لقمان شطناوي

جماليات المكان الصحراوي

رواية «نزيف الحجر» لإبراهيم الكوني نموذجاً –
د. لقمان شطناوي

      مدخل

يعد المكان عنصراً جوهرياً في تشكيل فضاء العمل الروائي وفي الكشف عن رؤية الأديب للإنسان والبيئة، كما أنّه يسهم في إضاءة الحدث والشخوص وبلورة تصور عن الحياة والمجتمع.

يبتكر الروائي المكان ويرسم حدوده بريشة الفنّان الخلّاق المبدع، ثم يدع القارئ يعيش عوالمه الرحبة ويتعرف على دقائقه وتفاصيله، وبقدر ما يحسن الروائي التصوير الصادق للبيئة فهو قادر على إشعار القارئ بواقعية روايته وصدق وجودها، وهذا مما يعزز العلاقة التي تربط النص بالمتلقي فتدفعه إلى محاولة تلمس الرؤية التي يصدر الكاتب عنها.

ولقد تتعدد الوظائف التي يقدمها المكان؛ فهو ليس مجرد حلية جمالية فحسب؛ إنّه يقدم إيحاءات ودلالات مختلفة تفرض حضورها الواضح في النص، لا سيما إذا استطاع الكاتب أن يقدم لنا مكاناً متميزاً مالكاً لسماته الخاصة وحدوده المستقلة.

ويمكننا أن ندرك هذه الدلالات من خلال العلاقات الجمالية والعضوية والروابط والمكونات التي تشكل نسيج العمل الروائي وعناصره.

في رواية «نزيف الحجر» للروائي الليبي إبراهيم الكوني تطالعنا البيئة الصحراوية مكاناً متميزاً ببدائية الحياة وبساطتها وبجمعها للتناقضات الحادة وبلورتها لعالمها المستقل في طقوسه السحرية ومناخاته المتقلبة الغامضة، وفي تجسيدها للأوجاع والآلام التي يعيشها إنسان الصحراء في سعيه وراء الكلأ وهروبه من شبح الجدب إلى استنزال الغيث، والفرار من القيظ والحر اللافح والمجاعات المتكررة إلى روح الأمومة وبذرة الخير فيها، وفي الأمل أن تعود الحياة لتدب في أرضها من جديد.

تقدم لنا هذه الرواية علاقة العشق الخالص التي تجمع ابن الصحراء ببيئته ولتصل في واحد من أهم أبعادها إلى درجة الحلول والتوحد.

وستحاول هذه الدراسة أن تعالج أبرز الدلالات التي يقدمها المكان الصحراوي في الرواية في محاولة لوصف المكان وإظهار جمالياته، وبيان دلالات المكان المفتوح والمكان المغلق؛ وأثر ذلك في رسم وتحديد ملامح الشخصيات وبيان العلاقة الوثيقة بين الإنسان والبيئة، ولتخلص في النهاية إلى الإفصاح عن الدور الذي مارسه المكان في بيان الرؤية والموقف العام من قضايا الطبيعة والإنسان والحياة.

صورة المكان.. جماليات الوصف..

  مع الصفحات الأولى من الرواية ينكشف المكان الصحراوي الذي تدور فيه الأحداث، وتبدأ عملية إماطة اللثام عن معطيات المكان من خلال استخدام تقنية عين الكاميرا في محاولة للإيحاء بالمكان من جانب وإضفاء الحياة على المشهد الميت من جانب آخر(1). ويبدو التقاط صورة المكان من القمة وتحديداً من أعلى نقطة في وادي متخندوش (2)، ثم تنحدر الصورة لتتبين معالم المكان ومكوناته «الصخرة العظيمة تحد سلسلة الكهوف، وتقف في النهاية كحجر الزاوية لتواجه الشمس القاسية عبر آلاف السنين» (3)، هذه الصخرة التي هي وكما يقول أسوف «أهم صخرة في وادي متخندوش» (4)، تظهر هذه الصخرة باعتبارها بؤرة المكان التي يتم تسليط الضوء عليها؛ فهي المكان الذي يؤدي أسوف صلاته في مواجهته، وهي الحد الفاصل بين وادي متخندوش وآينسيس ليلتقيا معاً عبرها، كما أنّها تحد سلسلة الكهوف، زينت بأبدع الرسوم التي وضعها إنسان ما قبل التاريخ «على طول الصخرة الهائلة ينهض الكاهن العملاق، يخفي وجهه بذلك القناع الغامض ويلامس بيده اليمنى الودّان» (5).

