علي العبدان

قصةُ الرجل الذي غيَّرَ بُرجَهُ الفَلَـكيّ

– هل أذهبُ أم لا؟

كان بَرْمانُ يُردِّدُ هذا السؤالَ في نفسهِ منذ أولِ الصباح؛ لأنه كان متردداً في الذهابِ لزيارة الطبيب في العيادةِ العامة، لكنه قرّرَ أخيراً أن يذهب، فقد اعتبرَ أن الوضعَ الذي هو فيه لا يُحتمل، أو ربما كان محتمَلاً كما كان يُفكرُ من جانبٍ آخَر، لكنه مع ذلك غيرُ مرتاحٍ أبداً في حياته، فهو لا يعرف:

آلأفضلُ أن يعملَ في وظيفةٍ عامة؛ أم يعملَ في التجارةِ كأبيه؟ إذ كان كلا الأمرَيْن لهُ منافِعُهُ ومخاطِرُه!

ولا يعرفُ كذلك: هل يتزوج؛ أم يبقى عازباً؟ فقد مضت سنواتٌ وهو يُقدِم على الزواج ثم يُحجم، مرّاتٍ ومرّات، حتى خلقَ حالاتٍ من الحَرَج الكبير بين عائلتهِ وعوائلَ أخرى في المجتمع!

بل إنه لا يعرف: هل عليه أن يُحبَّ أباه؛ أم يُبغِضَه؟ فقد أكرمَهُ أبوهُ كثيراً وأحسنَ إليه، كما أنه حَرَمَهُ كثيراً أيضاً، وعاملَهُ بقسوة!

وكان بَرْمانُ متردداً أيضاً في معنى الحب، ومعنى الحياة، ومعنى الوجود، وأمورٍ كثيرةٍ غيرِ ذلك، وكانت تلك الخواطرُ المتقابلة وغيرُها تطوفُ برأس بَرْمان بلا نهاية، وقد شغَلَت وَعيَه، فلم يَدرِ كيف وصلَ فجأةً إلى مبنى العيادةِ العامة، وهنا عادَ يسألُ نفسَه:

– هل أدخلُ أم لا؟

حين دخَلَ لقيَ الممرضة سُعاد؛ التي بَشَّت له مُرحّبةً كالعادة، وقالت:

– مرحباً بَرْمان، كيف حالُك اليوم؟ بخير إن شاء الله؟

– آه نعم، الحمدلله أنا بخير.. لا لستُ بخير. أريدُ أن أرى الطبيب.

– حَسَناً لا بأس، اجلس قليلاً كي أُجريَ لك بعضَ الفحوصات قبل أن تدخلَ إلى الطبيب.

ثم قالت له وهي تفحصه:

– لحُسنِ حظِّك أنّ العيادةَ خالية، وإلا كنتَ ستنتظرُ طويلاً. لِمَ لمْ تتصِلْ لتحجزَ موعداً؟

لم يُجِب بَرْمان، لكنه قال إنه اضطرَّ للمجيء دون موعد بسبب ازديادِ قلقِه، ولأنّ دواءَهُ أيضاً قارَبَ على النفاد. لم تُعلِّق سُعادُ بشيء، وبعدَ الفحص أدخلَته غرفةَ الطبيب؛ الذي بادرَ بَرْمانَ قائلاً:

– آه، السيد بَرْمان، كيف أنت؟ أرجو أن يكونَ الدواءُ قد نفعَك على نحوٍ ما!

– صباحُ الخير دكتور، في الحقيقة إن الدواءَ قد قارَبَ على النفاد، وقد..

– قبلَ ذلك أخبرني يا عزيزي؛ هل حَسَّنَ الدواءُ من حالتِك؟

– آا.. في الحقيقةِ نعم.. لا لا، أقصد؛ لا أدري إن كان حَسَّنَ من حالتي، ولكنهُ أراحني بعضَ الوقت، ثم عادت.. عادت الأعراضُ المَرَضيّة.

– إذن، لم ينفَعْك الدواء!

– بلى بلى؛ نفعني.. أقصد؛ إنه كان ينفعني أحياناً، وأحياناً لا.

– طيّب، وماذا تريدُ الآن؟

– كميةُ الدواءِ ستَنفدُ قريباً، وأريدُ المزيد.

