رسول محمَّد رسول

بواكير فلسفة مارتن هيدغر في الفكر العربي

المصطلح بين الترجمة والتعريب والتأويل والتأصيل
د. رسول محمَّد رسول

يبدو أن اللغة الألمانية تضطلع بتداول مصطلح (Dasein) كتعبير عامي عن دلالة معنى الوجود، فغالباً ما يقول الرجل الألماني: «أنا مسرور بوجودي»، ونص العبارة هنا يتضمَّن المصطلح نفسه في صيغة القول باللغة الألمانية وهو: «Ich bin mit meinem Dasein zufrieden»، كما يرد ذلك في موسوعات اللغة العامة.

وفي هذا السياق، لم يكن مارتن هيدغر (1889 – 1976) هو الفيلسوف الأول الذي استخدم مصطلح (Dasein) أو ممكن الوجود بذاته، وهي الترجمة التي نقترحها له؛ كما سنبين مبرراتها في بحث لاحق، بل سبقه إلى ذلك، مثلاً، فردريك هيجل (1770 – 1831) كدلالة على معنى الكيان أو الوجود أو الحضور الإنساني، فهو بذلك مشتق، وعلى نحو حرفي من التعبير «يكون هناك»، إلاّ أن مارتن هيدغر ما راقت له تلك الدلالة حتى اندفع للعمل بالملفوظ كمفهوم مركزي وتأسيسي لفلسفته في الأنطولوجيا الأساسية التي شرع ببنائها، وفي الوجود أو الكينونة والزمان من دون أن يدلُّ هذا المصطلح، بوصفه مفهوماً أو تصوراً، على ما هو إناسي/ أنثروبولوجي، ولا نفسي/ سيكولوجي، ولا حياوي/ بيولوجي، ولا أدبي/ جمالي، إنما يمكن أن يُفهم بوصفه شرطاً أنطولوجياً للكائنات الموجودة أو بنية محض متوقعة الوجود إذا جاز التعبير، والتي يمكن أن تكون وتوجد، ومن هنا يمكن القول عن (Dasein)، والذي نترجمه إلى «ممكن الوجود بذاته»، بأنه الشرط الذي (يُمكن) أن يكون هنا أو هناك أو الهنا والهناك، أي الشرط الذي يوجَد ويوُجِد في ظرفية زمكانية معينة، لكنّه يبقى دائماً كبنية أنطولوجية وليس ماورائية أو ميتافيزيقية مفارقة، كما أن هذا الممكن الوجود بذاته ليس شيئاً جاهزاً يمكن اعتباره شاخصاً إنما مجرَّد ممكن قابل لأن يكون ويوجد.

في هذا البحث، يروق لنا أن نقف عند صور التعامل العربي مع ترجمة مصطلح (Dasein)، ونتابع حضور فلسفة مارتن هيدغر في التلقِّي العربي من خلال تعامل عدد من الفلاسفة العرب مع مفهوم الـ (Dasein) الهيدغري، والذي كان الفيلسوف المصري «عبد الرحمن بدوي» رائداً واقعياً في الاشتغال عليه من حيث ترجمته وتوصيف مكانته في فلسفة هيدغر، ومن ثم نعرض لتطوّرات ترجمة المصطلح وتأصيله في التراث الفلسفي والعربي لدى مؤثري الحكمة الفلسفية العرب سواء المحدثين منهم أم المعاصرين.

***

  1. 1. يعود الاهتمام العربي بفلسفة مارتن هيدغر إلى مطلع أربعينيات القرن العشرين عندما أكمل الدكتور عبد الرحمن بدوي (1917 – 2002) أطروحته في «الماجستير» عن «مشكلة الموت في الفلسفة الوجودية» عام 1941 دارساً في «جامعة الملك فؤاد»، وهي (جامعة القاهرة) حالياً، تلك الأطروحة التي نشرها بدوي في عام 1943 تحت عنوان «الموت والعبقرية».

أما نصوص هيدغر نفسها، فأخذت بالظهور للقارئ العربي منذ عام 1963، وعلى يد الدكتور عثمان أمين، الذي ترجم محاضرة هيدغر «هلدرلن وماهية الشعر» (1936)، وكذلك محاضرته «ما الفلسفة؟» (1955)، والتي ترجمها ثانية الدكتور محمود رجب، ونشرها عام 1974 في كتاب مشترك مع الدكتور فؤاد كامل والذي ترجم، بدوره، محاضرة هيدغر «ما الميتافيزيقا؟» (1929)، ومحاضرة «هيلدرلن وماهية الشِّعر»، إلى جانب ترجمة رجب لنص هيدغر «العود إلى أساس الميتافيزيقا» في الكتاب نفسه الذي ضمَّ ترجمة أولى من جانب فؤاد كامل لحاشية كتبها هيدغر على محاضرته «ما الميتافيزيقا؟»، ليأتي بعدهما الدكتور عبد الغفار مكاوي، الذي ترجم، ولأول مرَّة، محاضرة هيدغر «ماهية الحقيقة» التي ألقاها في عام 1930 وطورها تالياً في مطلع الأربعينيات، وكذلك محاضرته «نظرية أفلاطون عن الحقيقة» (1940)، إلى جانب ترجمته لنص هيدغر «أليثيا/ هيراقليطس – الشذرة السادسة عشرة».