لقد لخّص لنا هذا الوصف للصخرة الصورة الحيّة التي يتحلى بها المكان معتمداً في تقديم الصورة على اللغة الشعرية العالية الكثافة، لقد صوّر الكوني المكان عبر عبارات قليلة لكنها كانت كافية لتكشف أسرار عالم خاص له مميزاته وأسراره وأشخاصه ومكوناته؛ الكهوف وما تحويه من رسوم تعطي للمكان دلالات القدم والعراقة والتجذر وهي كذلك مصدر لنمو الأسطورة وحكايات الجن والعفاريت، وهذه أبعاد ارتكزت عليها الرواية، في تكرار مستمر لعبارة عبر آلاف السنين.. والصخرة ذاتها حد فاصل لسلسلة الكهوف، ثم هي نقطة التقاء بين النهرين وفيها تظهر صورة الماضي بحضاراته الغابرة، لتجسد العلاقة التي جمعت الإنسان بالأرض والكائنات الموجودة حوله، وحين نتتبع صورة الصخرة عبر صفحات الرواية نجد أنها تمثل حدّاً فاصلاً بين الحياة والموت ماثلة كحجر الزاوية عند أعلى نقطة في الوادي؛ فهي الصخرة ذاتها التي يموت تحتها والد أسوف في صراعه مع الودان (6)، وهي الصخرة ذاتها التي يصلب عليها أسوف على يد قابيل (7)، إنّها الصخرة التي تنزف الدم لتتحقق النبوءة وتولد المعجزة (8).

واللغة الشعرية الموحية والرمزية المكثفة تظل وسيلة الكاتب في تشكيل معالم المكان وتوظيف أركانه للتعبير عن الدلالات المختلفة ويمكننا تبين ذلك في قول أسوف وهو يصف الصحراء «الصحراء كنز، مكافأة لمن أراد النجاة من استعباد العبد وأذى العباد، فيها الهناء، فيها الفناء، فيها المراد» (9)، إن مثل هذا المقطع لينقل لنا من الإيحاءات أكثر مما يمكن أن ينقله أي مقطع وصفي يقف على الأشياء ذاتها، فهكذا تظهر الصحراء مصدراً للحياة وتعبر عن معناها العميق بما يجتمع داخلها من جملة التناقضات.

ولا يخفى المعنى الذي يمكن أن توحي به أسماء الشخصيات فقابيل الذي كان يمثل الجانب السلبي في الرواية هو نقيض لأسوف الذي كان يمثل الخير والانحياز للصحراء، فكان كثير التأسف والتحسر على الحال الذي وصلت إليه ممن أتاها طمعاً بصيد حيواناتها أو سرقة آثارها، وفيما تكشف شخصية أسوف عن العلاقة اللحمية التي تجمعه بالصحراء يظهر قابيل ليمثل جانباً آخر وليترك كلامه مساحات واسعة للتأمل؛ فحين يسأله أسوف إن كان قد جاء لمشاهدة الآثار، يجيبه قابيل «الآثار، وما عسانا نفعل بالآثار.. ألا تعرف أننا بحد ذاتنا آثار تزار، فهل رأيت أثراً تهمه الآثار» (10)، وفي هذا القول إيحاء بدلالات الغياب والعزلة وفقدان الإرادة والشعور باللامبالاة وبالطمع كذلك، أما المعنى البعيد الذي يمكن أن نستشفه من وراء هذه العبارة فهي الدلالة على عراقة المكان وقدمه وإلى أشكال التدخل الخارجي التي أخذت تغزو الصحراء.  

ومن عناصر التشكيل الجمالي التي أسبغت على المكان حيوية، وأسهمت في استثارة الأحاسيس والمواجد الكامنة تلك الصورة التي ترسمها الرواية لعالم الصحراء، حيث يختلط العالم الواقعي بالأسطورة والغرائبية، ويصبح الخيال ركناً هاماً في نقل القارئ عبر الفضاء الصحراوي ليجوس أركاناً مجهولة وغريبة ومثيرة.

وقد حمّلت الرواية الأسطورة وظيفة تفسيرية فضلاً عن الوظيفة الجمالية، يبرز ذلك حين حاول والد أسوف إخباره عن سر العلاقة التي تربط الودان بالجبل وتربط الغزال بالسهل (11)، وفي هذا الوصف يتم تجسيد المكان بصورة الكائن الحي الذي يحيا عبر طقوس حلولية تشترك فيها الآلهة الأسطورية.   

وينقل الكوني وصفاً للمكان يتشكل من خلال لوحات مفعمة بالألوان والخطوط التي تعكس الأثر الناجم عن الحدث؛ ففي بحث أسوف عن والده وتتبعه لأثر المعركة التي وقعت بين والده والودان «قضى أيّاماً يقتفي الأثر.. وجد بقع دم لوثت الأحجار.. سقطت قطرات متباعدة على الرمل في قلب الوادي.. الآثار تظهر وتختفي وتنحرف يساراً ناحية السفح المغطى بطبقة الأحجار الشرسة السوداء» (12).  

