كان من عادتي أن أخرج كل يوم إلى الشاطئ قبل الغروب، لأستمتع بمنظر الأمواج الصغيرة وهي تتكسر على حافة اليابسة وتداعب رمالها الصفراء، والشمس تلقي بخيوطها الذهبية لتنعكس على صفحة الماء الصافية الرقراقة. والسماء تلقي بوشاح أزرق على المنظر، فتتجلى الطبيعة في أبهى حللها فتمتلئ النفس بشعور جامح بالسعادة والغبطة. وهناك أنسى كل الهموم والمتاعب التي واجهتني طوال ذلك اليوم. وكان يطيب لي أن أسبح في عالم الخيال، وأنسى كل شيء عن حاضري لأرجع بذاكرتي إلى الماضي، أخوض غماره وأستعرض حوادثه التي مضى عليها أمد بعيد وطواها الزمن فأصبحت عبرة لمن شاء أن يعتبر. ونظرت إلى ساعتي فإذا هي تشير إلى ما قبل الغروب بربع ساعة، فحملت نفسي أجر ورائي أقداماً أنهكها التعب، وخرجت من داري أبحث عن نسمة هواء قد أعدها من رابع المستحيلات في ذلك الصيف الحار.. خرجت إلى الشاطئ أبحث عن ضالتي علني أوفّق إليها. وعلى شاطئ البحر جلست على صخرة تعودت الجلوس عليها في كل مرة. وأخذت أستعد للانغماس في عالمي الخاص.
لقد كانت هناك صورة طالما طاردتني في أيامي الخوالي، وأنا أحاول التعرف إليها. إنني لا أكاد أتوصل إلى معرفتها حتى أنساها مرة أخرى. لقد مر على هذه الصورة دهر طويل. إنني أعرفها حق المعرفة. إنها «خديجة» تلك الفتاة التي كانت آية في الجمال والروعة. كانوا يطلقون عليها في كثير من الأحيان «قمر». وكنا آنذاك صغاراً.. نحوم حول بيت خديجة لكي نراها لنقارن بينها وبين القمر.. وكانت كفتها تربح في كثير من الأحيان.
كان كل شاب يتمنى أن يظفر بنظرة منها.. لقد تحول بيتهم المتهاوي إلى معبد يحج إليه في اليوم الواحد عشرات من المتسكعين والعاطلين.. وكأن ذلك الزقاق الضيق الذي يطل عليه بيتهم يكاد لا يخلو من شاب متلصص يتسكع عله يرى ذلك القمر الذي طالما تحدث الناس عنه.
وكان والد خديجة «ناصر» فقيراً يعتصره الكفاف، فلا يكاد يحصل على قوت يومه، وكانت خديجة في ذلك الوقت في الثالثة عشرة. ومرت أربع سنوات كبرت فيها خديجة وأصبحت فتاة يافعة. وطرق الخطاب بابها. وكل الذين طرقوه من أبناء عمومتها وأخوالها. وكانت حالتهم المادية في مثل حالة ناصر أو أردأ.
ورجع كل الذين طرقوا بابها يجرّون خلفهم أذيال الفشل، ويرفضون البوح بسبب ردهم على أعقابهم.
وكنت في ذلك الوقت في العاشرة.. وكان لي أخ يكبرني بعشر سنوات.. وأبدى أخي لوالدي رغبته في الزواج من خديجة.. فرفض في بداية الأمر طلب أخي، لأن حالتنا المادية كانت أفضل من حالتهم في ذلك الوقت.. ولكنه لم يجد مفراً من الرضوخ لطلب أخي.. وذهبت معهم.
طرقنا الباب فخرج لنا ناصر.. كان منظره يوحي إلى الناظر بأنه قد تجاوز العقد السادس من عمره، مع أنه كان لا يزال في العقد الرابع.. ولعل مستوى معيشته قد جنى على شكله.. وكان رثّ الهيئة يلبس ثوباً ما أزال أراه عليه من سنتين ولم أر عليه غيره قط.. وأدخلنا، ثم أحضر لنا فراشاً قد أكل الدهر عليه وشرب ورمّ لكثرة الجلوس عليه.. وقال لنا بلهجة آمرة:
– اجلسوا لنتفاهم.
فجلسنا والدي وأخي على ذلك الفراش.. واستقبحت في بداية الأمر الجلوس عليه، ولكنني لم أجد بداً من الجلوس فجلست على مضض.. وكان يكلمنا من طرف أنفه وكأنه يملك كنوز قارون.. وتكلموا كثيراً وأنا أنصت. وجاء الحديث عن المهر، عفواً. أقصد الثمن.. وصعقت بعد أن سمعت إجابته المقتضبة وعرفت بعدها سر فشل من أراد الزواج من خديجة قبل أخي.. لقد قال باقتضاب:
– ثلاثون ألفاً عدا مصاريف الحفل!!
وبعد أن حدد والد خديجة هذا السعر تبادل كل من أخي ووالدي نظرة ذات مغزى.. ثم أستأذنا في الخروج دون أن يردا جواباً.. وخرجت معهما.
