لا شك أن الإبداع الناتج عن مجتمعات ذات نسيج واحد وتركيبة محددة يختلف أيما اختلاف عن ذلك الإبداع الذي تنتجه المجتمعات المتداخلة والمركبة، متعددة الأنسجة واللغات والثقافات والمعارف، فتلك المجتمعات إذا تم ادماج خليطها الثقافي والاجتماعي والمعرفي بشكل متوازن؛ ستكون أكثر قدرة على إنتاج نوع فريد ومائز من الإبداع الداهش.
أما إذا تنافرت تلك الأنسجة ولم يستطع المجتمع التوليف بينها وتنضيدها بشكل يفيد مناحي الحياة كلها سيكون الناتج عن ذلك مخلوقاً كروتيستيكياً مشوهاً، تنعكس ظلاله السوداء على الآداب والفنون بصفة عامة.
ولقد شهد العالم مجموعة من المجتمعات الكوزموبوليتانية الناجحة، والتي تنوعت فيها الفنون (كباريس)، كما تألقت بها الأجناس الأدبية (كاليونان) بأوروبا، و(الإسكندرية) في أفريقيا و(الإمارات) مؤخراً في آسيا.
إن البلدان (الكوزموبوليتانية) هي التي تستوعب هجرات من مختلف البلدان؛ فتصبح متعددة الثقافات، واللغات، بحيث تتطور بها أساليب الحياة والتفكير من خلال تداخل الثقافات التي يأخذها معه الإنسان من مجتمعه.
ولعل من أفضل النماذج المعاصرة التي يمكن تناولها في هذا الصدد على الصعيد العربي والشرقي هي دولة (الإمارات العربية المتحدة) لما تمثله من نموذج كوزموبوليتاني مائز ومتوازن وناجح ومحقق على جميع الأصعدة والمستويات لا سيما الصعيد الأدبي، وذلك على الرغم من شدة اشتباك شرائحها المجتمعية وتنوعها وتمايزها، شأنها في ذلك شأن مدينة (الإسكندرية) قديماً في قارة أفريقيا، والتي استمرت كمنارة للعلوم والآداب والثقافة والفنون، تشجعها وتحتضنها وتطورها وتعيد تصديرها للعالم كله على مدار قرون طويلة.
التركيبة (الديموغرافية) العجيبة للإمارات:
تضم دولة الإمارات أكثر من (200) جنسية معظمهم من دول شرق آسيا (بنجلاديش، وسيريلانكا، الفلبين، الهند، الصين، النيبال، إيران، مصر، ودول أخرى)، وتضم (150) قومية، و(100) لهجة مختلفة.
وعموماً يشكل الشباب في الإمارات من سن 19- 29 ما نسبته 22.2% من إجمالي السكان، لكنها بعيدة عن الهموم التي تهدد الدول العربية الأخرى، والمرتبطة بحالة من القلق من وجود نسب عالية من الشباب، وضرورة الحد من البطالة في صفوفهم، فقد استطاعت أن تكون من أقل الدول العربية في مستوى بطالة الشباب.
تتعدد اللغات في دولة الإمارات شأنها في ذلك شأن جميع الدول الكوزموبوليتانية.. حيث إن تعدد اللغات من أهم سمات تلك الدول.. ففي الإمارات نجد أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة، وتسود اللهجة الخليجية بين أفراد الشعب الإماراتي، تستخدم اللغة الإنجليزية كلغة ثانية على نطاق واسع، ومن اللغات الأخرى المستخدمة في دولة الإمارات العربية المتحدة (بسبب الهجرات) اللغة الأوردية، الهندية، الفارسية، البشتوية، الماليامية، البنغالية، البنجابية، التاميلية، البلوشية، الروسية، الصومالية، التاغالوغية، النيبالية ولغة ماندارين الصينية.
ومن اللافت اهتمام الدولة واعترافها بذلك التنوع اللغوي داخلها، حتى أن لافتات الطرق والخرائط والعلامات الإرشادية هناك تكتب بأكثر من لغة وتصاغ بأشهرها تداولاً بعد اللغة العربية، لغة البلد الرسمية.
وتتنوع الديانات فيها أيضاً، فتشكل الأغلبية المسلمة نسبة 55% من مجموع السكان الأجانب، 25% هندوس، 10% مسيحيون، 5% بوذيون، 5% أتباع ديانات أخرى معظمهم يقطنون إمارتي دبي وأبوظبي، بما في ذلك البهائية والسيخ.
