يأتي صياح ديك من بعيد. يتسلل إلى أعطاف لحافها. تتقلب. تتمطى. تفتح عينيها. تفركهما. تتثاءب. تنظر إلى الساعة الملقاة بجانبها..
– لا يزال أمامي متّسع من الوقت. حان وقت التسوق. صباح الخير يا أنا…
ترفس اللحاف من فوقها كالطفل العنيد. تجلس على حافة السرير. تتصل بخدمة الغرف. تطلب فطوراً، وتستكثر. يتسلل إليها من حطام الذكريات صوت سحيق:
– لا.. لا.. لن تأكلي هذا الصنف. ولا داعي لهذا المشروب أيضاً. سأطلب لك صنفاً آخر. قوامك. سأحافظ لك على قوامك. هذا من حقي أنا فقط..
ترتدي ثوبها العنّابي المنقّط. تلف وشاحاً أبيض حول عنقها. تقلب زجاجات عطورها..
– نعم، هذا.. لا.. لا.. هذا العطر لا يليق بك بعد الآن. أين سلّة المهملات؟
تغمر نفسها بعطر تستنشق عبيره بعمق، وتطلق ضحكة. تنتعل كعباً أبيض يشوب بياضه خط وحيد، عنابي. تتناول نظارتها المؤطرة بالأبيض. تتمنطق بحزام أبيض. تتناول قبعة صيفية بيضاء تحيطها من الأعلى زهور اصطناعية بيضاء وعنابية. تقف أمام المرآة. تنظر إلى تفاصيل أناقتها. تتبسم..
– أين كنت تخبئين كل هذا الجمال؟
ثم تتبسم..
من غمرة فرحتها سرقها صوت عميق بعيد:
– لست أدري من منكما يليق بالآخر.. الثوب أم أنت؟ كم أحب هذا اللون عليك!
زمّت شفتيها. نفضت رأسها، وتأففت. خرجت غير مبالية بحجم الفوضى التي خلفتها على السرير. على الأرض. في الحمام. وفوق الطاولة الممتلئة ببقايا اللذائذ..
تطلب السيارة المكشوفة المستأجرة. تنطلق، وخلفها يتبدد تيار من الألحان. تتبسم. تغني. تقرأ بنهم كل تفاصيل الطريق. الإسفلت المتشقّق. أعمدة الإنارة المنكسة الرؤوس. واجهات العمائر المتعجرفة. الناس المتساقطة على كراسي المقاهي. رائحة الخبز والقهوة. الأشجار الشعثاء. وتلتقط ما تطاير من رائحة العشب المسفوح..
– وداعاً يا كلّ هذه الأشياء..
تلج إلى المركز التجاري. ترفرف بين محلات الملابس. تتأمل الواجهات. تلتفت إلى فستان هنا، وتتأمل قميصاً هناك. وتفكر. وتشتري هذا. وتجرب مقاس ذاك. تنظر إلى الساعة بين الحين والآخر.. وفي آخر المطاف استقرت عند واجهة مغرية لمحل كبير، ومضت تتفحص الأقمشة. تمرر أناملها المشذبة الأظافر على قطعة هنا، وتقرّب أخرى من خدها.. وتتبسم..
– مرحباً سيدتي. كيف أخدمك؟
– مرحباً.. أحببت ما لديكم..
– يسعدنا هذا سيدتي.. لدينا المزيد. ربما يعجبك أيضاً..
– أوه.. حقاً؟ خذني إليه إذاً..
– أمرك.. من هنا سيدتي. تفضلي. هذه تشكيلتنا الجديدة. وصلتنا أمس فقط..
تضع يدها على صدرها تهدئ من تصاعد الأنفاس فيه. ترمش. تدوّر مقلتيها يمنة ويسرة..
– لا لا.. هل من لون آخر غير هذا؟ تبدو التصاميم بهذا اللون قبيحة.. شكراً..
خرجت من المحل إلى مواقف السيارات وهي تتمتم:
– لا أريده.. لا أريده في ثيابي، ولا حتى في حذائي. فليشبع وحده باللون الخمريّ. فليلوّن به حتى أسنانه!!
وانطلقت خارجة من المركز التجاري. بلا موسيقى. بلا صخب..
