بينما كانت في لحظة تأمل غير مباغتة، اكتشفت آمنة بانزعاج أن ثروتها الوحيدة هي قامتها الريانة وعيناها الواسعتان وشفتاها المكتنـزتان، وأنها لا شيء غير ذلك. هذه الصفات ارتاح إليها عبدالرحمن موسى، رجلها، الطائل الثروة، وكانت السبب في جلبها ذات يوم من عالم فريج السماكين شرقي المدينة، ذلك الحي الحادّ الرائحة، الزاخر بأنواع الحرمات كما بالفرح الجماعي، حيث ارتحلت إلى هذا الحي ذي المساكن المضيئة الشائحة بوجهها نحو البعيد، والمتكبرة تكبراً أصمّ.
لم يقدم عبدالرحمن موسى على مصاهرة حي الصيادين بسبب الجمال الغض والغرّ فحسب، وإنما كانت هناك قرابة بعيدة يتحاشى التصريح بها بعد أن تقلب في مناصب عديدة رسّخت علاقته بالسوق، فأخذ يكوّن الشركات بالتعاون مع الأجانب، وكبرت شركاته لتندمج في مؤسسات ومصانع تدخل نشاطاتها في كل شيء، ولا يعرف أحد نهاية لممتلكاتها.
«رجلي» بدت الكلمة غريبة حين استعادتها ببطء، وأنا وهو وفضول تفكيرها: «كيف ينظر إليه الآخرون؟».
ذلك الكيان النشط، الكبير النفوذ، الذي يحظى بمهمات متفرقة، ويشيع تقديره – الظاهري على الأقل – لدى أوساط معينة! ليس بينها حيّها الأصلي غير المتحضر. متزن، بشوش لبعض الوجوه، حاضر البديهة، يتقن إدارة الحوارات في مجالس الرجال التي تتطلب آداباً خاصة.
واستعادته في ذهنها بهندامه المرتب الذي يثير فيها العصبية، وجه متماسك حين تمتد أصابعه لتخلع عن عينيه النظارة الذهبية الإطار، ينشق ذلك الوجه عن ضحكة تبرز منها أسنان ذهبية بعيدة في الحلق، ولا يبقى منها إلا المقايضة والبرودة، وعلى أطراف الشفتين تقطن استحالة الحوار. ذكي وثعلب مع الآخرين، وهكذا هو معها أيضاً، لا يستطيع أن يفقد هذا الدور في حوارهما العادي القصير، لا يستطيع أن يكون بسيطاً ومفهوماً، ودخيلته غير واضحة لها، كثيراً ما انتابت علاقتهما فترات صمت طويلة تمتنع فيها عن محادثته.
«كيف أشعر بالحقيقة يا رب؟».
كان هذا الشيء يهمها ويحيّرها، تأكدت بعد مصارحة مع عواطفها، أنها لا تحبه ولا تكرهه، غير أنها مجبرة وبدون شعور منها على الافتخار بنجاحه، وممارسة دور المرأة التي تنتسب إلى رجل ناجح. وهناك مسألة خاصة بها تعشش داخلها، حين تبعث فيها بانتظام تسبب لها كرباً ولعنة للذات، إنها تشعر نحوه بالامتنان، هل لأنه أسكنها هذا البيت العالي المضلع الشكل الخليط من القباب والسقوف المنحدرة، والذي يهيمن على مساحة كبيرة، وتتبعه حديقة تغص بمختلف أنواع الورود، ويتوسطها حوض سباحة، ووفر لها أربعة من الخدم، وسيارات تتلألأ لدى الباب ومقتنيات وأسفاراً؟
لم تجد جواباً على هذا الشعور الذي يثير فيها تمرداً بين فترة وأخرى.
لكن ذلك لم يمنعها من أن تستنفر كل ما تختزنه المرأة من قدرة على أن تكون ندية ومرغوبة، وتنتظره بعد جلسة السهرة التي يقضي فيها وقته مع أصدقائه يستمتعون بشتى الملهيات، ولا تخلو أمسية من القمار!
حين يأتي تكون العلاقة الوحيدة، وحين ألحت على نفسها بالسؤال «لِمَ أتزين له»؟ وجدت أن ذلك مطلوب من المرأة. إنه شيء أساسي. ربما كان الأمر مجرد مقايضة غير معلنة.