وكما استخدم الألوان والصور البصرية فإنه يستخدم الرائحة لتعكس جانباً من شعوره تجاه المكان؛ فعندما يصعد أسوف الجبل باحثاً عن والده «ركض عبر الوادي الضيّق المخنوق بين الجبلين وهو يلهث، ظلال القمّة المشؤومة تخترق المضيق الضيّق، انحرف يساراً وصعد السفح الشرس في وثبات سريعة، خيّل إليه أنَّ رائحة غريبة غزت أنفه، فجأة قفز قلبه واستولى عليه الغثيان والصداع.. ازدادت الصخور ارتفاعاً وحِدَّة وسواداً، كلمّا اقترب من القمّة في صعوده الجنوني.. ازدادت رائحة العفن» (13).  

لقد تضافرت الصورة الحركيّة واللونية مع استخدام حاسة الشّم في إضفاء الصورة الحيّة على المشهد وبما يوحي بمشاعر الشخصية وأفكارها، إذ ليس الوصف المضاف للمكان إلا وصفاً للمشاعر التي كانت تسيطر على شخصية أسوف؛  فالمضيق الضيّق هو نظير الإحساس بالضيق والقمة المشؤومة وجه مقابل لتشاؤمه، والسفح الشرس هي صورة للخوف من ألم منتظر وواقع يخشى مواجهته ، ثم ومع اقترابه من معرفة مصير والده تلوح أمامه رائحة غريبة وهي غريبة لأنه لم يصل بعد إلى إدراك العلاقة بين شعوره والواقع.. ثم يزداد ارتفاع الصخور وحدتها وسوادها وتزداد معها رائحة العفن فيكون ذلك كافياً لينقل إليه الخبر قبل أن يبصره عياناً.

ويميل الكوني إلى أنسنة الجمادات في محاولة لإضفاء الحيوية على المكان؛ لتبدو الأشياء متحركة نابضة بالحياة مطبوعة بطبائع البشر وأحياناً بطبائع أسطورية «كان يرعى القطيع في جنوب وادي متخندوش حيث حفرت مياه الأمطار والسيول خنادق عميقة قبل أن ينحرف الوادي يميناً ويغيب في الجبال الغريبة العالية ذات الصخور العمودية التي تقف كالأشباح تحرس الصحراء الحجرية وتراقب الطلح في الهاوية» (14)، وفي وصفه للشمس في الصحراء تتجسد الشمس في صورة آدميّة حيّة وهي تميل نحو الغروب «تزحزحت الشمس عن العرش وبدت عليها مسحة الهزيمة وهي تنكسر نحو الغروب ، وفي لحظة الانكسار تبدو الشمس دائماً مهمومة حزينة، ربّما لأنها تودع الصحراء إلى مثواها اليومي الخالد» (15)، وفي المشهد الختامي الذي تصور فيه الرواية موت أسوف على يد قابيل يسهم المكان في الإفصاح عن  الحدث بل المشاركة فيه وإظهار ردود الفعل، الأمر الذي يأخذ القارئ للتفاعل مع الحدث والوقوع تحت تأثيره  في مشهد يتتبع التفاصيل الدقيقة ويرصدها بعناية بالغة حتى تتحد الصورة الحية بالصورة المرسومة على الجدار «وقف قابيل تحت قدمي أسوف المعلق في الجدار الصخري… جسده محشو في جوف الصخرة يتحد بجسد الودان، قرنا الودان يلتويان حول رقبته كالأفعى، ما زالت يد الكاهن المقنع تلامس منكبه كأنها تبارك الطقوس الخفية.. لوح قابيل بالسلاح في الهواء مهدداً… انحنى فوق رأس الراعي المعلق، أمسك به من لحيته، وجر على رقبته السكين بحركة خبيرة.. استجابت الجنيّات بالنواح في الكهوف، وتصدّع الجبل، اسودَّ وجه الشمس وغابت ضفتا الوادي في متاهات الأبدية» (16).

إنَّ أنسنة الجمادات وتحريكها واللجوء إلى التشخيص والاستعارات والمجازات والإكثار من استخدام الأفعال التي تتراوح بين الماضي والحاضر إضافة إلى الربط بين المكان المركزي (الصخرة)، بالجنيّات والكهوف والجبال والشمس والوادي والمتاهات الأبديّة أضفت الحياة على المكان وجسدت التفاعل الحيوي الذي جمع الإنسان بالطبيعة وكائناتها، والتي بدت في إحدى تجلياتها بديلاً ونقيضاً لعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان.