– لا، لا يُمكنني إعطاؤك المزيدَ من هذا الدواء، لقد قلتُ لك من قبلُ إننا سنستعينُ به مؤقتاً فقط، فمن الخطر على حياتِك أن تستمرّ في تناوله، حتى إنني تجاوزتُ اختصاصي حين وصفتُهُ لك.

– ولكنْ..

– اسمع يا بَرْمان، أنا طبيبٌ عام؛ حاولتُ أن أساعدَك إلى هذه النقطة فقط، ولا أستطيع تجاوزَها. إن إعطاءَك المزيدَ من هذا الدواء فيه مسؤولية، والذي يُمكنهُ تحمّلُ المسؤولية هو طبيبٌ مُختصّ، أي طبيبٌ نفسيّ.

– طبيبٌ نفسيّ؟ لكنني لستُ مجنوناً!

– أنت لستَ مجنوناً، ولكنْ لا يوجدُ في عقلِك يقينٌ أبداً. ربما كان سببُ تردّدِكَ الدائمِ كثرةَ التفكير في العواقب؛ وخوفَك الكبيرَ منها.

– لستُ خائفاً من شيء.

– ألستَ خائفاً من نفادِ دوائِك؟

– كلا، أنا فقط..

– أنت مُصابٌ بِشَللِ إرادةٍ مُضاعَف.

– مُضاعَف؟

– نعم.

– إذن على الطبّ أن يفعلَ شيئاً.

– صحيح، ولهذا نصحتُك بالذهابِ إلى العيادةِ النفسية!

– لكن..

– اسمع يا بَرمان، أنتَ قابِعٌ في حَيْرةٍ أَبَديّة، ولن تستطيعَ الخلاصَ منها والعودةَ إلى حياتِك الطبيعية إلا بمساعدةٍ من اختصاصيّ، وهذا الاختصاصيّ هو الطبيبُ النفسيّ، فلا تأبَهْ ولا تستمعْ إلى مَن يقولُ بأن مَرضى الطبِّ النفسيّ مجانين؛ فمِثلُ هذا متخلّفٌ عن الطِبّ المعاصِر.

ثم قامَ الطبيبُ إلى بابِ غرفتِه، وفتحه قائلاً لبَرمان:

– هذا هو الحَلُّ الأخيرُ بالنسبةِ لك، فإن لم تقبل بهِ فتقبَّلْ ما يجري لك، وتصالَحْ مع نفسِك.

نظرَ بَرمان إلى الطبيب بدهشة، فقال الطبيب:

– هيّا، توكل على الله، وارضَ بقضاءِ اللهِ وقَدَرِه.

نهضَ بَرمانُ عن مقعدِه، وقال للطبيب:

– أأنتَ طبيبٌ أم شيخُ دين؟

ابتسمَ الطبيبُ وقال:

– انظر؛ إنك حتى مُتردّدٌ في ماهيّةِ وظيفتي، أرأيتَ أن كلامي صحيح؟ هيّا.

وفيما خرجَ بَرمانُ من الغرفة التفتَ الطبيبُ نحوَ الممرضةِ قائلاً:

– سُعاد، اعطي السيّدَ بَرمانَ ملفَّهُ الصحيّ؛ لأنه سيذهبُ إلى عيادةٍ أخرى. وأنت يا بَرمان؛ أرجوك أن تذهبَ إلى العيادةِ النفسية من أجل صحتِك ومستقبلِ حياتِك.

حين سمعت الممرضة هذا الكلام قالت:

– العيادة النفسية! هل هو مصابٌ بالأبولومانيا؟

– لا يا سُعاد؛ هو ليس مُصاباً بأيّ شيءٍ إن شاء الله، لكنّ الأمرَ أن العيادةَ النفسيةَ هي الجهةُ الاختصاصيةُ الأنسَبُ لمثلِ حالته.

غَمَز الطبيبُ بعَيْنِهِ للممرضةِ دون أن يراهُ بَرمان، ثم نفخَ مُتمَلِّلاً وأغلقَ الباب.

جلسَ بَرمانُ منتظِراً استلامَ الملفّ وقد تملّكتهُ كآبة، وحين انتهت الممرضة من إعداد الملفّ ألقَت إليهِ نظرةً أخيرة، فلَفتَ انتباهَها أمرٌ ما، فسألت بَرمانَ وعيناها ما زالَتا في الملف:

– سيّد بَرمان، أنت من مواليد الخامس من أكتوبر!

– نعم.