يتضح هنا أن فلاسفة مصر المحدثين ومؤثري حكمتها الفلسفية الحديثة هم الذين ارتادوا نصوص هيدغر الفلسفية قراءة، بل ترجموها، وكتبوا عنها دراسات تحليلية ومقاربات نقدية، وصاغوا مصطلحاتها باللغة العربية اجتهاداً منهم عندما رجعوا إلى التراث المصطلحي العربي الإسلامي منذ القدح التأصيلي الذي همَّه عملاً دؤوباً عبد الرحمن بدوي في ترجمته للفظ (Dasein) إلى «الآنية» كمصطلح فلسفي فتح أفقاً في مسارات الهيدغرية واشتغالها في الخطاب الفلسفي العربي.

 أما بعد ذلك، أي بعد عام 1974، فقد أخذت نصوص هيدغر تدخل حيز الدراسات الفلسفية العربية على نحو متواصل في لبنان وسوريا ودول المغرب العربي والعراق، التي شهدت ترجمات عدّة لنصوص هيدغر هي إما مكررة للنُّصوص التي ترجمها الفلاسفة المصريون أو ترجمات لنصوص جديدة له لم تعرف طريقها إلى اللغة العربية، ترجمات نهض بها الدكتور نظير جاهل من لبنان «مبدأ العلة»، والدكتور بسّام حجار ومنذر حلاوي من لبنان «إنشاد المُنادى: قراءة في شعر هولدرلن وتراكل»، والدكتور عبد الهادي مفتاح والدكتور محمد سبيلا من المغرب «رسالة في النَّزعة الإنسانية»، والدكتورة فاطمة الجيوشي من سوريا «الفلسفة في مواجهة العلم التقنية»، والدكتور إسماعيل المصدق من المغرب «كتابات أساسية/ جزآن»، والدكتور فتحي المسكيني من تونس «الكينونة والزمان»، والدكتور حميد لشهب من المغرب «رسائل حنة آرندت ومارتين هيدغر»، والدكتور عمارة الناصر من الجزائر «الأنطولوجيا.. هرمينوطيقا الواقعانية»، والدكتور عماد نبيل من العراق «مدخل إلى الميتافيزيقا». وغير ذلك من الترجمات والدراسات والكتب والرسائل الجامعية التي ظهرت في اللغة العربية عن فلسفة مارتن هيدغر في غضون سبعة عقود ونصف من الزمان ابتداءً من تجربة عبد الرحمن بدوي الباكرة حتى نشر دراستنا هذه.

في كتابه/ أطروحته الجامعية «الموت والعبقرية»، كان بدوي يلقي بضوئه التحليلي على إشكالية الموت بوصفها إشكالية وجودية، وتطرَّق إلى موقف مارتن هيدغر منه. لكن ذلك اضطره إلى حث النَّظر صوب مشكلة الوجود، وفيها اضطر إلى تحليل مصطلح (Dasein)، وهو التحليل الأول من نوعه في المشهد الفلسفي العربي الحديث، بحسب علمنا، في أثناء تحليله لـ «المصدر الحقيقي لمعرفة الوجود»([1]). وفي هذا السياق، يعتقد بدوي بضرورة التفريق بين نوعين من الوجود؛ النوع الأول ويسميه بدوي نفسه باسم «الآنية ترجمةً للكلمة الألمانية Dasein، وهي كلمة من العسير أن نجد لها مقابلاً دقيقاً في أية لغة أخرى من اللغات المعروفة لدينا، ومعناها وجود الأشياء حاضرة بالفعل»([2]).  والنوع الثاني من الوجود هو «ما يمكن أن يُسمى باسم الوجود الماهوي Existenz، لأنه يقصد به ماهية الوجود»([3]).

