ها هو يقترب.. يقترب من أذني، بطنينه المزعج الذي يصم الآذان. تتوجه اليد الغليظة نحو أذني وتجذبها من خلف الشعيرات ثم تثنيها بقوة، أما أنا فأحبس دلاء من الدموع في عيني خشية أن يضحك مني بيكهام.
أجلس على خشبة مستطيلة وضعت فوق الكرسي، يغطيني رداء أبيض شبه شفاف. أشاهد بجزع المشهد المنعكس أمامي من المرآة، محاطاً ببقاياي المتناثرة، وأجزاء مما كنت عليه في الأمس. أحبس أنفاسي وهو يمرر الجهاز خلف أذني مخلفاً حداً نصف دائري. في النهاية يسكت الصوت ويعيد الجهاز إلى الطاولة.
يمسك بكلتا يديه رأسي الصغيرة، ويلفّها تسعين درجة، مرةً إلى اليمين، ومرةً إلى اليسار، وهو يشخص صنيعته الظاهرة في المرآة. أخيراً يطلق الرذاذ، تسيل على أثرها أنهار وقتية تمسح معها أخاديد الدموع الملحية المترسبة على خدي.
تتراصّ المحلات في صفوف أفقية على طرفي الشارع الصغير. شارع مزدحم دوماً بالسيارات والمارة والأصوات. تمشي سيارتنا مع التيار ببطء شديد.. أغالب الملل، وأنا أنزل النافدة وأعدد:
مطعم، استوديو، حلاق، أدوات صحية، مطعم، إلكترونيات، استوديو، حلاق، مطعم.. في النهاية يوافقنا الحظ، ونجد متسعاً مناسباً للسيارة.
وكما أن لكل محل رائحته الخاصة، ففي لحظات الدخول الأولى تتكشف النوتة العليا برائحة الليمون والحمضيات، تتبعها الياسمين كنوتة وسطى، ومعها تظهر على استحياء رائحة مأكولات وتوابل هندية، قبل أن تتماهى الأنف مع الروائح وتنسى. وسط ممانعتي وإصرار أبي، دائماً ما كان المشهد يتكرر قبيل موعد بدء الدراسة أو في مواسم الأعياد، وبعد أن يشرح أبي المهمة بإيجاز شديد، يدفعني في أيادي الحلاق الغليظة.
خلف كرسي الحلاق، تصطف أربعة كراسي حديدية متصلة، مكسوة بطبقة من الإسفنج الخفيف والجلد الاصطناعي الأسود اللمّاع. يجلس أبي كعادته متصفحاً المجلات والجرائد القديمة المتناثرة على الطاولة الزجاجية الصغيرة. يبدأ الحلاق عمله تحت أنظار ديفيد بيكهام المعلق على واجهة المحلّ. ولو كنت أملك أمنية واحدة حينها فسأطلب أن أغمض عينيّ وأفتحهما على قَصّة شعر وتسريحة شبيهة باللاعب الإنجليزي الأشقر.
ولكن دائماً ما تنتهي الآمال بقصة شعر لا تشبه إلا وضع آنية نحاسية وتحديدها على رأسي. استغلّ انشغاله بكنس بقايا الشعر لأتأمل أذنيّ النافرتين، وعينيّ العسليتين، وأنا افكر بردود أفعال زملائي في الفصل. أما أكبر مخاوفي حينها فكانت اختفاء أبي، أو أن يتركني وحدي بحجة الانتهاء من أعمال مستعجلة في الجوار. فكنت حريصاً على فتح عيني رغم أرتال الشعر المتساقطة من رأسي.
*
– وعليكم السلام.
يردّ الحلاق. أستيقظ على دخول أحد الزبائن للمحل. يجلس بجانبي منتظراً دوره.
يهتز صفّ الكراسي الحديدية، ويئن تحت وزن الثقل الجديد، فيما بدت فراغات من الإسفنج الأصفر تغزو جسد الكرسي إثر تقشر جلده الأسود.
أتأمل الأجساد المرمية أمامي على كراسي الحلاق الثلاثة، رجال ثنائيو الاتجاه، وبشرية غارقة في عوالم أخرى. يشير الحلاق إليّ. حان دوري. أغوص مجدّداً في كرسي الحلاق. هذه المرة أجلس بدون منصة خشبية، أرمي برأسي للخلف على زاوية 45 ليبدأ الحلاق عمله بصورة آلية. أستسلم كذلك بصورة آلية وأنا اغرق في الكرسي الأحمر على إيقاعات المقصّ المتناغمة. أتنقل بين الماضي والمستقبل، باتّجاهات عشوائية. ربما كان هذا الوقت الوحيد الذي أكون فيه مع نفسي بعيداً عن أدنى مقاطعة. أغلق عيني في البداية خشية دخول الشعر المتطاير، ثم أصبحت أغلقهما بسبب أو بدون سبب كطقس روحي منتظر. بدا لي وكأنني عشت فيها زمناً أبدياً، أو أصبحت كتمثال فرعوني بانتظار الاكتشاف.
*
يفتح الباب من جديد، يدخل متكئاً بيمناه على عكازه، ويسراه على ما بدا أنه سائقه الخاص.
عيناه العسليتين تشعان كنجم سماوي على وشك الانفجار، مسكونتين بكميات وافرة من الأحلام والرغبات غير المتحققة التي لم تتسع لها حياته الأرضية.
يتوسد الكرسي بينما الحلاق منشغل باستبدال الشفرة الفولاذية بأخرى جديدة، ثم يبدأ بكشط ما تبقى من شعر رأسه. تصطدم ذرات الحديد والكربون بالشعيرات البيضاء والرمادية، وتطيح بها من على جوانب رأسه المستدير. ينتهي الحلاق سريعاً، خلالها لم يغمض له جفن، أكان خوفاً من الموت أو من النسيان؟ يظهر الرأس بعدها كما كان عليه أول مرة طاهراً، لامعاً، نقياً، ومعها تختفي جميع الأصوات.
*
في اليوم السابع، تمر الشفرة على رأسي الطريّ، وسط صرخاتي المدوية التي لم تكن إلا حزناً على فردوس مفقود.. وعلى مقربة مني تفجرت أنهار الدماء من عنق الأضحية، وكانت عيناها شاخصتين إلى السماء.
شعيرات وقتية