Glogo

خطوط في جدار الزمن – خليفة شاهين

الضوء الأصفر الشاحب ينتشر على الجدران.. السطوح المبرقشة من كثرة ما تساقط عنها الجير تكشف عن الطلاء الأسود في أماكن متفرقة… بانت عليها تواريخ وأسماء متعددة، منقوشة بأشكال مختلفة.. أشعار وعبارات متناثرة هنا وهناك على تلك الجدران… وأنا متسلق على سرير حديدي وقد لففت رأسي بـ «فوطة»، وغطيت جسدي ببطانية قديمة لم تكن لتمنع البرودة السارية في أصابع رجليّ.. الصمت المميت يطبق على المكان، لا يقطعه سوى طنين ذبابة ملحاحة يدوي بالقرب من أذني، تحاول أن تحط على وجهي، فتتقلص عضلاته.. أزم شفتيّ لأنفخ عليها لكي تبتعد.. ويطبق الصمت مرة أخرى.. أجيل نظري في السقف الذي لم أستطع تحديد ارتفاعه. هو الآخر شاحب كضوء المصباح الكهربائي الذي يتدلى منه.. أركز نظري على كوة مغطاة بقطعة من السلك.. تشكل بقعة سوداء من الغبار المتراكم لسنين لا أعلمها على ثقوب ذلك السلك.. صوت وقع خطى ثقيلة يقطع الصمت، يتجه بصري تلقائياً إلى قطعة السواد المستطيلة التي تحدد اتساع الغرفة.. قطعة من الصفيح الثقيل سدت الثقوب التي في أسفلها ببقايا أرغفة يبست هناك.. يذوب وقع الخطى تدريجياً، ويعود الصمت يطبق على المكان.. أخرجت سيجارة من العلبة الموضوعة تحت رأسي، وضعتها في فمي، بقيت كذلك لفترة.. (سحقاً لهذا.. فلن أستطيع إشعالها.. يبدو أن الوقت متأخر.. فلن يأتي أحد ولو دَقَقت مستطيل الصفيح هذا بكل قوتي).. أبقيتها بين شفتيّ، وغطيت عينيّ بذراعي.. الظلام الدامس يمتد بلا حدود.. دوائر من ضوء تتقافز، تتداخل وتذوب في السواد اللا محدود.. تعود تتقافز وتتداخل.. تذكرت.. تذكرت.. (جالسة في المقعد المحاذي لي.. وأنا ممسك بعجلة القيادة.. يلفنا صمت جميل:

– هل ترغبين بالعودة إلى البيت؟

– لا .. وأنت؟

– بودي أن نبقى هكذا لفترة..

وعدت للصمت مرة أخرى.. انعطفت بالسيارة لأدخل حديقة الزوراء.. على مقعدين متجاورين من المقاعد المتناثرة بين الأشجار.. جلست مواجهتي.. مرت فترة صمت..

– أريد أن أسألك سؤالاً يحيرني من فترة طويلة..

– اسأل.

– هل تحبين؟

ارتسمت علامة خجل في عينيها.. قالت وهي تحدق في أصابع رجليها نعم..

– من؟ ..

ولم تطل الصمت: أنت.

بقيت جامداً في مكاني وأنا أنظر في وجهها.. قمت وفي ساقي رعشة فرح جلست بجانبها:

– لماذا لم تقوليها عندما فاتحتك بذلك؟

– كنت خائفة..

– من ماذا؟

– لا أدري..

وتشابكت أصابعنا بشكل متشنج.. وضعت رأسها على كتفي وهي ترسل عينيها بين الأغصان الخضراء التي تحجب الشارع… وبقيت أنظر إليها وألحظ أهدابها وهي ترتعش رعشات خفيفة..). لا أدري كم مرّ من الوقت، جفلت على صوت المزلاج الحديدي، وهو ينخرط من ثقبه لترتطم حافة الباب القريبة مني في الجدار بقوة.. بدا شكل بشري قميء في فجوته.. تكشف تكورات قميصه ذي اللون الكتاني الأصفر عن كرش مستديرة.. حليق الشعر كتلميذ مبتدئ في كلية الشرطة.. يعتري وجهه المنتفخ شحوب وجوه الموتى.. مدّ يده بطبق متّسخ:

– الفطار.. فول.. الأرغفة بعد قليل..