وعلى الرغم من ذلك لم تسجل أي حالة من حالات الإساءة أو التمييز في المجتمع الإماراتي بسبب المعتقدات الدينية، فهي دولة تتميز بالتسامح الديني وتقبل الآخر، كما أن الدولة تولي احترام الحرية الدينية جل اهتمامها بسن القوانين الضابطة لهذه السمة.
وعليه، نلاحظ مدى صعوبة ذلك التحدي الذي يواجه الكاتب الإماراتي بصفة خاصة وكتّاب المجتمعات (الكوزموبوليتانية) عامة في الجمع بين تلك الجنسيات بثقافاتها وميثولوجياتها ودياناتها ومعتقداتها، ومشكلاتها التي تخص الأفراد أو البلاد التي ينتمون إليها بالأصل، وتنعكس على أفرادها بشكل أو بآخر.
إن سكان الإمارات الأصليين أقل عدداً من الغرباء بها، وهذا العرض إنما أوردته كدليل على صعوبة مهمة الكاتب الإماراتي في انتقاء وصياغة وكيفية توصيل فكرته لهذا المجتمع (الأنثروبولوجي) (الكوزموبوليتاني) المنفتح.. متعدد الشرائح واللغات والتراكيب الدينية والثقافية، المتمايز في الرموز الميثولوجية وطرق تلقيه للفن والأدب.
إن مهمة الكتابة في ظل تلك المعايير تعد سلاحاً ذا حدين، فإما أن تسخَّر لصالح الكاتب فتصبح بيئة ممتلئة بالمحمولات الفكرية، والموضوعات الاجتماعية التي انصهرت فيها كل تلك الشرائح، وأنتجت مشكلات متنوعة وحالات نفسية متمايزة يتفرد بها الأدب الإماراتي، وإما أن تكون مضيعة للهوية، فيحوم الكاتب بداخلها في سدم لا نهائية دون بلوغ غاية ما.
كما أن دورهم العظيم يتمثل في قدرتهم على حفظ مكانة ودور اللغة العربية الذي بدأ يتراجع في مقابل تلك اللغات واللهجات. إنها مهمة صعبة حقاً.
وهذا يدعونا للتفكير حول ماهية الملامح الإبداعية والأساليب التقنية التي تميز أقلام تلك المجتمعات ونصوصهم؟!
ويأتي دور النقد ليجيب عن تلك التساؤلات؛ فمهمته هي البحث عن كينونة النص ومدى ما يطرحه من أزمات إنسانية ومجتمعية، والتنقيب بدقة عن (ميتاسرد) النص، وفق إدراك كاتبه التصوري عن حياته ومجتمعه.
ينظر الناقد (ر. م. البيريس) إلى القصة القصيرة على أنها ستقوم مقام جميع الفنون؛ فهي تقوم بدور (الكاهن المعرف، المشرف السياسي، خادمة الأطفال، ومعلم الفلسفة)، كل تلك الأدوار تقوم بها في إطار فني عالمي.
والقصة القصيرة كآخر الأجناس الأدبية ظهوراً هي أقرب الفنون الأدبية لروح العصر؛ لأنها انتقلت من التعميم الذي تؤديه الرواية إلى التخصيص، فلم تعد تتناول حياة بأكملها أو شخصية كاملة بكل ما يحيط بها من حوادث، وظروف، وملابسات، وإنما اكتفت بتصوير جانب واحد من جوانب حياة الفرد، أو زاوية من زوايا شخصيته، أو موقف أو خلجة أو نزعة إنسانية بشكل مكثف خاطف يساير روح العصر؛ فهي الجنس الأدبي الأنسب لطرح ودراسة الجزء دون الكل، وهي الأقرب للتوغل في أبعاد النفس والدخول في أعمق أعماقها الباطنية.
الشكل الفني للقصة القصيرة في الإمارات:
معظم الكتّاب الإماراتيين يحاولون التجديد والتجريب في القصة شكلاً ومضموناً، ونركز القول هنا على التجديد في الشكل الفني. وإذا كان معظم الشباب يسعون إلى التجديد وتجريب تقنيات سردية جديدة، فالنسبة تختلف من قاص إلى آخر.
هذه الأشكال التجريبية في مجموعها تمردٌ على الشكل التقليدي للقصة الكلاسيكية، ونوجزها في:
تفتيت مفهوم الحدث التقليدي:
ويأتي على شكل إلغاء الحدث أحياناً، ويأتي أحياناً على شكل غياب الحدث أصلاً، أو تقديم الحدث بواسطة عدة رواة، أو تقديم أحداث منفصلة لا رابط بينها ، وهي ليست أحداثاً تقليدية (بداية وحبكة وعقدة ونهاية) وإنما مواقف مختلفة يربطها الزمن.
