(1)
منذ الرائحة الأولى للحنين الأول، ومنذ الطفولة الطازجة، المرصعة بالمتاهة الحاضرة والأماني النائية، والأسئلة غمام يتوعد بالمطر، وفي ليلة رمادية، خرج السؤال إليّ من جوف زجاجة:
- أأنت أنت؟!
* * *
هل كان الوهم؟!
* * *
المكان خالٍ، والرعب يزكم أنفاس الـ ……
لم أدر له بالاً، وأخذت أنسلخ عن جلد مخاوفي:
- ذات شتاء؛ أُصبتُ بالغثيان، ثم التوهان؛ بحثتُ عني في صحراء بحجم كف.. لم أجدني هناك، فأخذت أبحث وأبحث، حتى تراءيتُ لي في كهف عتيق؛ تتوه فيه الرؤية، وتتعثر به الخطوات…:
إنه فم صديق «رحمة الله عليه»!!
(2)
ويترصدني ذات السؤال:
- أأنت أنت؟!
* * *
هل كان الـ ……؟!
* * *
الأزقة مكتظة بالظلام، وشبح القلق يخيم في أرجاء الـ ……
لم أعرهُ اهتماماً، وأخذتُ أتقيأ صمتي:
- سمعتُ صمتاً يئن!! الصمت يحرضني على الصمت، وعلى التفاتة واحدة إلى الوراء؛ تستحوذ على مشهد يميط الغُمام عن رأس يطل من رأس نعامة.
* * *
انخفض الصمت، ورفرفت براءة النّعام!!
* * *
(3)
ويعبس السائل، ويمضي السؤال:
- أأنت أنت؟!
* * *
هل كان ……؟!
* * *
المكان مرتدياً حلة الشمس، وأنا أمضي:
- لمحت امرأة على رأسها إكليل من الصمت. امرأة عند ناصية الشهيق؛ البحر يغرق في عينيها، وفي عينيها يبكي البكاء!! امرأة تمردت على طقوس القبيلة، فمحي اسمها من سجلات التماسيح!!
(4)
يبتسم السائل، ويختصر السؤال:
- أأنت؟!
* * *
هل …؟!
* * *
الشمس تلقي بعباءتها فوق جسد الـ ……، فأخَذْتُ ألعقُ البحرَ وأحتضنُ التراب، وأخذتُ أقذفُ الشمسَ بذراتِ جُنون:
- شممتُ رائحةَ قلق.. أبصرت أحدهم يفتح قوساً، ويصرخ: أنا إنسان، ثم يسارع بإغلاقه كي لا يسمعه أحد!!
- مرة أخرى شممت الرائحة ذاتها، فأدركت مصدرها؛ (ابتسامةٌ في صحراءِ شِفاه)!!
(5)
يمضي السائل، ويصمت السؤال!!
- … … … … !؟
* * *
- في الليلة ذاتها، فاحت رائحة!!
أخذت اللحظات تتعرى.. تخلع الليل وتُصْمِتُ الصَّمْتَ، وأخذت تختصر المسافة الشاهقة والممتدة بين الظفر واللحم، وأخذ الجُرح يُداعب صمتي من جديد.. ربما يخدشه، ربما يثقبه، وربما يهشمه.. لكنه أخذ يعفرني بالندم، وينبش ذاكرتي المسربلة بالرموز!
- في الليلة ذاتها..
كان الحضور وكان الغياب، وكانت وحدها ذات الإكليل، الممتلئة بالخفايا والرثاء الحميم. لكن الجرح جاء مُباغتاً هذا الشتاء، فأمطرنا…
- في الليلة السالفة..
أخذ الجرح يتبرعم؛ رويداً رويداً رويداً، حتى إذا ما نام العقربان على بعضهما، يفترش أحدهما الآخر، ويلتحف الآخر الأحد؛ صار الجرح وكراً والمذاق بحيرة، وصار الحنين الأول للطفولة الفائتة، سحابة طيفٍ في ذاكرةٍ قديمةٍ؛ ملؤها أبوةٌ صارمةٌ ثاقبةٌ، حانية ٌكذلكَ، وهادئةٌ أيضاً؛ وأمُومة بارعة، تَفيض بشتاءاتٍ ناضجةٍ وباخضرارٍ مُثيرٍ.
ذاكرةٌ قديمةٌ؛ في داخلها تَوْقٌ لإغفاءةٍ مُتمردةٍ على التمردِ، وعلى الاحتضارِ اليومي!!
- في الليلة السالفة..
كانت الذاكرة نزفاً، وكان الشوق سنبلة.. كان السؤال وخزاً، وكان البوح معصية.. وكان اللا أحد.. فقط وحدها ذات الإكليل، ووحدها الرائحة!!
- في الليلة الفائتة..
كان الحنين وكانت الطفولة، وكان الغمام وكان المطر.
- وفي الليلة المجاورة..
عند مفترق القلق، كان السائل دون السؤال:
يفتح قلبي؛ ينزع منه الرعشة، ثم يزرعه بالدهشة؛ يفتتح قوساً، ويتركه للريح:
- (أنت «……….»!!
* * *
* *
*
(سالفة): القصة الفائزة بالجائزة التقديرية لـ«مسابقة غانم غباش للقصة القصيرة»، 1995م: «اتحاد كُتّاب وأدباء الإمارات»، و«نادي أهلي دبي».
عبدالله محمد السبب: أديب وكاتب وإعلامي إماراتي، مهتم بالنقد الأدبي. له عدة إصدارات في الشعر والقصة والمقال والدراسات وأدب التراجم.