في أبوظبي ثم في الشارقة، وكذلك جمعيات مهنية أخرى، وحمل النادي الثقافي  (وغيره من هذه المؤسسات الأهلية) على عاتقه تبني نشاط المحاضرات والندوات والأمسيات والمعارض، وفي غياب فاعلية المؤسسات الثقافية الرسمية وجدت هذه الجمعيات أن دورها يتطلب إحياء الاهتمام بالثقافة والفكر، وأدركت أن عليها دوراً يتلخص في تقويم ونقد الأوضاع الخاطئة، أي تقديم الثقافة النقيض لثقافة التفرقة والقبلية والإقليمية، ولثقافة النفط الاستهلاكية والديكورية والمظهرية – ثقافة إخفاء العيوب وطلائها بألوان زائفة.

وجاء حدث هام – ليساعد في إتاحة المجال لهذا التوجه الجديد، ففي هذا العام 79 انتصرت الثورة الإيرانية على حكم الشاه، والذي كان أيام حكمه وفي ظل أحلامه التوسعية يقوم مقام الشرطي في المنطقة، وليجهض أي تطور حقيقي من شأنه أن يحدث، فمع قيام هذه الثورة ارتفع سقف الحرية المتاح وفي أجواء الحرية يظهر الإبداع، وسهل ذلك للمبدعين العطاء الخلاق، ورفع درجات الوعي الشعبي على طريق تلمس المستقبل، فمع قيام الثورة تهيأت المنطقة المتخلفة حضارياً والتي دهمتها المفاجأة لتقديم تنازلات لصالح الشعوب مما خفف من حدة المنع، وهنا بدأت تظهر سمات جديدة من الوعي الخلاق ومن الطموحات والأحلام. كذلك شهد العام 1979 صدور مجلة «الأزمنة العربية» التي واكبت اهتمام الجمعيات بالثقافة من ناحية ومن ناحية أخرى قدمت أجلّ الخدمة لهذا المضمار، حيث كرّست الثقافة والأدب ضمن اهتمامها الأساسي، وأعطت الفرصة للأقلام الجديدة كي تعبر عن إبداعاتها الكتابية، ووجهت الأنظار باتجاه الاهتمام برعاية الشعر الحديث والقصة والنشاط المسرحي والتشكيلي، ثم جاءت جريدتا «الخليج» و«البيان» بصدورهما بعد «الأزمنة العربية» بشهور لتهتما بهذا الجانب، وكانت أهمية «الأزمنة العربية» في أنها أرست الثقافة في صفحاتها مما دفع بالمطبوعات الأخرى والدوريات إلى الاهتمام بهذا المجال الحيوي بعد أن كان لا يحسب له أي اهتمام، وساعد هامش الحرية الذي اتسع منذ العام 79 على طرق مواضيع ومجالات في الفكر جديدة على المنطقة وعلى وعي الناس. فبدأت تظهر انبثاقات حديثة بالنسبة للقصة والشعر على مستوى المضمون والشكل على السواء، وعلى مستوى تقديم أسماء جديدة بدأت تخوض غمار هذا الفن بشكله الحديث بعد أن كانت تتلمس خطاها في الكتابة الأدبية البسيطة على مستوى الخاطرة وغير ذلك. ولعبت هذه المطبوعات الجديدة وعلى رأسها «الأزمنة العربية» والتوجهات الجديدة الواعية دوراً في تأكيد مسألة الإبداع والحرية في الإبداع وفي دفعه إلى الأمام، عبر الحوارات والنقاشات وإتاحة مسألة النشر بشكل أكثر حرية من الفترة السابقة، وللتدليل على ذلك يمكن الإشارة إلى تطور المضامين عن المضامين والطروحات التقليدية التي كانت عليها قصص المرحلتين الأولى والثانية، هذا إلى جانب تطور الشكل الفني للقصة، فكان من اهتمام القصة الجديدة في الإمارات، قصة هذه المرحلة، التأكيد على المضمون الاجتماعي الإنساني، كحرية ومبدأ العدالة والمساواة وكشف الزيف والخلل الكامن في بنية المجتمع النفطي نتيجة لتطوره العشوائي الهش وسطوة حالة النفط وهيمنتها على مصير الإنسان وسلبه مقومات فكره وتزييف وعيه الحضاري.

وبدأ الأدب، وضمنه القصة، ينتقد الأوضاع السائدة ويتناول السلبيات والتناقضات والصراعات التي أفرزها النفط، وأكد في ثناياه على حتمية وضرورة التغيير وانتصار القضايا الأساسية للإنسان، كما أكد هذا الأدب، والقصة خصوصاً، على هوية الإنسان العربي في المنطقة المهددة بالانقراض والذبول.