– إذن؛ أنت من برج الميزان!

– آه، نعم.. ربما.. لا أدري.

– بلى أنت من برج الميزان، وهذا يُفسِّرُ سببَ تردُّدِك الكبير في حياتِك، آه يا مسكين!

عجِبَ بَرمان مما قالت الممرضة، وفتحَ عَينيْهِ وأُذُنَيْه وهو يسألُها:

– كيف؟

– إن من طبيعةِ هذا البرج أن يكون مواليدُهُ مُتّسِمينَ بشيءٍ من الترددِ في السلوك.

– حقاً؟ ولكن يوجد كثيرون من هذا البرج بلا شك، وليسوا بالضرورة في مثل حالتي!

– نعم، هذا صحيح؛ فصِفاتُ البرج قد تكونُ في ذروتِها لدى أفرادٍ، وقد تكونُ دونَ ذلك لدى آخرين، ولعلّ الأمرَ يختلفُ حسبَ التربية، أو النشأة الاجتماعية، أو عواملَ أخرى نفسيةٍ وتعليمية.

كان بَرمانُ يستمعُ إلى الممرضة وهو ما زالَ مفتوحَ العينيْن تماماً، وبعدَ هُنَيْهَةِ صمتٍ سألَها:

– هل توجد أبراجٌ حازِمةٌ؛ وغيرُ متردّدة؟

ضحكت سُعادُ، ثم قالت:

– أنت تقصدُ مواليدَ الأبراج، نعم؛ يوجد!

– وما هذه الأبراج؟

– آه، لا أعرفُ على وجهِ الدقّة، لكنّ المشهورَ أن مواليدَ الأبراج الترابية هم الأكثرُ حَزماً وإقداماً.

– الأبراج الترابية؟

– نعم! مثل الثور، أو الجدي، أو العذراء.

– وما طبيعةُ بُرجي إذن؟

– بُرجُكَ هَوائيّ حسبَ ظنّي.

خرجَ بَرمانُ من العيادةِ وهو شارِدُ الذهن، وركبَ سيارته وهو لا يكادُ يُحددُ جهةً يذهبُ إليها، وقال في نفسِه:

– هل أذهبُ إلى العيادةِ النفسيةِ أم لا؟ كلا، لن أذهبَ إلى العيادةِ النفسية.. أو هل أفعل؟ كلا مرةً أخرى، لن أفعل؛ فماذا سيقولُ الناسُ عني إن فعلت؟ مجنون؟ معتوه؟ كلا، الأفضلُ أن أحاولَ الحصولَ على الدواءِ الذي يُريحني، نعم سأذهبُ إلى الصيدلية، ولكنْ.. كيف سيُعطيني الصيدليُّ الدواءَ دون وصفةٍ من طبيب؟ هل أذهب؟ نعم، لا بأس، سأذهب، إنه صيدليٌّ طيّب، وأعرفهُ منذ مدة، سيُعطيني الدواء، أنا متأكد، ولكنْ ماذا لو لم يُعطِني الدواء؟ لابد من أنْ يُعطيَني الدواء، وإلآ.. لا لا.

بهذه الأفكار وصلَ بَرمان بسيارتهِ إلى الصيدلية، وحين أوقفَ سيارته في الموقفِ العموميّ؛ تردّد؛ هل يدفع رسمَ الموقف أم لا؟

– إنني لن أتأخر في الصيدلية، فكلها دقيقتان وسأعود.

ومضى إلى الصيدلية، لكنه توقفَ في الطريق، وقال لنفسه:

– لعلّ الأفضلَ أن أدفعَ للموقف، فماذا لو جاء مراقبُ المواقف وسجّلَ مُخالَفةً عليَّ؟

وعادَ جهةَ المواقف لكي يدفعَ رسمَ الموقف، لكنه فُوجِئَ بوجود ورقةِ مخالفةٍ على زجاج سيارتِهِ الأماميّ، فندِمَ على ما كان منه، ثم عادَ نحوَ الصيدلية مرةً أخرى، وهناك لم يوافق الصيدليُّ بالرَغم من إلحاحِ بَرمان على بيعِهِ الدواءَ دون وصفةٍ طبية، وأوضحَ لهُ أن هذا ممنوع.

