جمعة الفيروز

الاختيار المفاجئ – جمعة الفيروز

إنه برغم ذلك اليوم، ومنذ لحظاته الأولى..

لا يوجد في أعماقي سوى أشياء غامضة، أستشعر نداء مجهولاً، ويتسرب في داخلي هتاف.. آتٍ من بُعد سحيق، وانقباضة في لحظات متقطعة، بل أحس بخوف بعيد عن منطق الأشياء ومسبباتها. أما نفسي فأرض موحشة يحيطها سكون المكان..

«ألمح حناناً خالداً في عينيّ زوجتي البريئة، وقد انتهيت لتوي من أول خاطرة كتبتها بعد توقفي بضع سنوات عن الكتابة، حسبي أن أرى زوجتي حتى يغمرني الوهم.. بالطمأنينة والحب..».

طرقات عالية تهتك سرّ الصمت.. الخوف المجهول تكثف كله في غصة انقبض لها قلبي، اقتحم الرجال الشقة، التفوا حولي، أجلاف، خشنون، وجوههم ذاب فيها أي انفعال مخيف، ونظرتهم ضاع منها المعنى.. أمسكوا بي.. ألمح أيديهم وقد مات جلدها.. زجوني على التراب..

«.. زوجتي الحبلى رفعت رأسها، فتحت فمها، احمرّ لون وجهها، صرخت وقد سقط كوب الليمون من يدها. سائل أصفر ينساب من بين رجليها المتسمرتين». ظللت واقفاً في تردد، شعرت بالحيرة تستولي عليّ حينما لم يسعني التعرف إلى أحد.. لم أعد أسمع سوى وقع الأقدام المتتابعة التي لا تهدأ، ثم الخطوات الأخيرة التي كانت قد توقفت في النهاية.

لقد كان عليّ أن أسأل، وهنا خانني صوتي وأشرت بيدي فلم أكن أدري لماذا يحدث كل هذا. وقبل أن أتعقب تسلسل أفكاري أمسك رجل بمقبض الباب فجأة ودفعه فانغلق في حركة خاطفة دافعاً إياي إلى خارج المنزل.

بعد المفاجأة جاءت ثورتي في السيارة المغلقة، أسكتها ضغط الأيدي القاسية. ونظراتهم التي لا تحتمل. قبعت في مكاني، ودار في رأسي أفضل ما يمكن عمله هو السكوت.. نظرت من خلال جزء ممزق من غطاء السيارة، كل شيء حولنا يتحرك بسرعة، لكننا ننطلق أسرع. لمحت جزءاً من سور الحديقة… «بجوارها كان أول لقاء مع زوجتي الحبلى..».

حول الحديقة أناس يسيرون هائمين وكأنهم منومون.. إنهم لا يدرون حتى لو صرخت فيهم، إنهم ولا شك مثلي لا يعرفون لماذا يحدث هذا معي، الأمر غامض تماماً بالنسبة لي ولا أعرف لماذا أو حتى من هم..!

لحظة.. استجمعت شجاعتي وحاولت أن أسأل.. عند هذا أخذوا يلوون رؤوسهم بعيداً.. عاد صمت مطبق، صمت قاتل. تمددت معه اللحظات إلى زمن طويل يصعب احتماله..

فجأة وقفت السيارة، دفعوني إلى تحت.. التفتّ لأقول أي شيء، وعندما هممت أن أفتح فمي كانت أسرع منه صفعة قوية أوقعتني أرضاً..

«.. كان هذا تنبيهاً بعدم الكلام..».

في غرفة بها آخرون دفعوني وأغلقوا الباب.. كأنني أعيش في كابوس مخيف غريب، وذلك الأمر قد فاق كل تصوراتي. كل شيء في المكان غارق في ظلام الحجرة الحقيرة، حيث كنت، وآخرون مكومين معاً، وكأننا قد اختزنّا في هذا المكان، ومعنا الحزن والأسى وذكريات بعيدة جداً، لا أعرف زمنها.. «كنت وزوجتي الحبلى ننتظر أول مولود. أحلامنا الكبيرة تسبق العمر سنوات. آمالنا به تداعبه وترعاه، والأماني كثيرة تواسيه..».