حين رفعت رأسها، وأدارت نظرة سريعة في الغرفة، أصابها شيء من التوتر، فلقد ألفت نفسها مكومة في المقعد المعتز بذاته، كانت جزءاً ساكناً في محيط الأشياء الأخرى التي تناصبها العداء: الساعات الأثرية ذات القاعدة المنتفخة، وهي تهز بندولها يمنة ويسرة بدأب يثير الجنون، وينبئ عن الزمن الذي يتحرك ويتراكم في الخلف كأكوام من التأنيب الثقيل. واللوحات ذات السطوح اللامعة لنسوة يعتمرن ملابس واسعة منسابة في الأسفل، وحاسرة عند الصدر والكتفين، ويتأملن ببلاهة. ومقابلها تماماً كان حوض الأسماك الملونة النائمة أسفل الحوض.
في البداية حين غادرت حي الصيادين، بذلت جهداً مضنياً للتآلف مع عالم الأشياء الذي بدا مثيراً، سرعان ما انقلب إلى عالم جهنمي، وكانت الجدران المعرقة بألوان رصينة رفيعة المستوى، والسجاد المحتفل بألوانه الصاخبة واللوحات والزهريات والتماثيل تبادلها جفاء مريراً. كانت نبتة صحراوية تقتلها الرطوبة الملونة وغزارة الغذاء.
تحوّل شعورها في ما بعد إلى اللا مبالاة، حيث قبلت أن تقتني الملابس والذهب والجواهر مقابل أن تقتل فطرتها الباحثة عن الشمس والوجود والقفز في السكيك العابقة برطوبة الجدران والأصوات الآدمية، مقابل الانكفاء في ركن بارد في منـزل عبدالرحمن موسى.
أرادت التخلص من هجوم جوقة الكائنات الشيئية حولها، والقائمة على المراءاة. رفعت جسمها، وشدت خيط الستارة المخملية، لتهرب ببصرها إلى الحديقة، هناك كان «محمد الملباري» يعكف على حلاقة الشجيرات، وبتر الأغصان الرقيقة، بدا النظر متكلفاً، وكان الجمال يفتقد الحياء.
انتفضت روحها متألمة، وسارعت العين للبيوت الحديثة التكوين، متجاوزة الحديقة، تدور بين سكان هذا الحي الراقي الحديث المنبت منافسات حامية، لكنها صامتة، في تجميل البيوت بأحواض الزهور، واقتناء أغرب السيارات، وفي عدد الولائم أسبوعياً، ونوعية الضيوف، موظفو الشركات الكبار، وأصحاب المناصب هم ضيوف مرغوبون دائماً.
في هذه البيوت عثرت على نساء مثلها، حيث تكون الأشياء غطاء للحزن والغربة، ويكون البذخ وسيلة للتعارف، غير أنهن يفقنها في شيء واحد هو الثرثرة، حيث لا يسع المرء إلا أن يبتلع شهقات الدهشة للقصص المثيرة التي يكون مكانها هذا البيت أو ذاك، كل منهن كانت تعاني الشك في رجلها الناجح.
أمس، نظرت إليها جارتها حصة بخيت، وطلبت منها أن تخبرها عما تعرفه عن زوجها من حكايات متناثرة، وستخبرها حصة بالمقابل عما أسرَّ به زوجها عن أسرار عبد الرحمن موسى، ثم ما لبثت حصة أن شرعت في الحديث عما تعرفه عن خفايا عبدالرحمن موسى دون مقابل.
ودارت بها الدنيا، فلقد عرفت لحظتها سرّ السفرات المتقطعة لزوجها وعودته منها محملاً بالهدايا الفاخرة لها، لحظتها كان الشعور بالزيف يلف عنقها كأفعى ملعونة متسلطة، وأشفقت على نفسها من ذلك التحريض الذي تربص لدقائق على ارتكاب فعل يخدش شعوره المتطاول، على استدراج أحد أولئك الكثيرين المتحلقين حول زوجها بوجوههم اللامعة وعيونهم المقامرة التي تسرق النظرات الخبيثة وتستهويها العلاقات المسروقة، أما الحب فقلبها أصبح عاجزاً عنه.