خرجَ بَرمانُ من الصيدليةِ ونفسُهُ مُكتئِبة، وجلسَ خلفَ مِقْوَدِ سيّارتِهِ حائِراً فيما يفعل، وشعرَ بالرغبةِ في الاتصال بالممرضةِ سُعاد، لكنه تردّد، ثم شعرَ بالرغبةِ في حديثٍ مع أحدِ أصدقائه، فخرجَ من السيارة، وبحث في الشارع عن هاتفٍ عموميّ، وحين عَثَرَ عليه قرّرَ أن يتصِلَ بصديقهِ وليد، لكنه تردّد، فهو لم يرَ وليداً منذ أشهُر، وقد يشعرُ بالحَرَج معه، ثم قرّرَ أن يتصِلَ بصديقه راشد، لكنه تردّد، فهو لم يرَ راشداً منذ شهورٍ كذلك، ووقفَ بَرمانُ أمامَ الهاتفِ حائراً؛ لا يعرفُ بمَن يتصل، ثم قرّرَ أن يتصِلَ براشد، وحين أرادَ تشغيلَ الهاتف بحثَ عن بطاقة الدفع فلم يجدها في محفظتِه، وكذلك لم يجد معه نقوداً معدنية ليدفع لجهاز الهاتف. بعدَ ثوانٍ من الحَيْرة؛ تركَ بَرمانُ الهاتفَ، وعادَ يمشي بتثاقُلٍ نحوَ سيّارتِه؛ لِيُفاجَأَ بصديقِهِ راشد ينتظرهُ بالقربِ من سيّارته؛ هو نفسُهُ الذي كان يريدُ أن يتصِلَ به منذ قليل، وحين رآهُ راشد قادماً ابتسمَ، وقال:

– بَرمان، يا صديقي القديم، كيف حالُك؟ رأيتُ سيارتَك هنا؛ فقلتُ لابد من أن أراك.

لم يُخبر بَرمانُ صديقَه بأنه كان يُحاولُ الاتصالَ به منذ قليل، لكنه اعتبرَ مَجيئَهُ هكذا إشارةً إلهية، فشعرَ بالراحةِ تغمُرُ نفسَه لأول مرةٍ خلالَ هذا اليوم، وبعدَ أن تبادلا التحيّاتِ والسؤالاتِ عن أحوالِ كلٍّ منهما؛ رَنَّ فجأةً جهازُ النداء الخاص براشد، فلمّا نظرَ في شاشتِهِ قال لبَرمان:

– أُمي تتصل بي على “البليب”، لعلها تحتاجُ إليَّ، اعذرني أخي بَرمان، في أمانِ الله.

– ولكنْ أنا بحاجةٍ إليك أيضاً!

قال بَرمانُ هذه الجملة عن عفْوِ خاطر، الأمر الذي أثارَ دهشةَ راشد، فقال لبَرمان:

– ولا يُهمّك يا عزيزي، زُرني في البيتِ عصرَ اليوم.

وابتسمَ راشد لبَرمان، وذهبَ إلى شأنِه، ومع حلول العصر، كان بَرمانُ قد قرأَ في إحدى المَجلات عن خصائصِ بُرج الميزان، وعن خصائص غيرهِ من الأبراج، وكان قد توصّلَ إلى فكرةٍ ما حين تذكرَ موعِدَهُ مع راشد، فأمسى مضطرِباً، وقالَ في نفسه:

– هل أذهبُ أم لا؟

وخرجَ من البيتِ وهو يُقلِّبُ أفكارَه، وانتبهَ فجأةً إلى أنه صارَ قريباً من منزل راشد، فتوقفَ وسألَ نفسَه:

– هل أزورُهُ أم لا؟

2

رحّبَ راشد ببَرمان وهو يقول له:

– لم أرَكَ منذ مدةٍ طويلةٍ يا بَرمان! تفضل بالجلوس.

وبعد احتساءِ الشاي، وبعض الأسئلة الاعتيادية؛ قال راشد:

– خيراً يا بَرمان، ماذا كنتَ تريدُ منّي؟

– كنتُ أريدُ الحديثَ معك، فأنا أحتاجُ إلى مَن أتحدثُ معه بصراحة.

– تفضل يا عزيزي؛ قُل ما بخاطِرِك.

– في الحقيقة.. لا أعرف ماذا أقول، أنا عندي مشكلة مع بُرجي.

– بُرجُك؟

– نعم، بُرجيَ الفَلَـكيّ.