تجذبها واجهة بيضاء عريضة هادئة يغلب عليها لون أبيض مطعم بنقوش ناعمة من لون بنفسجي. تتلاقى نقوشه في استدارات مورقة تتدرج بين الغامق منه والفاتح.. نعم هذا ما تحتاجه الآن. لا يزال في الوقت سعة. تدخل. تطلب خدمة تشذيب الأظافر. تلقي بنفسها على أحد الكراسي البنفسجية الدافئة. وتغوص عميقاً في البياض الطاغي على الجدران والأرضية بسلام. يتسلل من بين أسمال الذكريات صوت. الصوت ذاته:
– أنت ملكي. أتفهمين؟ ملكي. هذا أفضل لون في الكون، ولن ترتدي إلا هذا، وإلا…
– حسناً سيدتي.. حان وقت اختيار الألوان..
– أريد لوناً جديداً. مختلفاً. أريني أحدث ما لديكم من طلاء..
– تفضلي.. هذه باقة الألوان الأكثر طلباً سيدتي. وهذه مجموعتنا الكلاسيكية..
– حسناً.. دعيني أرى تلك المجموعة مرةً أخرى؟ نعم.. هذا من فضلك..
تنظر العاملة إليها. تقرب اللون المختار من أظافرها..
– هذا اللون يا سيدتي؟
– نعم.. انتظري.. أجل، هذا، هذا..
ثم تسللت ذكرى أخرى:
– لكني لا أحبه..
– المهم أنا أحبه..
– يا لجمال هذا اللون على أصابعك!
نفضت يدها. فلتسقط عن باطن كفها وظاهره كل تلك القبل التي كانت تتبع مثل هكذا جملة.. جفلت العاملة فتلطخت أصابعها بالطلاء..
تدخل غرفتها الوثيرة. تضحك باستخفاف. يبدو المكان وكأنه أعيد ترتيبه بالمسطرة. ترمي بالأكياس المعلقة بساعديها على السرير. تطلب من حامل الحقائب المحمّل بالمزيد من الأكياس أن يضعها أينما اتفق. تدس في يديه مبلغاً ليس بالقليل. يتركها لاهجاً بالشكر. تنظر إلى الساعة مجدداً. تأخذ حماماً سريعاً. تقفز فوق كومة الأكياس على السرير، وتضحك بابتهاج..
تتناول الهاتف. تلتقط صوراً لكل تلك الروائع التي اشترتها.. الملابس. الأحذية. الأوشحة. القبعات. والبروشات.. ولقطة لأظافرها المطلية المشذبة. ترسل الصور إلى بثينة صديقة روحها. تنظر إلى الساعة. تعيد لملمة كل شيء، وترتبه في حقيبتين كبيرتين..
يرن الهاتف..
– ألو..
– مرحباً. أهلاً. أهلاً بثينة. كيف حالك؟ الحمد لله. سأنطلق إلى المطار بعد قليل. أمامي ساعة وزيادة. نعم، نعم، أنا بخير. أجل، متأكدة. لم أكن بخير منذ زمن أنت تعرفينه. لكن الآن، كل شيء على ما يرام. فقط اشتقت إليك. هاهاها. أعرف أنها أيام معدودة. هل شاهدت الصور؟ كلها؟ حسناً. أنا بخير يا عزيزتي، فلا دموع بعد اليوم. ما العلاقة بين سلامتي والصور؟ أردت أن تتعرفي على ذوقي. مضى دهر منذ كان لي ذوق يخصني. أوه. المهم. ماذا بك؟ نعم، نعم، أنا بخير. سعيدة. منطلقة. نعم. أعيش راحة لم أذق طعمها منذ ست سنين. أنت تعرفين كل الحكاية!! وأنت من نصحني بالسفر. ها أنا ذا استمتع بوقتي حتى آخر رمق. استكشف العالم من حولي. اتبضع من دونه. ليتك كنت معي. الصور! ما بها؟ لكنها!..
تصمت طويلاً، والهاتف على أذنها، وهي جالسة على حافة السرير تحملق في الحقائب. تغلق الهاتف. تقاوم تصاعد العبرة إلى حنجرتها. تربض أمام الحقائب. تفتحها جميعاً. تخرج الأشياء منها. تتأملها قطعة قطعة. تتقاطر الدموع في حجرها. تذهب إلى المرآة. تكتم بكلتا يديها شهقة حارقة. تتشمم ثيابها. وتنخرط في عويل طويل..
تحدق من خلف ستائر الدموع في أظافرها. تزيح الستائر برمشات من أجفانها. تتمعن. تؤرجح رأسها الثقيل يمنة ويسرة..
– خمري؟! خمري؟! لماذا؟ لماذا لا يزال هذا الرجل هنا؟