وفي اليوم التالي وبينما كنت أجلس في دكان والدي بصحبته كان الزبائن يسألونه:
– هل اتفقتما على زواج ابنك يوسف؟
– كلا.. لم نتفق.
– لماذا؟
– سوء تفاهم.
وهكذا كانت جميع إجاباته. كان مجرد سوء تفاهم.. لا أقل ولا أكثر.. ولكنه لا يوضح سوء التفاهم هذا.. وكان بعضهم يتجاسر فيسأله:
– ما الذي حدث يا أبا يوسف؟
– سوء تفاهم.
– ماذا تعني بسوء التفاهم؟
– أمر لا يعنيك.
وهكذا كان دائماً.. مجرد سوء تفاهم، وكان الذين يعرفون تفسير سوء التفاهم يعدون على أصابع اليد الواحدة..
ولم يعد والدي إلى ناصر.. وسكت أخي كأن شيئاً لم يكن.. وتوالى الخطّاب بعد أخي.. وكلهم لا يرجعون إلى ناصر مرة أخرى. والسبب سوء تفاهم.. وقليلون هم الذين يعرفون تفسير سوء التفاهم هذا.
ومرت الأعوام.. وجمال خديجة يخفت شيئاً فشيئاً.. ولكن لا يزال هناك من يرغب في الزواج منها بعد أن تعدت الخامسة والعشرين.. وكان يبوء بالفشل الذريع أيضاً.
وبدأ جمال خديجة يبهت بعد أن تعدت الثلاثين، وقل عدد الطارقين لبابها.. وبدأوا يتناقصون، بعد أن زحف اليأس إلى قلب كل راغب في الزواج منها والاقتران بها.. وصارت تلك الزهرة المتفتحة الباسمة عوداً يابساً تتقاذفه الأنواء، وطوى خديجة النسيان.. وبدأ الناس يتكلمون عن «عائشة».. تلك الفتاة التي يقارنون بينها وبين القمر.. وكثيراً ما أطلقوا عليها اسمه.. ولكل زمان دولة ورجال.
وكنت ذات ليلة راجعاً من عملي في ساعة متأخرة من الليل قبل أذان الفجر بقليل.. وشاهدت امرأة ذابلة تحمل في يدها إناء فارغاً، وفي اليد الأخرى عصا تستعين بها في مشيتها.. وبدأت من بعيد أقدر في نفسي عمر هذه العجوز الشمطاء.. ستكون حتماً في العقد السادس.. وما إن اقتربت منها حتى تبينتها جيداً.. إنها خديجة!!
كانت تبدو للعين في العقد السادس مع أنها لا تزال في العقد الرابع.. لقد أعادت سيرة أبيها معي.. وكانت تحمل إناء فارغاً.. إنها تتسول!! يا الله.. تلك الزهرة الباسمة التي طالما تمنى كل شاب أن يظفر بنظرة منها أو يحظى بابتسامة من فمها.. والتي طالما تزاحم الخطاب على بابها.. وأقلقوا مضجعها.. تتسول الآن؟ هل هذا يصدّق؟
واقتربت منها أكثر فأكثر أتأملها جيداً.. إنها كالعود اليابس.. لم يُبق لها الدهر من جمالها شيئاً.. لقد قسا عليها القدر، فحوّلها إلى أطلال بعد أن كانت حديث الناس وموضوع مجالسهم، وبعد أن كان الناس يتمنون رؤيتها أصبحت رؤيتها كابوساً مخيفاً في نظرهم!!..
لقد عجزوا حتى عن التصدق عليها بالقليل من فضلاتهم.. ونسيت نفسي وأنا أحدّق فيها، حتى كدت ألامس وجهها فسمعتها تقول:
– لا تتعجب يا هذا.. لقد كنت فعلاً جميلة.. وكنت أأسر القلوب.. وأسحر الألباب .. كان كل شاب يتمنى الزواج مني.. ولكنني ضحية.. ضحية طمع والدي!! لقد أبى إلا أن يبيعني بثمنٍ غالٍ.. رحم الله والدي.. لقد جنى عليّ وما جنيت على أحد.. هل لك أن تتصدق عليّ بشيء آجرك الله؟
وواصلت سيري بعد أن وضعت في يدها بضع دريهمات. وكان الأذان يعلو من كل مسجد ويصل إلى سمعي.. وكنت أصغي عجباً.. هل هذه صيغة أذان الفجر؟ .. وتنبهت إلى نفسي.. إنه أذان المغرب.. وأنا جالس على صخرتي فوق الشاطئ، والشمس قد اختفت وراء الأفق تاركة خيوطها الذهبية، تطل من خلف البحر لكي تلقي نظرة أخيرة على الكون، لتكون آخر من يودع هذا اليوم الذي انقضى، وقمت لأخرج من عالمي الخاص.. عالم الخيال.. وأخذت ألملم نفسي وأنا أستعد لمغادرة مكاني.. لأعود إليه في اليوم التالي.. وإلى صخرتي.. صخرة سباحتي في عالم الخيال.
1972م