– كيف؟

– أنا من بُرج الميزان، ومُصابٌ بالتردد بطريقةٍ غير محتملة، وغير معقولة بالنسبةِ لي. يقولون إن الترددَ سِمةٌ في مواليدِ هذا البرج، لكنّ الأمرَ أصبحَ في حالتي متطرّفاً. كم أتمنى أن أكون حازماً جازماً في اتخاذِ قراراتي مثل بقية الناس، مثلك أنت.

– أنا؟

– نعم، فقد لاحظتُ أنك لا تتردد في تصرفاتك واختياراتك، ربما منذ أن كُنّا في الثانوية.

– نعم، ربما هذا صحيح.

– ولعلك من بُرجٍ تُرابيّ؟

– لا، بل من بُرجٍ مائيّ، أنا من بُرج العقرب.

– آه، حَسَنٌ. إن ما يُحيّرُني هو كيف يؤثرُ البرجُ الفلكيُّ في المولود؛ فيُعطيهِ صفاتٍ محددةً في مدةٍ محددة!

– آه، لعلي أعرفُ الجوابَ عن هذا التساؤل، وهو أنه يُقالُ إن الظواهرَ الكونيةَ والفلكيةَ تؤثرُ في المخلوقات، فمثلاً حين يكتملُ القمرُ بدراً يرتفعُ ضغطُ دَم الإنسان، وتصعدُ بعضُ أنواع السمكِ إلى السطح، وتخرجُ القباقِبُ من مخابئها الشاطئية، كما أن اختلافَ مواقع الشمس والقمر يؤدّي إلى حصول المَدّ والجَزْر في البحر، وهكذا..

– هذه ظواهرُ عامة، تتعرّضُ لها المخلوقاتُ جميعُها، وأنا أسألُ عن السِماتِ الشخصية لمولودِ البُرج المُعيَّن!

– نعم، كنتُ سأصِلُ إلى الإجابةِ عن سؤالك، فالذي يحصلُ أن الجَنينَ حين يكونُ في بطن أُمّه يكونُ محجوزاً عن العالَم، فيكونُ تأثرُهُ بذلك قليلاً، ولكنْ حين يخرجُ من بطن أُمّه إلى العالَم فجأةً؛ ويكونُ وَليدَ ساعتِهِ؛ فإنه يتعرّضُ لمستوىً معيَّنٍ من الضغطِ الجَوّيّ، والذبذبات، والحرارة، والضوء، ومقدار الجاذبية، والمَسْمع الطبيعيّ، أو تردّدات الأصوات؛ وغير ذلك من الظواهر الطبيعية الفاعلة في وقتِ ميلادِه، أي في وقتِ البُرج الذي وُلِدَ فيه، وعندئِذٍ يتطبّعُ المولودُ بطوابعِ ذلك البُرج في حِينِه.

نظرَ بَرمانُ بدهشةٍ إلى راشد؛ الذي مضى يقول:

– وهكذا أنت ترى أنه لكي يتطبّعَ الإنسانُ بسِماتِ بُرجٍ ما إلى الأبد؛ لابد أن يكونَ خارجاً للتوّ من بطن أُمّه، بحيث يتعرّضُ لأول مرةٍ للظروفِ الكونيةِ عارياً وقتَ ولادتِه، وإلا فالجميعُ تحت السماء.

اتسعت عينا بَرمان وهو ينظرُ إلى راشد، وهَزَّ رأسَهُ قليلاً، ثم أطرَقَ يُفكر، فيما أخذ راشد يصبُ الشايَ مُجدَّداً لهُ، وهو يقول:

– أهذا ما كنتَ تُريدُ منّي؟

– في الحقيقة، أنا أريد.. كلا، أنا أريد أمراً آخر.

– ما هو؟

– أريدُك أن تُساعدَني في تغيير بُرجي.

– تغيير بُرجِك؟!

– نعم!

ضحك راشد وهو يقول:

– ولكن؛ كيف يمكن هذا؟

أجابَ بَرمانُ وعَيناهُ تلمعان:

– إنهُ أمرٌ بسيطٌ جداً، أعودُ إلى مثل الوضع الذي كنتُ فيه جنيناً، ثم أخرجُ فجأةً في يومٍ يُصادفُ زمنَ بُرجٍ آخرَ، فتؤثرُ فيَّ سِماتُهُ وطبيعتُه!