المكان الصحراوي والإنسان…

 لقد استطاع الكوني أن يصور لنا العلاقة التي جمعت بين المكان الصحراوي والشخوص وأن يبين كيف أثَّر المكان في سلوكيات الأفراد وردود أفعالهم، كما رسم لنا صورة متميزة وجليّة للصحراء بكل تفاصيلها، فيما كانت الشخصية الرئيسة «أسوف»، تمثل وجهاً آخر للصحراء فتعكس شخصيته طبيعتها المزدوجة ومناخها المتقلب.

شخصية أسوف تمثل حالة الفطرة الإنسانية تجاه المكان الصحراوي؛ فهو المكان الذي عاش فيه طفولته وصباه؛ ولذلك فتفاصيل هذا المكان تتشكل في ذاته بألفة وحميمية تجعله لا يرى في هذا المكان الذي يحمل السمة الأمومية ما يدعو إلى النفور أو الإحساس بالبغضاء أو الضيق «أجلسه قابيل بينهما، كان يمسح العرق عن جبينه ويلعن الصحراء بألفاظ بذيئة سمعها أسوف لأول مرة، أول مرة يسمع رجلاً يتلفظ بالعبارات البشعة ولم يفهم أي ذنب ارتكبته الصحراء حتى تستحق هذا السباب» (17). 

وحتى حين يقسو عليه المكان ويقف على مشارف الموت وهو يتدلى على حافة الهاوية كان الخوف من الموت نظيراً للخوف من فقدان الصحراء «سيختفي كل شيء، ستغيب الصحراء الأبدية، ما أقسى أن تغيب الصحراء، كيف سيتحمل فراق الصحراء، أسوأ شيء بعد عذاب الولادة ألا يشاهد الصحراء الخالدة حتى تختفي في رحاب الله» (18).

إن أسوف محب للصحراء وعاشق لها وقد أكد العلاقة مع المكان من خلال إقامته في الخلاء حارساً للرسوم التي خلّفها الأسلاف، وتصل حالة العشق مداها الأقصى لتبلغ درجة التوحد بالأرض وارتضاء الموت في سبيلها.

وتتجسد العلاقة بين الإنسان والطبيعة بشكل بارز حين يتماهى أسوف بالودان في تحول غرائبي «روى لهم الشباب فقالوا إنَّهم رأوا المعجزة، لأول مرة في حياتهم شاهدوا إنساناً يفلت من الأسر ويتحول إلى ودان يعدو نحو الجبال يتقافز فوق الصخور في سرعة الريح غير عابئ بخطر الرصاص الذي ينهال عليه من كل جانب، فهل رأيتم إنساناً يتحول إلى ودان» (19).

لقد خرج أسوف من صحرائه التي أحب والتي كانت وطناً لا يستطيع مفارقته واتجه نحو الواحات، كان خروجه تعبيراً عن الضيق والمعاناة بسبب ما أصاب الصحراء من فيضانات فَقَدَ فيها كل ما كان يربطه ببيئته؛ فقد ماتت قطعان الماعز، ولم يلبث غير يسير حتى فقد والدته جرّاء الفيضانات التي اجتاحت الصحراء، ويبدو موت والدة أسوف على قسوته اتحاداً مع موجودات الطبيعة؛ فيقيم لها عبر مرتفعات الوادي الطويل خمسة قبور على مسافات متباعدة، إنَّ موتها ناجم عن التغير الذي يطرأ على الطبيعة بفعل العواصف والأمطار التي لم تزر الصحراء منذ سنين؛ لذا فإن أرجاء المكان قد اهتزت وتحركت لتترك أثرها في الجسد الحي «قبل الجفاف أغرقت السماء أودية الصحراء بسيول، تلك السيول التي فاجأتهم وجرفت العجوز من الكهف ليجد بقاياها في أبرهوه بعد ثلاثة أيام؛ مزّقت الأحجار أعضاءها في تلك الرحلة الطويلة، الرأس المهشم عارٍ من الشعر، الأشجار نتفت الشعيرات الفضيّة القصيرة على رأسها الصغير… العين اليمنى سقطت، التهمتها الأحجار في رحلة وحشية وبقي مكانها شاغراً فاغراً فاه، المقلة الأخرى تلمع وتحدق في السماء، وجد مع الرأس جزءاً من الرقبة تعلوها طبقة من الطين، الطين تيبس على الدم… اليد اليمنى ما زالت تمسك بأشواك الطلح قبل أن تتسلخ عن بقية الجسد» (20).

