هناك في زاوية من غرفته ـــ مكتبته التي تحتوي على مجسمات لسيارات متنوعة في حجومها وأنواعها وألوانها، مصفوفة بطريقته الخاصة والتي شاركته في ترتيبها. على الرفوف العليا مجسمات السيارات الفاخرة وباهظة الثمن، وعلى الرفوف السفلى الأقل سعراً، ثم الأقل. أما كبيرة الحجم فقد صفت على الرف الأوسط لاتساعه.
عرف بولعه بالسيارات منذ طفولته. وعندما اشترى سيارته هذه في عام 2012، أصبحت صديقته في حله وترحاله، يطمئن عليها بشكل يومي صباحاً ومساء، وأحياناً يمضي اليوم كله معها. لم يفارقها منذ اللحظة الأولى التي التقيا فيها.. لا يكف عن الحديث عنها، والإشارة إلى مزاياها. ولخوفه المفرط عليها كان يرفض أن ينظفها أحد سواه.
– كيف أفرّط بها وهي كل ما تبقى منه؟!!
تتردد هذه الجملة في منزل جدتي بشكل يومي.. تسعة شهور مضت.. تسعة شهور واللكزس الحمراء مركونة هنا بلا حركة ولا صوت. بكل ما تحتويه. تماماً كما تركها. النظارة الرجالية ذهبية اللون، ذات الإطار العريض من الأعلى بحيث تخفي حاجبي من يرتديها. أجمل ما فيها خطان بالأحمر والأخضر على ساعديها، ويمكن لمن يتأملها مع قليل من الدقة أن يرى كلمة (غوتشي) عليهما. متروكة على المقعد الأمامي من السيارة يعلوها القليل من الغبار، وإلى جانبها رزمة من المفاتيح، منها مفتاح السيارة، ومفتاح المنزل، ومفتاح المكتب. هنالك أيضاً عدد من شارات بدلة العمل. الصندوق الأمامي يحمل في جوفه الكثير من الأوراق، منها ملازم تخص إحدى دورات الجوجيستو، وعقود تخص تأمين السيارة، وتلك الرسالة الورقية التي يحرص على المحافظة عليها. هو رجل تقليدي نوعاً ما، وما يزال يحب الورق، رغم أنه في زمن التواصل الافتراضي الإلكتروني..
وفي المقاعد الخلفية أشياء أخرى مبعثرة، منها أحذية رياضية، قبعات باللون الأسود، وعلب محارم ورقية..
بالنسبة لي فقد بلغت الثمانية عشر عاماً، وقد حان الوقت لأحقق حلمي القديم بالحصول على شهادة قيادة رغم أنني ماهر في ذلك، لكن لا بد من الالتحاق بأحد المعاهد، والخضوع للتدريب.. تعليمات لا يمكن تجاوزها..
تحدثت مع جدتي مراراً وتكراراً برغبتي بقيادة سيارة خالي، لكنها كانت ترفض مجرد مناقشة الأمر. فسرت ذلك على أنها تنتظر حصولي على الرخصة أولاً. وها هي الرخصة في جيبي، لذلك جئتها واثقاً من نفسي هذه المرة. ولأول مرة أراها منهارة هكذا..
– في آخر صباح له معنا خرج مغادراً، وعلى غير عادته أخذ يودعنا، ويغمرنا بقبلاته. أحسست بدفء حضنه. ودعنا على أمل اللقاء بعد أسبوعين. حسبت الأيام والساعات من أجل لقائه مجدداً..
مسحت دموعها، ثم تبعت:
– لم أكن أعي ما يحصل. فجأة تحول المنزل إلى خلية نحل. عدد هائل من الناس يدخلون المنزل لدقائق ويخرجون. أشخاص أعرفهم، وآخرون لا أعرفهم.. كانوا يعزون به.. ابني الذي لم أتمكن من وداعه..
ثم نظرت إليّ قائلة:
– أما سيارته فدعك منها.. لا تفكر في الأمر أبداً..
أبت جدتي أن تفرط بسيارته. رفضت أن يعتني بها أحد سواها. تغسلها بدموعها قبل الماء. تمسح عليها بيديها الحنونتين عليها قبل قطعة القماش..
*
تسعة شهور مضت منذ رحيله…
وها نحن ننقل سيارته إلى معرض مقتنيات الشهداء في ساحة الشهداء بأبوظبي. لم تتحرك السيارة من منزلنا إلا بعد رحيل جدتي بشهر…