رغم كل الظروف فوجودي في وسط أناس لهم الظروف نفسها شيء يخفف وطأة القلق، ويدعو لشيء من الطمأنينة، مع أنه لا مجال للطمأنينة في هذا الوقت.. لكزت جاري وهممت أن أحدثه، لكنهم جاؤوا مرة ثانية وأخذوني. اضطررت إلى أن أسرع خشية أن أقع. التفت قدماي ووقعت.. ركلة سريعة جعلت وقوفي قفزة سريعة.. وأصبحت خطواتي.. قفزات حتى آخر الممر الطويل المؤدي إلى باب حديدي كبير.. ووجدت جسدي يصطدم بجسد يقف في الداخل، وأغلق الباب، ووقف الرجل أمامي ولم يتزحزح. كان يرتدي ملابس من قماش خشن ممزق. وجهه المستدير مليء بالنتوءات والبثور.. دس أنفه المدبب لصق أنفي.. أنفاسه العطنة لفحت وجهي.. أصبحت كحيوان فقد الحس. أخذ يلفني ببطء شديد بأنفه.. أتراجع إلى الخلف وكأنني تحت تأثير سحري غريب. ارتطم ظهري بالحائط. ما زالت تسيطر عليّ تماماً تلك الأنفاس العطنة التي ما زالت تلفح وجهي.. على جانبي الحجرة ينام آخرون على ألواح من الخشب ويسترون أجسادهم بقماش خشن. صوتهم ينبع من حلوقهم المختنقة في سباب وتهديد يصل إلى أذني في كل مكان.. من «دريشة» الباب عيون تنظر.. ضحكات هستيرية.. بتفكير لحظي استجمعت صحوة سريعة ودفعته واندفعت ناحية الباب تجاه العيون التي ترقبني. وُضعت قدم في طريقي انبطحت من أثرها على وجهي.. وأحسست بالدم الساخن يسيل على وجهي، حاولت.. أن أقف، ولكنني ترنحت وتهت في غيبة بعيدة.

كانت جفوني تترنح تحت عبء ثقيل، وقد تكومت في زنزانة صغيرة.. جدران الزنزانة تبدو كأشباح تقترب وتبتعد في تباطؤ. التساؤلات تتزاحم في داخلي واهنة والتفكير متقطع.. أصابعي تتحسس جسدي وتتلامس مع لزوجة الدم فتتداعى أمامي صورة باهتة..

«.. قطرات السائل الأصفر ممزوجاً بالدم اللزج تنساب من بين رجلي الزوجة الحبلى.. يتسرب ماء الحياة القابع في البطن المنتفخة..».

اقتربت أصوات خافتة، أعقبتها طرقات.. ثم فتح الباب. كنت أستند إليهم في خطواتي خلال الرواق الطويل.. كان لزاماً عليّ في هذا الوقت بالذات أن أحتفظ بعينيّ مفتوحتين.. صاح شخص وطلب مني في وقاحة أن أدخل بإشارة من يده، ترددت وظللت واقفاً جوار الباب ألمح الرجل الذي يجلس على مكتب وثير ويرتدي زياً أنيقاً. عندما رأى ترددي دفعني بقبضته، وعيناه لا ترتفعان عني، بينما كان يوجّه حديثه إلى الرجل الذي كان يدخن «السيجارة الطويلة» ويتصفح جريدة كانت أمامه…

رفع الرجل وجهه واعتدل في جلسته ونظر نظرة فاحصة وفجأة زعق فيهم وهو يلوّح بيده في الهواء:

غلط.. ليس هو.. قبضنا على الشخص المطلوب، أخرجوه!

كنت أغادر الحجرة، وأحد الرجال يقول بصوت خافت للرجل الأنيق:

– نعتذر له…؟

ردّ عليه في تباطؤ:

– لا.. ربما يعتادون على ذلك.

وقد وقعت الكارثة التي لم يتصورها أحد على أهل بيته، وكان الدم الساخن «.. قطرات السائل الأصفر ممزوجاً بالدم اللزج ينساب من بين رجلي الزوجة الحبلى.. يتسرب ماء الحياة القابع في البطن المنتفخة..».

1980م