إلى هذه التفرقة، يعزو الدكتور عبد الرحمن بدوي الاختلاف بين الواقعية (Wirkliehkeit) والإمكانية (Möglichkeit)؛ ويرى أن «الوجود الأول هو الوجود الواقعي، والثاني هو الوجود الإمكاني أو الماهوي»([4])، ويرد الـ (Dasein) إلى خصائص ثلاث من حيث علاقتها بـ (الهم): الأول: من حيث إن الآنية تشير إلى مقدِّمة إمكانيات لم تتحقَّق بعدُ تسمى الصلة بـ «الهُم)» إضماراً وتصميماً. الثاني: من حيث إن الآنية هي الوجود الماهوي انتقل إلى حالة، فصار الآنية، وإن كان جزء ضئيل من الإمكانيات هو فقط الذي تحقَّق، تسمى الصلة بـ «الهُم» واقعية (Fäkzitat). الثالث: من حيث إن الآنية هي وجود بين أشياء أو وجود في العالم، وتسمى حينئذ الصلة بـ «الهُم» سقوطاً Verfallen»([5]).

يتضح أن هذه التحديدات تضعنا عند تراتب انبثاق الوجود الفعلي الذي يبدأ من إمكانية الآنية (Dasein) وعزمها وتصميمها، ومن الحدوث أو الواقعانية التي له، ليصل، بعد ذلك، إلى السقوط في العالم أو الانقذاف فيه. إلاّ أن بدوي الذي جعل من الـ «هُم» صاحب الأهمية في حالة الدازين أو الآنية، فهو يعتقد أن خصائص هذا الـ «هُم»، هي ذاتها خصائص الآنية أو (Dasein)، ليعود إلى هيدغر نفسه الذي عرَّف الـ «هُم» بأنه «الوجود الذاتي – مع الإمكان – بالفعل – في العالم»، ويضيف بدوي مفسِّراً «واضح هنا أن هذا التعريف للـهُم، يعبِّر عن تلك الخصائص الرئيسة؛ فقوله مع الإمكان يعبر عن الإضمار والتصميم، وقوله بالفعل يعبر عن الواقعية، وقوله في العالم يعبر عن السقوط، أما قوله الذاتي فراجع إلى الآنية؛ فقد قلنا إن الإحالة المتبادلة هي طابع الوجود، أني: إن كل شيء لا بدَّ أن يحيل إلى شيء آخر، إلا أن هذه الإحالة إلى آخر لا يمكن أن تستمر إلى غير نهاية، بل لا بد أن تصل إلى شيء لا يحيل إلى غير ذاته، وهذا الشيء هو الآنية؛ فهو يحيل إذاً إلى ذاته، ومن هنا قلنا ذاتي في همٍّ من أجل ذاتها أو بعبارة أخرى الآنية مهمومة بإمكانياتها الذاتية»([6]).

هذا، ولم يكتف بدوي بهذا التفسير المكثَّف، إنما يأخذنا إلى توضيحات أخرى لبيان دلالة مصطلح (Dasein) الهيدغري بوازع تعريفه بأن «الوجود/ الكينونة» هو «الآنية»، فيقول: «إننا إذا تعمَّقنا في معنى الصلة الأولى، وهي صلة الإضمار لوجدنا أنها تدلُّ على أن هذا الوجود يُضمر ويُصمم إمكانيات ذاتية باستمرار أو بعبارة أخرى أن الآنية في تصميم بالنسبة إلى ماهيتها، والتصميم إشارة إلى شيء لم يتحقق بعدُ بالفعل، ويمكن أن يتحقَّق في المستقبل، ومعنى هذا أن هذه الصلة تتسم بسمة الاستقبال. وعلى العكس من هذا، نجد أن الصلة الثانية، وهي صلة الواقعية، تدلُّ بوضوح على أن التحقيق للإمكانيات قد كان، أعني أنها تتسم بسمة المضي. وأخيراً، نجد الصلة الثالثة مطبوعة بطابع الحضور، لأنها تدلُّ على الوجود حاضراً بين أشياء، فكأن الآنية إذاً تتسم بسمة الاستقبال والمضي والحضور، أي بآنات الزمان الثلاثة، أي إن جوهر الوجود هو الزمانية؛ فالزمانية إذاً طابع أصلي للوجود» ([7]).

أما عن علاقة الآنية بالمستقبل والإرجاء، فيقول بدوي: «في المستقبل تكون الآنية في حالة إضمار وتصميم وتوقُّع مستمر بالنسبة إلى ذاتها، نظراً إلى أن الوجود الكلي لم يتحقَّق بعدُ بتمامه بأن بقيت فيه إمكانيات أخرى لم تزل غير متحققة. ومعنى هذا أن الآنية – حالة المستقبل – لا يمكن أن تكون كلاً تاماً، بل لا بد أن يوجد فيها باستمرار نقص بسبب عدم تحقُّق جميع الإمكانيات؛ أي إن الآنية في حالة تأجيل باستمرار، وفكرة التأجيل هذه من بين الأفكار التي عني هيدغر بتعميق معناها إلى حدٍّ بعيد نظراً لما لها من أهمية رئيسة بالنسبة إلى مشكلة الموت»([8]).