كانت السيجارة لا تزال في فمي وقد انكسرت.. رميت الجزء الأمامي منها وأبقيت عليها..

– هل تسمح.. أريد أن أشعل سيجارة..

دس يده في جيب بنطاله المهترئ.. شعرت بارتياح..

لا يوجد ثقاب معي.. في ما بعد..

وعاد الباب يرتطم مرة أخرى والمزلاج يعود إلى ثقبه في الجدار بصوت مزعج.

أحدث السرير صريراً وأنا أجلس عليه.. الطبق في يدي وضعته على الأرضية الأسفلتية، أخذت أنظر إليه وبقية السيجارة بين شفتيّ.. زممتهما وقمت.. بقيت واقفاً أجيل نظري في الجدار الذي يكاد يطبق على عينيّ، قرأت تواريخ.. عبارات.. أصعدته إلى الأعلى.. ارتطم بخيوط العنكبوت المتدلية، وذلك النور الأصفر الشاحب الذي لا يزال يصدر من المصباح المتدلي، نظرت مرة أخرى للجدار.. عبارات مكتوبة برماد السجائر بعد بله بالماء.. بالعصير الأخضر لعيدان الفجل والجرجير.. قرأت:

أسعد أيام العالم لم يأت بعد.

أجمل أطفال العالم لم يولد بعد.

وأنا لم أهمس لك.. بأحلى ما عندي بعد.

ظللت أردد العبارات، تنبهت إلى ذلك الصوت المزعج نفسه والشكل البشري القميء الواقف في فجوة الباب.. مدّ رغيفين.. تناولتهما.. أشرت له بيدي على بقية السيجارة في فمي، شعرت بالارتياح عندما أخرج علبة الثقاب من جيبه وأشعل منها عوداً.. أخرجت سيجارة أخرى.. أبقيتها مشتعلة وأنا أغمس قطع الرغيف في طبق الفول وأزدردها.. وضعت الطبق وبقايا الرغيفين قرب الباب.. عدت أسحب نفساً عميقاً.. وأنفث الدخان ببطء، تسللت الأشعة الصفراء شاحبة الدخان المنتشر أمامي.. تذكرت صباح أحد أيام الشتاء وأنا أنظر من خلف زجاج النافذة إلى رؤوس العمارات والمآذن قبل مغادرتي إلى الكلية.. يبدو مستطيل السواد.. الذي يقبع فيه ذلك الباب القميء.. من خلف سحابة الدخان كبقعة عميقة، نبتت الطحالب على صخورها في وسط ماء ضحل معكر.. أعود إلى سحب نفس آخر.. أنفث دخانه وأنا مقطب الحاجبين محاولاً رؤية ذرات الدخان بشكل أكثر وضوحاً.. ارتخت عضلات وجهي وأنا أتذكر (كانت تحمل رواية لمكسيم غوركي.. عندما دخلت:

سوف أسافر غداً..

جلست على مقعد في مواجهتي.. اختلجت شفتاها في رعشات خفيفة وهي تحدق في عينيّ.. ابتسمت وأنا أرفع حاجبي في حركة سريعة.. أطرقت تنظر في أقداح الشاي الموضوعة على طاولة صغيرة بيننا.. وساد صمت..

– ماذا تقولين؟

– سوف أنتظرك.. دخلت أمها..