– لكنّ هذا غيرُ ممكن، فكيف ستعودُ مثلَ الجنين ثم تخرجُ إلى الدنيا؟ هل تمزح؟

ارتبك بَرمانُ قليلاً، لكنه قال:

– لا، لا أمزح، أنا جادّ.

وبعد ثوانٍ من الصمت قال راشد:

– بغضّ النظر عن إمكانيةِ هذا الأمر؛ لماذا تقومُ بهِ أصلاً؟

– لقد أخبرتُك بأنني مُصابٌ بالتردد بطريقةٍ غير محتملة، بل إني أُعاني من حالةِ الشلَل الإراديّ المُضاعَف كما وصفها الطبيب، ولأنني من برج الميزان؛ فحالتي متطرفةٌ ومُقلِقةٌ إلى درجةِ أنهُ لا يمكنني أن أعيشَ حياةً طبيعية، فلعلّي لو تغيّرَ بُرجي أن أكونَ أفضلَ حالاً، وهذه آخِرُ محاولةٍ لي؛ وإلآ..

– وإلا ماذا؟

– لا.. لا يهم، المهم الآن أن أقومَ بمحاولة تغيير بُرجي، وأريدك أن تساعدَني في ذلك لو سمحت!

– وكيف أساعدُك؟

أخبرَ بَرمانُ راشداً بكيفيّةِ مساعدتِهِ، ثم مضى من فَورِهِ إلى أحدِ معاملِ النسيجِ في المدينة؛ فطلَبَ منهم صُنعَ حقيبةِ نومٍ خاصة، يُمكنُ لها أن تتقلَّصَ إلى أدنى حَدٍّ إذا سُحِبَ طرَفُها بحبل، كما قَصَدَ إلى محلاتِ الميناء؛ فاشترى آلةَ طَيِّ الحِبال التي تُستعملُ على أسطُحِ السُفُنِ واليخوت لسحب الحِبالِ وطَيِّها، وحين حصلَ على ذلك كلهِ انتظرَ حتى وافقَ التاريخُ ليلةَ الخامس من مايو، وهو تاريخٌ يُصادِفُ قلبَ بُرج الثور الذي قرأَ عنه كثيراً، وعرَفَ أن مواليدَهُ هم أكثرُ الناسِ عَزماً وحزماً، فاتصلَ بصديقهِ راشد، وطلبَ منه الحضورَ إلى منزلِه. وحين حضرَ راشد اصطحَبَهُ بَرمانُ إلى سطح البيت، حيثُ وضعَ حقيبةَ النوم وآلةَ طَيِّ الحِبال، وحين أَمْسَيا تحتَ السماءِ الحالِكة قال راشد:

– هل أنتَ متأكدٌ مما تفعلُ يا بَرمان؟

– نعم نعم، بل إنني أشعرُ للمرةِ الأولى في حياتي بعدم التردد.

– حسنٌ، واللهِ إنني سعيدٌ لأجلِك وأتمنى لك الخير. هل نبدأ الآن؟

– نعم؛ فهل تعرفُ ما ستفعل بالضبط؟

– حسبَ توجيهاتِك؛ ستتعرّى أنتَ تماماً كيومِ وَلَدتكَ أُمُّك، ثم ستدخلُ في الحقيبة وكأنها.. أرجو المعذرة؛ وكأنها رَحِمُ الأم، أليسَ كذلك؟

– بلى بلى!

– ثم سأقومُ أنا بطَيِّ الحبلِ المعقودِ بطرَفِ الحقيبة؛ كي تنضغِطَ أنت، وتُصبحَ كالجنينِ في بطنِ أُمِّه، أليسَ كذلك؟

– بلى بلى!

– أضغطُكَ ضغطاً.

– نعم نعم!

– ثم إذا وصلتَ إلى حَدٍّ لا تحتملُ فيهِ مزيداً من الضغط؛ أُفلِتُ الحبلَ، وتخرجُ أنتَ في ظرفِ هذا الوقت الذي يُصادِفُ بُرجَ الثور، أليسَ كذلك؟

– بلى بلى!

– واللهِ إني أُحبّك يا صديقي، وأتمنى أن تنجحَ خِطتُك!

– ستنجح، لا تَخَف، التزم بالخطةِ فقط!

– توكلنا على الله.