تدق الساعة الخبيثة دقتها النحاسية النائحة؛ دقة، دقتان، ثلاث دقات، أربع، ينتفض جسدها، تجتاحها رغبة توجيه ضربة لعالم يؤذيها، أن تقوضه، يتعالى صفير الأشياء في أذنها، تشعر بالتعطل المميت، بثقل المجاملات والطقوس، وسقوط الانطباعات الطيبة. تتوتر أصابعها ثم تنهال على عقرب الساعة، محاولة انتزاعه، فيصاب العقرب الرشيق بتغضنات لا شفاء منها، أما البندول فكان يلفظ دفقات الحركة الأخيرة. تتصاعد معركتها مع الأشياء، فتتناثر الزهريات قطعاً صغيرة، وتتساقط عروق الأزهار الصفراء دون رحمة.
في ذلك الحين كانت الأسماك قد استيقظت وغادرت قاع الحوض، وبدأت في السباحة في شكل دائري بمحاذاة الجدار الخارجي، رفعت يدها لتكسر الحوض، لكن منظر السمكات التي كانت ستنحصر منتفضة أمام عينيها أوقفها مسلوبة الحركة، فألقت بجسدها فوق المقعد الذي ابتلعها بعصيانها واضطرابها بلا حنان.
وظهر حيّها القديم، حيث مرت الوجوه، التي تعرفها في قافلة طويلة بشكل كاريكاتيري، كانوا يتضاحكون ويتصايحون وينعتون بعضهم بالألقاب المضحكة.. برزت خنادق الشوارع ومستنقعات «البواليع» الآسنة، والكلاب والأغنام الهزيلة، والصبية الأشرار الخجولون وهم يحيطون بالسيارات الغريبة يتأملونها ويقيّمونها، وهم يمسحون أنوفهم بأكمام أثوابهم المشحمة. وأولئك الرجال الذين يتجهون بذكراهم لعهد البحر والغوص، ويجلسون في الأماسي تحت الظلال، يمدون أرجلهم بما يسمح به طولها، ويخترقون عالمهم المعزول، بالتعليقات الساخرة، المليئة بحكمة ونبوءة المراقب الصامت. ولقد وقع زوجها مراراً، في مرامي ألسنتهم السليطة، حيث يقولون إنه يعيش من التملق وأكل أموال الناس. ولمحت النساء بمواليدهن الكثر، وحركاتهن المعتدة، المنطلقة، المهيأة لإشعال المعارك الصغيرة وإطفائها بسيل من الود والضحكات.
حين زارتهم لأول مرة، خدشت شعورها الرائحة المسمكة والفوضى، ثم توقفت عن التواصل معهم. أما الآن فهي تشعر بالرغبة في أن تلقي بنفسها في حضن ذلك العالم المتين العلاقات والزاخر بالحب، لكنها تشعر بأنها أصبحت مفسدة لدرجة أنها لا تتحمل حياة التعب.
الدنيا حرة ومتحركة، وتبعث على الانخراط فيها، ولكن أين هي أدوات النـزول إليها.
هكذا كانت تقول لنفسها.
وكانت حركة أفكارها تنتقل ما بين الفريج الشرقي والغربي..
وقلبها يضرب بقوة، فالموعد اقترب، وسيأتي لتصرخ في وجهه باحثة عن خلاصها.
كان مبتهجاً ونشوة السكْر في أوجها داخل مقلتيه، ولاحت علامات استنكار وإشفاق على الأشياء المحطمة على وجهه، وأراد أن يصرخ بها: «مجنونة»! وبدلاً من ذلك أخذ يقهقه، فقد أثاره منظر المرأة الغاضبة، حين شعر بقرب هبوب انقضاض رعدي لملم نفسه ورتّب أفكاره، فهو يعرف حالاتها هذه، التي أصبحت تزداد سوءاً، وكان في تلك اللحظة يشعر بالخوف من روح صيادي السمك المشاكسة التي انبعثت فيها.
وحين نظرت إلى وجهه الذي ترتسم عليه بقايا القهقهة بدا قوياً، إنه كل شيء: السيد صاحب النفوذ والثروة وولي نعمتها، وأخذت تتبدد وتفقد قواها المتجمعة.
شدّها من ذراعها، وكان يقاوم الخدر حين همس: «سآخذك غداً إلى طبيب نفسي، حبيبتي»!
1983م