– لماذا لم تذهبي للنوم حتى الآن؟

خرجت.. عندما قمت في الصباح لم أجدها في البيت. قبل أن أحمل حقيبة السفر كنت قد وضعت وردة حمراء من حديقة المنزل في جيب ثوبها المنزلي، المعلق على أحد المشاجب في غرفة نومها.. قالت في الرسالة التي استلمتها في ما بعد: «لم أستطع أن أرى لحظة الوداع.. إنك تغفر لي ذلك أليس كذلك؟». (بقيت الرسالة على الطاولة هناك عندما أتوا ليلتها ولم أكن بعد قد بعثت بالرد).. أصدر السرير صريراً حاداً وأنا أجلس عليه وأنفض رأسي في هزة عنيفة.. دسست قدمي في الحذاء الذي انثنت أجزاؤه الخلفية.. طرقت على الباب بأطراف أصابع يدي وهي ملمومة.. انتظرت قليلاً.. صمت.. عدت أطرق مرة أخرى.. أتى صوت كأنه يصدر من قبر مكتوم…

– كم؟

– واحد..

– ماذا تريد؟

– دورة المياه..

– في ما بعد..

انتظرت فترة صمت.. عدت أدق بأصابعي على ذلك المستطيل الأسود الذي تتخلله عبارات وتواريخ كتبت بقطع الجير المتساقط من الجدران.. صوت خطو يقترب.. المزلاج الحديدي يئن.. الشكل البشري القميء.. مع اختلاف في الملامح والملابس..

– ماذا تريد؟

– دورة المياه..

– أخرج..

الجدران الشاحبة نفسها مع امتدادات أطول.. أحد تلك الأشكال البشرية يجلس على كرسي في آخر الممر.. أشعة الشمس لا تكاد تغير من شحوب الجدران والوجه المشابه لها.. صوت صرير حذائه يصل أذني وهو يسير خلفي، أرمق المستطيلات السوداء ذات المزالج الحديدية.. (ترى ماذا يفعل الآن الذين خلف هذه الأبواب التي تبعث على الاشمئزاز؟). عندما خرجت كان واقفاً على باب دورة المياه.. صرير الحذاء خلفي.. استدرت عند الباب..

– أريد أن أشعل سيجارة..

مددت سيجارة له وعاد المزلاج ينخرط في الباب مرة أخرى… بقيت أنفث الدخان وأنا أحملق في الجدار.. قرأت: «إن الذين تحب رؤيتهم سيعتادون على فراقك.. فتعوّد أنت على فراقهم..».

رسمت خارطة لبلادي على الجدار مستخدماً أحد أظافر أصابعي، كتبت عليها الاسم والتاريخ.. استلقيت.. وأخذت أنظر إلى الكوة والمصباح المتدلي من السقف وأنا أنفث الدخان من بين أسناني.. غطيت عينيّ بالفوطة.. ورحت أرى الدوائر المضيئة تتقافز، وتتداخل في الظلام اللا محدود.. (صحراء.. رمال ناعمة على امتداد البصر.. أركض.. أتعثر.. أركض.. أتعثر.. أقع.. أركض.. ممرات جبلية.. صخور كأعمدة من ثلج.. أشباح تبرز وتختفي.. وادٍ سحيق.. أفاعٍ تلتف حول ساقي.. أجاهد لكي أتخلّص منها.. رجل يجري خلفي.. شارع طويل.. أجري.. لا تفرعات في الشارع.. أجري.. أختبئ.. في ظل جدار.. أسير في الظل.. الرجل يمشي على حافة الجدار من أعلى.. يحمل خنجراً في يده.. الصحراء تمتد أمامي.. الرمال تذروني وأنا أجري.. أركض.. أقع في بركة ماء تحضنها أشجار وارفة.. أعبّ من الماء وأنا أحتضن جذع شجرة.. أسقط في مجرى مائي..). فتحت عينيّ فجأة وأنا أزيح الفوطة من على وجهي في حركة تلقائية سريعة.. كان حلقي شديد الجفاف.. وبرودة تسري في جسدي وقد تجمعت حبات عرق حول عنقي.. والأشعة الصفراء الشاحبة تنبعث من المصباح المتدلي في السقف.

القاهرة – فبراير – شباط 1979م