موت الأم بهذه الطريقة وعلى قسوته يمثل نوعاً من التلاحم والانغراس بالأرض والتمسك بها. وبعد هذه الفيضانات تتحول الصحراء إلى مكان معادٍ وجحيم مستعر يغتال البشر والحيوان «الجوالون وتجار القوافل قالوا إنهم رأوا الغزلان تعبر حدود تاسيلي طويلة قاسية تقطع المناطق المفروشة بذلك السجاد الفظيع من الأشجار السوداء، قالوا أيضاً إن آثار الدماء في كل مكان لأن الأشجار الشرسة السوداء نهشت نصيبها من الغنيمة وسلخت حوافر القطعان بوحشية» (21).

إن هذا التغير الذي اعترى المكان هو جزء من طبيعة الصحراء، ويعرف أسوف هذه الطبيعة فيها فحين يرحل عنها عقب الفيضانات يرى في رحيله إلى الواحات نوعاً من التنازل عن كبريائه، لذا فإنه ظل يحاول أن يجد في المكان الجديد بديلاً يعوض فقدانه الثقة بالمكان الأم، ولكن الرحيل لم يزده إلا تعلقاً بالأرض وحنيناً إليها، لقد ابتعد عن أرضه فكان ذلك سبباً لشعوره بالتعاسة حتى بدت له الأماكن الأخرى قاسية لا ود فيها ولا ألفة.

ويفر أسوف عند أول فرصة سانحة ليعود إلى أرضه التي أحب مصمماً على التصالح معها  وعلى محاربة كل من ينتهك حرمتها؛ ويمثل ذلك موقفه من مسعود وقابيل حينما أتيا لصيد الودان، وهنا يظهر المكان وقد بدا متعاطفاً معه ويشاركه مشاعر الضيق والنفور والتحدي للغرباء «انتهى السهل وبدأت مساك صطفت تعلن عن نفسها، انتشرت المرتفعات المغطاة بصخور سوداء ضخمة محروقة بنار الشمس الأبدية، انتهى صفاء الصحراء الرَّملية الممتدة المنبسطة الرفيقة بالعباد وبدأت عراقيل الصحراء الجبلية الغاضبة، هذه الملامح تستقبل بها الصحراء الرحل القادمين من الصحراء المعادية الرملية» (22).  وتساعدنا تحولات المكان الصحراوي في فهم الشخصية الجديدة لأسوف فيحمل المكان ملامح آدميّة ويشارك الإنسان مشاعره وعواطفه.

ولعل شعور أسوف بالخوف من فقدان المكان لهويته هو الذي دفعه إلى الامتناع عن إخبار قابيل عن مكان وجود الودان وخاصة بعد أن توثقت بينه وبين هذا المخلوق صداقة وروابط قوية جعلته يمتنع عن أكل اللحم، لم يرد أن يخون هذه الصداقة وأن يتنكر للمكان الذي آواه وصار جزءاً منه، لقد دافع عن الودان بكل طاقته وكان سلاحه في ذلك إصراره على ترديد القول «لن يشبع ابن آدم إلا التراب»، فكان موته في النهاية التحاماً بالأرض، وينقل الروائي مشهداً يصور فيه عبر تيار الوعي ومن خلال الوساوس والكوابيس التي سيطرت على قابيل عمق العلاقة التي كانت تجمع أسوف بالودان والتي وصلت إلى درجة التحول والحلول «دعاه الحيوان الخفي إلى رحلة وتاها معاً في الصحراء، عبر به الحمادة وهو يمتطي ظهره، عطش وجاع وحطم رأسه الصداع، فوجد أن الودان العظيم قد طار به عبر أمواج بحر الرمال….  اشتد عطشه وجوعه وصراعه.. تململت الدودة الشيطانية في أسنانه فنهش رقبة الودان، غرس أنيابه في رقبته نهش قطعة أخرى… صعد الحيوان طويل القامة تقطر من رقبته الدماء وقبل أن يفيق من هذا التحول رفع الرجل نحوه وجهاً شقياً وقال له «لا يشبع ابن آدم إلا التراب» ورمى به من القبة السماوية» (23).  

لقد ظلت الرواية تؤكد في جل مفاصلها على العلاقة اللحمية التي تجمع الإنسان بالمكان وتماهي بين الكائنات التي تعيش في الصحراء، ويستوي في ذلك الفضاءِ الصحراوي الإنسانُ والحيوان والنبات في وحدة كائنية واحدة.

وعلاقة الإنسان بالمكان الصحراوي تتفاوت من موسم لآخر، ومن فرد لآخر بحسب العوامل والدوافع التي تجعلهم يسكنون فيها، ولكن نظرتهم في مجملها تتفق على احتواء الصحراء عالماً مجهولاً مكتنزاً بالطقوس السحرية والغرائبية؛ فوالد أسوف يجد في الصحراء ملاذاً يحميه من شر الناس، فهي بالنسبة له بديل إيجابي لأنها تحميه وتبعده عنهم، وقد رأى أن الجن قد سكنوا الكهوف أيضاً هاربين من الشر.