تنوع مستويات التعامل مع الشخصيات:
فقد ترسم الشخصيات بعناية بأبعادها المادية والاجتماعية والفكرية، لكن ليس نقلاً حرفياً عن الواقع، بل تغدو معبـّرة عن دلالات ورموز تتجاوز محيطها يركز فيها القاص على الشخصية الرئيسة وجعل الشخصيات الأخرى مرايا تلقي الضوء على الشخصية المحورية، وأحياناً نرى نزعة التعميم في رسم الشخصيات، فليس للشخصيات ملامح خصوصية تميزها عن غيرها، ليس لها أسماء أو سمات جسدية أو مواقف اجتماعية تؤكد تفردها، إنها شخصيات مجردة مطلقة.
تنوع أساليب السرد:
نلاحظ أولاً تلاحم الشكل والمضمون بأساليبه الفنية التي تنسجم مع المضمون وتلائمه وتعبر عنه، ومنها أيضاً استخدام أسلوب السرد الشفوي الشعبي المتأصل في التراث العربي أو في الفلكلور المحلي، ومنها الاهتمام بالسرد أكثر من العناصر الأخرى، واستخدام تقنية القصة داخل القصة، وهي تقنية جربت في المسرح بشكل خاص، وهذا يأتي ضمن التجريب في القصة الإماراتية ونعني به تداخل الأجناس، والإفادة من الشعر والخاطرة في السرد.
كسر خط الزمن وتوظيف المكان:
لا شك أن الالتزام بمواصفات الزمن القصصي الذي يُـكثف فلا يتجاوز فترة قصيرة، سواء الصاعد منه أو الهابط (أي بداية القصة من نهايتها)، وهو ضمن عناصر القصة التقليدية ما زال يُـستخدم في القصة الإماراتية، لكن الجديد فيها هو كسر الزمن التقليدي، تتجاوز صفة الزمن الصاعد أو الهابط بل تفتح قنوات جديدة لذلك الزمن وهي قنوات دائرية.
أما المكان فنلحظ توظيفاً جديداً له، فهو ليس فقط المكان الذي يحدد الشخصيات ويجسد الحدث، بل نجد المكان مشحوناً بدلالات المضامين، فالمكان في المجموعة يحاصر الإنسان ويطوقه ويسجنه ويعمق إحساسه بالعزلة والاغتراب والضياع.
تعامل جديد مع اللغة:
لا شك أن توظيف اللغة بالمعنى الواقعي للقصة الكلاسيكية ما زال يوظف في القصة الإماراتية، لكن نلحظ الآن تعاملاً خاصاً مع اللغة يختلف عن غيره.
لكونها لغة مُـكثـفة متوترة تتسم بالجموح والشاعرية المتمردة، لغة ليس بمعناها القاموسي، بل بها تعامل متميز يتناسب مع الموصوف، ونلحظ ملامح الخطاب الشعري أحياناً كثيرة.
الموضوعات:
تتنوع الموضوعات في فن السرد الإماراتي بين ما هو (ذاتي، وعام)، (رمزي، وتقريري)، (نفسي، واجتماعي، وسياسي).
وسنلاحظ كل هذه الملامح حاضرة، كما سنلمس جهداً إحصائياً لافتاً في صورة نصوص قصصية منوعة لمجموعة من كتّاب وكاتبات القصة القصيرة بدولة الإمارات في كتاب «كلنا السدرة كلنا نشيد الموجة – مختارات من القصة الإماراتية» جمع وإعداد الروائية لولوة المنصوري، والقاص الإماراتي محسن سليمان الحاصل على جائزة الشارقة، والكتاب صادر عن اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، والذي أتفق كثيراً مع ما جاء في مقدمته وعلى غلافه الخارجي من أنه ليس هناك أي ادعاء بوجود قصة ناضجة في الساحة المحلية الإماراتية كشكل من أشكال التعبير الفني، ولكنه – في الوقت نفسه – لابد أن نقر أن هناك مشروعاً قصصياً آخذاً في النمو والتبلور، محاولاً أن يكرس نفسه ليحظى – من ثم – بالحضور الكثيف والفاعل في الحياة الأدبية والثقافية في الدولة.
ويعد هذا الكتاب محاولة لإحياء فن القصة بمجموعة نصوص منتقاة من الجيل الجديد، حيث لا يتعدى عمر القاص 45 عاماً، لتكون تلك المضمومة لإبداعات (جيل الألفية) أي الذين نشروا بعد سنة 1999.