كما تطور في هذه المرحلة الشكل الفني للقصة ليواكب المضمون والوعي الجديد، فالقصة لم تعد تلك التقليدية المتكئة على أركان المدرسة القديمة (بداية – عقدة – حل)… لقد تم تجاوز ذلك إلى خوض غمار التجربة الإبداعية المنطلقة بعيداً عن أسر التقليد وجمود القديم، وقد حاولت القصة ولا تزال، كسر الشكل الفني القديم وتناول الموضوع ضمن سياق حديث لا يعترف كثيراً بالقيود الأسلوبية واللغوية والبنائية القديمة. أخذت القصة تجرب أشكالاً جديدة، رغم أن الطابع العام الذي يصبغ معظم قصص الإمارات في هذه الفترة هو الواقعية بشتى أشكالها. وشهدت الأعوام منذ العام 79 إلى الآن استمرار القصة كنوع أدبي هام وتكريسه في الحياة الأدبية، فصدر العديد من المجموعات القصصية الجديدة كمجموعة محمد الحربي «الخروج على وشم القبيلة» ومجموعة عبد الحميد أحمد «السباحة في عيني خليج يتوحش» ومجموعتي عبد الرضا السجواني «ذلك الزمان»، «زلة العذارى». ، ومجموعات محمد المر «حب من نوع آخر»، «الفرصة الأخيرة»، «صداقة». ومجموعة ليلى أحمد «الخيمة والمهرجان والوطن» إلى جانب روايتي علي أبوالريش «الاعتراف» و«السيف والزهرة» إلى جانب عدد كبير من النتاج القصصي نشر ولا يزال في الدوريات والصحف والملاحق، وهي نتاجات تتجاوز وتتفوق كثيراً على ما سبقها، ولعلها أيضاً تتفوق على الكثير من النتاج المنشور في مجموعات، كقصص مريم جمعة فرج وسلمى مطر سيف وأمينة عبدالله بوشهاب وسعيد سالم الحنكي وليلي أحمد وغيرهم.

ملاحظات عامة:

  • بناء على ما سبق يمكن واقعياً تقسيم المراحل التي ظهرت فيها القصة وتطورت إلى:
  • أواخر الستينات وبداية السبعينات (68-71): ظهور القصة على يد الرعيل الأول مثل عبدالله صقر أحمد.
  • الفترة (72-75): استمرار القصة وظهور رواد آخرين مثل مظفر الحاج وعلي عبيد ومحمد المري وعبد العزيز خليل وعبد الحميد أحمد.

جـ – الفترة (75-79): فترة ضمور ثقافي، واكبه ضمور في القصة ولم تظهر إلا أعمال قليلة منها قصص علي الشرهان والسويدي وغيرهما قليل.

د- الفترة (79- الآن)… تطور القصة وتكريسها في الحياة الأدبية والثقافية ووثبتها باتجاه الحداثة والواقعية.

  • صادفت هذه المحاولة للتأريخ ولتوصيف القصة في الإمارات عقبات منها فناء المصادر القديمة وعدم وجودها مثل مجلة (أخبار دبي) ونشرة نادي النصر التي أحرقت بالكامل ضمن الأوراق الثقافية الخاصة بالنادي عند انتقاله من المقر القديم إلى المقر الجديد.. ولذلك فإنني أدعو المهتمين وعلى رأسهم اتحاد كتاب وأدباء الإمارات إلى المسارعة للحصول على هذه المصادر وغيرها ومحاولة وضع التاريخ الحقيقي للقصة وتطورها وبدقة أشمل مما ورد في هذه الدراسة المتواضعة.
  • تغيب عن هذه الدراسة بعض الأسماء في القصة، وذلك لأن بعضها بدأ الكتابة من خارج الإمارات وظل مجهولاً في الداخل إلى فترة قريبة مثل علي محمد راشد، ولأن بعضها الآخر لم ينشر قصصه بعد بشكل كبير مثل ماجد بوشليبي، وأخرى أعمالها قليلة جداً مثل تريم مطر عمران وعبد الرحمن الصالح، كما تغيب عن هذه الدراسة أعمال أخرى لعدم معرفة تواريخ صدورها بالضبط مثل رواية عبدالله النوري «عنق يبحث عن عقد»، مما يجدد الدعوة ويؤكد عليها لتوثيق هذه الحركة ودراستها بدقة وحفظها من الاندثار.
  • التأكيد على أهمية هذا الملتقى الذي نشارك في أعماله في أن يستمر سنوياً ويكرّس جهوده للبحث في القصة وتطورها وفي شؤونها الفنية والإبداعية أيضاً عبر دراسات جادة وعبر الحوارات والنقاشات الصريحة والموضوعية.
  • النتاج الأدبي القصصي خاصة تناولته هذه الدراسات أو هذا التوصيف العام من الجانب التأريخي بشكل أكثر من تناوله من جوانبه الفنية، وذلك حرصاً على معرفة ظهور وتطور هذا الفن في البداية قبل الدخول في تشريحه فنياً، حتى لا يتم إخضاع هذا النتاج لدراسات أكبر من حجمه الفعلي ولم يصل بعد إلى مراحل النضج والتطور التام الذي يسمح بتناول أبعاد فكرية وفلسفية معقدة ليست حقيقية موجودة في هذا النتاج كمسألة الزمن في القصة وهو أحد محاور هذا الملتقى.
  • أخيراً.. يلاحظ أن القصة في الإمارات لا تتطور كمياً بشكل يتيح دراسة نماذج متعددة منها، ولكن كيفياً وهي ناحية إيجابية رغم ذلك بقدر ما تتضمن السلبية، فتطور القصة حالياً يأخذ مداه في الكيف بإصرار الكتّاب الجدد للقصة على التجريب ومحاولة تخطي السائد باستمرار سواء أكان ذلك على صعيد اللغة أم الأسلوب أم الشكل البنائي للقصة، ولعل القصة اليوم في الإمارات باتت يتوفر لها كثير من عوامل النجاح إلى حد ما. هذا النجاح الذي لا شك سيضع أقدام القصة على طريق النضج التام.

توصيفات عامة حول القصة والرواية في دولة الإمارات