لقد سكن الصحراء وعشق ترابها وحيوانها وأقام علاقات من الصداقة مع الودان، وقد حددت علاقته عبر موقفين.. حين أقدم الودان على الانتحار أمامه، وحين قام ودان آخر بإنقاذ حياته، وفي كلا الموقفين يبرز المكان لرصد الحدث «نسيت أن أقول إنَّ معركتنا كانت تدور في واد مقطوع عن الجبال. الودان يعرف أنّه لن يستطيع الإفلات لابتعاده عن حصونه في الجبال، في وسط الوادي تقوم ربوة تعلوها صخور ملساء عالية، وعندما شاهدني أحتكم إلى بندقية، تسلق الصخور في حركة خاطفة وقفز إلى الأرض فكسر رقبته، سال الدم من خياشيمه» (24).

لقد وصل إلى علاقة واضحة المعالم مع المكان الصحراوي، فكانت أقواله وأفعاله تجسيداً لهذه العلاقة وتعبيراً عن تجربة عميقة ومعرفة وثيقة «من اختار أن يعيش طليقاً في الصحراء فعليه أن يتولى أمره بنفسه» (25)… وقوله في موضع آخر «عليك أن تصبر حتى لو فقدت الأمل، هذا  قانون الصحراء» (26).. وقوله كذلك «الإنسان في الصحراء لا بدَّ أن يموت بأحد النقيضين السيل أو العطش» (27).

ويتضح عمق العلاقة التي تشدّه بأرضه حين تتعرض الصحراء لغزو الغربي، فيهب الأب للدفاع عنها «بعد انتشار أنباء زحف الطليان عن السواحل ونيتهم التوغل جنوباً لغزو الصحراء، هذا رفع سعر الرصاص… أصبح كل بدوي في الصحراء يدس الرصاصة في بؤبؤ عينيه وينتظر ليدافع بها عن أطفاله في تلك اللحظة العصيبة التي سيقتحم فيها العدو حدود الصحراء.. لأن الطليان الذين دخلوا الصحراء قد دخلوا كل خيمة» (28). وكان الوالد يوصيه دائماً بالقول «الرجل في الصحراء لا بدَّ أن يقتصد في شيئين؛ في الماء وفي الرصاص» (29).

ويؤمن أسوف بهذه الأقوال ويحفظها لتصير زاده في حله وترحاله ويكون الولاء عنده «دائماً لشرع الصحراء ووصايا الأسلاف والصراع والبطولة ضد لعنة الدمار الذي يلاحق نظم الحياة» (30).

المفتوح والمغلق في المكان الصحراوي…

المكان الصحراوي على امتداد مساحة الرواية كان يتميز بأنّه يختلف عن غيره من أماكن وهو متميز من خلال علاقاته بالشخوص الذين يفدون عليه كما هو متميز في علاقاته بالأماكن الأخرى.

وقد تفاوت المكان الصحراوي بين كونه مفتوحاً أو مغلقاً بحسب علاقته بالآخرين، ثمَّ بحسب الحالة النفسية التي يعيشها الفرد، ولقد أشرنا إلى الرابطة التي جمعت أسوف بالمكان وكيف أثر فيه، ولكن المكان الصحراوي على رحابته يكاد لا يتجاوز مساحة محدودة من الأرض حين يشارف أسوف على السقوط في الهاوية «وجد نفسه معلقاً في نتوء صخرة في أعلى الجبل وساقاه تتدليان في الهاوية الأبدية.. اكتشف أنّه سجين شبرين من الأرض كما في القبر، فهل هذا قبره» (31).

هكذا استحال المكان الصحراوي مكاناً مغلقاً، ولعل الوصف لهذا المكان يكشف عن الأثر الذي خلفه المكان في نفسية الشخصية ومعرفة إحساسها، والمكان الصحراوي الذي أراده والد أسوف بقعة تبعده عن الناس صار مكاناً منعزلاً جغرافياً مستقلاً بمحدداته ومكوناته، وظلَّ الساكنون فيه في حالة أقرب إلى البساطة والعلاقة المحدودة بينهم وبين الآخرين؛ فيبدو المكان الذي تمر به القافلة مكاناً مغلقاً في نظر أسوف «لم تكن المقايضة أمراً سهلاً لشاب لا يملك لغة يخاطب بها الناس.. في المرة الأولى وقف بعيداً وراقب القافلة طويلاً وهي تسير عبر الطريق الملتوي الذي يخترق الأودية ويصعد الجبال الوعرة، ينحرف تارة نحو اليمين وتارة نحو الشمال حتى يتوارى في الأفق المجهول، ليتدفق فيه طابور الجِمال الصبور المحملة بالأثقال والبضائع.. توارت القافلة ولم يستطع أن يقترب» (32).