تعرّى بَرمانُ، ثم دخلَ في الحقيبة، وأغلقها عليه، وطلبَ من راشد أن يبدأ في سَحبِ الحبل بواسطةِ الآلة، وقامَ راشد بما طُلبَ منه، وكان كلما سحبَ وتقلَّصت الحقيبة يتوقفُ قليلاً كي يطمئِنّ على بَرمان، لكنه مع تشجيع بَرمان أخذَ يسحبُ ويسحبُ حتى تقلّصت الحقيبة كثيراً، وصارت كالكُرة، واستمرَّ في السحبِ إلى أن سمِعَ صوتاً غريباً صادراً عن ضغطةٍ قوية، فتوقفَ، وصاحَ في بَرمان قائلاً:

– هل أنتَ بخير؟

– نعم نعم، لا تخشَ شيئاً، كان هذا صوتاً عابِراً!

– أخشى أن أستمِرَّ في السحب؛ فتختلِفَ أضلاعُكَ دون أن أشعُر!

– لا عليك، إذا تضايقتُ كثيراً سأُنبِّهُك.

– طيّب!

واستمرَّ راشد في السحبِ حتى تقلَّصت الحقيبةُ تماماً، وسمعَ حشرَجةً، وصوتاً أبحَّ كصوتِ الوَحش يقولُ لهُ:

– توقف، توقف!

تركَ راشد الحبل، ونظَرَ إلى الحقيبةِ التي تمزَّقت فجأةً، وظهرَ منها بَرمانُ عارياً يتمطّى من الألَم، كأنهُ جِنّيٌّ خرجَ من مصباحٍ سِحريّ، ومع ذلك ارتسَمت ابتسامةٌ على مُحيّاه وهو ينظرُ إلى نجوم السماء.

أسرعَ راشد إلى صديقهِ بملابسِهِ، فارتداها بَرمانُ وهو يتمايلُ من أثَر الضغط، وقال راشد:

– ها.. بَشِّرْ؛ بِمَ تشعُر؟

قال بَرمانُ بفَخر:

– أشعرُ بأنني وُلِدتُ من جديد، وها هي طاقةُ بُرج الثور تَملأُني.

فقال راشد:

– حسنٌ، فلْأَختبرْكَ كما اتفقنا؛ لِنرى إنْ كنتَ ستترَدَّد.

– اختبِرْ، ولا يُهِمُّك شيء!

– هل تريدُ لعشائِكَ صحناً من الكبابِ أم شطيرةَ مُربّى؟

– صحنَ كبابٍ بلا تردُّد!

– عظيم! وهل تريدُ مع العَشاءِ “كوكتيلاً” أم شايَ أعشاب؟

– أُريدُ “كوكتيلاً” بلا شك!

– جميل، وهل ستدعوني معكَ إلى العشاءِ و”الكوكتيل” أم لا؟

– وهل هذا سؤالٌ يا راشد؟ طبعاً أنتَ معي في هذه الليلةِ المباركة. الحمدلله، أشعرُ الآن بارتياحٍ كبير، وبثقةٍ أكبرَ من كلِّ عيادةٍ نفسيّة.. أقصِدُ أكبرَ من كل شيء، لقد تمكّنتُ أخيراً من تغيير بُرجيَ الفَلَـكيّ.

– الحمدلله!

بعدَ العَشاء؛ ودَّعَ برمانُ راشداً شاكِراً إيّاهُ على وقفتِهِ معه، وإذ كان يُعاني من التجرِبةِ التي قامَ بها؛ ومن الأكل بِنَهَمٍ شديدٍ بعدَها؛ نامَ كطفلِ صغيرٍ أنهكَتهُ تجرِبةٌ جديدةٌ في هذه الحياة.

في صباح اليوم التالي شعرَ بَرمانُ بشعورٍ يعرفهُ جيّداً، فقالَ في نفسِه:

– هل أذهبُ إلى الصيدليةِ أم لا؟ ولكنْ.. كيف سيُعطيني الصيدليُّ الدواءَ دون وصفةٍ من طبيب؟ هل أذهب؟ نعم، لا بأس، سأذهب، إنه صيدليٌّ طيّب، وأعرفهُ منذ مدة، سأُقنِعُهُ هذه المرة، أنا متأكد، ولكنْ ماذا لو لم يُعطِني الدواء؟ لابد من أنْ يُعطيَني الدواء، وإلآ.. لا لا.

قصةُ الرجل الذي غيَّرَ بُرجَهُ الفَلَـكيّ