إنَّ هذا الوصف للمكان ليس إلا وصفاً للشعور الذي كان يحسه أسوف؛ فالأشياء والعلاقات ملتوية في نفسه واللغة وعرة، وهو يحاول ترويض نفسه فينحرف بها من جانب لآخر، وهو في مكانه مجهول كالأفق، صابر كصبر الجمال في انتظار الفرصة مثقلاً بالهموم وبالمخاوف.. أفلا يكون المكان مغلقاً عليه ضيقاً إلى حدِّ الانطباق.

المكان المغلق المعزول عن الآخرين يسهم في احتفاظ البشر والحيوان والنبات بالسمات البسيطة التي تجعله أقرب إلى الفطرة والبراءة، ولكن للعزلة ثمن على المرء أن يدفعه؛ ولنتصور مشهد موت الأب وموت الأم وحيدين وكيف يبدو المكان بالنسبة لهما.

وإذا اعتاد الإنسان العزلة أصبح المكان الضيق عالماً واسعاً ومكاناً مفتوحاً، فإذا حاول خرق عزلته والانتقال إلى مكان آخر يحس أنّه ليس ثمّة علاقة تربطه بالمكان الجديد، فهو يتحول بدوره إلى مكان مغلق على اتساعه؛ «طردته الصحراء فاضطر أن ينزل إلى الواحات ليجرب حظّه مع الناس لأول مرة في حياته» (33)، ويتصادف وجوده مع حملة الاعتقالات «اعتقله رجال الكابتن بورديللو في اليوم الأول لدخوله الواحة» (34).

هذا المصير جعل المكان ينقلب إلى مكان ضيق مغلق فلا يتورع عن هجرته والعودة إلى الصحراء.

والبيئة الصحراوية حين يأتيها الغيث تدب فيها الحياة ويبعث الأمل وتتحول إلى مكان مفتوح وعابق بالخير «في تلك السنوات كانت الحمادة تفيض بالحياة وتعج بقطعان الغزلان، الأمطار السخيّة لا تنقطع طويلاً، إذا شحّت السماء وبخلت بالماء الوفير هذا العام، فإن شوق السماء إلى الأرض في السنة التالية ينقذ البذور من التلف والانقراض.. فيأتي الخلاص؛ تخضر السهول في الربيع فيكثر الترفاس والطيور والأرانب والغزلان» (35). والمكان الصحراوي ذاته الذي يستحيل أمام الغريب الدخيل مكاناً مغلقاً هو مكان مفتوح بالنسبة لساكنيه؛ حين يحميهم من الغزاة، «إذا أشرفتَ على السهول العالية على حين غفلة فوجئت بأجمل المخلوقات ترتع بسلام، حتى إذا شعرتْ بحركة الإنس تأهبت للفرار، وعندما تتحرك في فرارها الجماعي يتحرك السهل تتحرك الصحراء، كأن الصحراء نفسها التي تتحرك وتفر هاربة من بطش الإنس» (36). إن الصحراء بسبب رحابتها أصبحت أنموذجاً للانفتاح يتخذها سكانها وسيلة تنقذهم من الدخلاء، وهم على الرغم من أنّهم معزولون إلا أنَّ المكان الصحراوي لا يعزلهم تماماً عن البشر «وبرغم عزلتهم في البر الجنوبي إلّا أنَّ الريح استمرت تنقل إليهم أخبار الغزاة في الشمال كما نقلت دائماً الشائعات بين القبائل الصحراوية من زواج وطلاق وفضائح ومواليد جدد ووفيات، لا يخفى شيء في الصحراء مهما اعتزلت» (37).

 وقد ساعدت البيئة الصحراوية على التواصل الإنساني؛ فقد عرضت لنا الرواية صوراً لعلاقة الآخرين بالمكان؛ موظفو الآثار واهتمامهم بالمكان وحثهم أسوف للدفاع عن الآثار، والسياح الأجانب الذين جاءوا لزيارة الآثار في الصحراء، ومسعود وقابيل اللذان جاءا لصيد الودان، هكذا تنفتح الصحراء على فئات عديدة من البشر وتتشكل جوانب المكان من خلال رؤية الآخرين له، والروائي بذلك يميل إلى إعطاء المكان دوره البؤري بارتحال الغرباء إليه، وينفتح المكان أو ينغلق وفقاً للعلاقة به.

الكهوف مكان مغلق لكنها كانت مكاناً مفتوحاً بما احتوت عليه من صور وأشكال فتحت العقول على عوالم جديدة وشكلت للخيال مساحات غير محدودة للإنطلاق والتأمل، والكهوف كذلك كانت مكاناً مفتوحاً لأنها حمت اللائذ بها من حر الشمس ولهيبها «فيلجأ للكهوف ليستظل من الشمس ويفوز بلحظات راحة فيتسلى بمشاهدة الرسوم الملونة» (38).

الخاتمة:

لقد كشفت هذه الدراسة عن قدرة الكاتب على تقديم صورة وصفية جمالية للمكان الصحراوي مستخدماً لغة شعرية موحية معتمداً على الانحراف باللغة عن مألوفها اليومي والتشبيهات وأنسنة المكان والاستعارات كما كان لتوظيف الأفعال والإكثار منها ثم مراوحتها بين الماضي والمضارع دور في إضفاء حيوية على المكان.

كما كشفت الرواية عن العلاقة الوثيقة التي جمعت الإنسان بالمكان والأثر الذي طبعه المكان في الشخصية، فكانت انعكاساً للمكان في طبيعته المزدوجة ومناخها المتقلب، وكذلك صوّر الكاتب العلاقة الفطرية التي جمعت البدوي الذي عاش طفولته وصباه بالصحراء، فتتشكل تفاصيل المكان في ذاته بألفة وحميمية تجعله يرى في المكان سمة أمومية، وصورت لنا الرواية المكان بوجهيه المفتوح والمغلق، فمثّلت الصحراء باتساعها المكان المفتوح فكانت ملاذاً وملجأً حين أنقذت قاطنيها من أي تدخل للغريب، ثم هي رمز للتواصل الإنساني، ليتخذ المكان بعداً بؤرياً من خلال ارتحال الناس إليه.

 والمكان ذاته قد يصبح مغلقاً أو مفتوحاً بحسب علاقته بالآخرين، وبحسب الوضع النفسي الذي تمر به الشخصية، وقد وظفت الرواية ذلك من خلال المراوحة بين المغلق والمفتوح.      

الهوامش…

  • إبراهيم الكوني: «ولد في غدامس عام (1948) خريج معهد جوركي للأدب بموسكو، يتجاوز عدد أعماله القصصية والروائية السبعين كتاباً تتحدث عن حياة الطوارق الصحراوية. ترجمت أعماله إلى الفرنسية والألمانية والإنجليزية والروسية وغيرها وحاز على جوائز أدبية عالمية .ومنها فوزه بجائزة الشيخ زايد للكتاب فرع الآداب في دورتها الثانية 2007-2008».
  • صالح، صلاح: الرواية العربية والصحراء، وزارة الثقافة، ط1، دمشق، 1996م، ص
  • يقع وادي متخندوش في جنوب ليبيا ويمتاز برسوماته الجدارية القديمة.
  • الكوني، إبراهيم: نزيف الحجر، ط3، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، 1992م، ص8.
  • المصدر السابق، ص7
  • المصدر نفسه، ص7، الودّان: هو غزال الوعل أو شاة الوعل أو غزال الودان كما درج في تسميته عند الليبيين.
  • المصدر نفسه، ص33/34
  • المصدر نفسه، ص46/47
  • المصدر نفسه، ص147
  • المصدر نفسه، ص24
  • المصدر نفسه، ص19
  • المصدر نفسه، ص26
  • المصدر نفسه، ص33
  • المصدر نفسه، ص33
  • المصدر نفسه، ص53
  • المصدر نفسه، ص87
  • المصدر نفسه، ص146
  • المصدر نفسه، ص85
  • المصدر نفسه، ص69
  • المصدر نفسه، ص86
  • المصدر نفسه، ص77
  • المصدر نفسه، ص100
  • المصدر نفسه، ص76/77
  • المصدر نفسه، ص 139، الحمادة الحمراء:هي هضبة صخرية في الصحراء الكبرى الليبية غرب البلاد، وهي ذات بيئة قاحلة وتتقاطع بها العديد من الوديان الجافة.
  • المصدر نفسه، ص25
  • المصدر نفسه، ص67
  • المصدر نفسه، ص66
  • المصدر نفسه، ص79
  • المصدر نفسه، ص32
  • المصدر نفسه، ص32
  • فصول، قراءة استطلاعية في أعمال إبراهيم الكوني، اعتدال عثمان، م16، ع4، ربيع 1998م.
  • الكوني: نزيف الحجر، ص61
  • المصدر نفسه، ص37
  • المصدر نفسه، ص77
  • المصدر نفسه، ص83
  • المصدر نفسه، ص96، الترفاس: تسمية أمازيغية وتعني الكمأ أو الفقع في الجزيرة العربية.
  • المصدر نفسه، ص96
  • المصدر نفسه، ص32
  • المصدر نفسه، ص9