تبدو تجربة عبد الرحمن بدوي الأولى والباكرة مع فلسفة مارتن هيدغر تأسيسية في مضمار القراءة العربية لخطاب فيلسوف «الغابة السوداء» عامة، ولدلالات مفهوم  الـ (Dasein) أو «الآنية»، هذا المصطلح الذي دشَّنه بدوي بإرادة معرفية خلاقة على نحو خاص. وجاءت مغامرة بدوي المعرفية تلك في سياق جامعي علمي كون معالجته كانت ضمن رسالة جامعية انخرطت في سياق استجلاء فكرة الموت فلسفياً لدى تيار المدرسة الوجودية، والتي ركَّز فيها بدوي على الجانب الوجودي وليس الأنطولوجي كما هي في خطابها الهيدغري، لكن استعمال مصطلح الـ (Dasein) أو «الآنية»، وإن جاء عرضاً، فهو استعمال ريادي من الناحية المعارفية (الابستمولوجية) المصطلحية، الترجمية وليس التعريبية، كما سنجد ذلك لاحقاً مع مؤثري حكمة آخرين، ما يعني أن بدوي كان أكثر أصالة في تبيئة المصطلح الألماني لملفوظ (Dasein) في المقروء الفلسفي العربي، وهي التبيئة التي استمرَّ عليها في كتبه اللاحقة، ومنها كتابه «الزمان الوجودي»، الذي كان أطروحته الجامعية للدكتوراه، وكتب مقدِّمته عام 1943، ونشره بعد عامين (1945)، ودرس فيه مصطلح «الآنية»، وبعد ذلك بعامين أيضاً (1947)، عاد بدوي وتناول المصطلح ذاته في كتابه «الإنسانية والوجودية في الفكر العربي».

في هذين الكتابين، خاض بدوي تجربة جديدة مع مصطلح «الآنية»، وذلك عندما سعى إلى تأصيله في التراث الفلسفي العربي ليس بعيداً عن مناقشات دقيقة مع الدكتور طه حسين (1889 – 1973) حتى رجع بدوي إلى أبي البركات البغدادي في كتابه «المعتبر في الحكمة» الذي تضمَّن تعريفات غاية في الأهمية من حيث صلتها بدلالة مفهوم هيدغر عن الآنية أو الـ (Dasein)، وكذلك يرجع إلى كتاب الطوسي «شرح الإشارات»، وأيضاً إلى الجرجاني في كتابه «التعريفات»، وإلى كتاب «الكليات» لأبي البقاء الكفوي([9]).

وبعد عامين، وعندما أصدر كتابه «الإنسانية والوجودية في الفكر العربي»، راح بدوي يؤكِّد الصلة بين النزعتين الصوفية والوجودية، وكان ريادياً في مسعاه ذاك، ليمرَّ، عبر ذلك، على مصطلح «الآنية» الذي كان محط عناية المتصوِّفة فيقول: «من المهم هنا أن نقرِّر أن استخدام لفظ الآنية بالمعنى الذي أوردناه إنما يرجع إلى الصوفية وحدهم، بينما هو عند الفلاسفة بمعنى مجرَّد الوجود دون تحديد، كما هو في الأصل اليوناني، ولهذا دلالته الخاصَّة على تنبُّه الصوفية إلى إيجاد هذه التفرقة بين الآنية والرتبة الذاتية، أي بين الوجود الماهوي عند هيدغر»([10]).

في هذا الكتاب، عاد بدوي إلى نصوص تراثية صوفية تضمَّنت حديثاً عن مصطلح الآنية، وتمكَّن من مقاربتها مع الدلالة الهيدغرية الخاصَّة بالآنية، ومن تلك النُّصوص كتاب «اصطلاحات الصوفية» لكمال الدين الكاشاني، وكتاب «المثل العقلية الأفلاطونية» لمؤلف مجهول مع الإشارة إلى الخواجة زاده فيها، وغيرها من المراجع العربية الإسلامية الصوفية.

وبينما كان بدوي في عام 1964 قد أصر على استخدام الترجمة ذاتها للمصطلح الألماني، كما سنبين ذلك لاحقاً، فقد كان، وفي كتابه «دراسات في الفلسفة الوجودية»، الذي صدرت طبعته الأولى عام 1980، قد فعل الأمر ذاته عندما أورد نصاً مقتبساً من كتاب هيدغر «الكينونة والزمان» أو «الوجود والزمان»، بحسب تنوع ترجمة العنوان، راح يُترجم مصطلح (Sein des Daseins) الألماني إلى «وجود الآنية»([11]).

كانت تجربة عبد الرحمن بدوي الخاصَّة بقراءة فلسفة مارتن هيدغر قد شرعت بالتأسيس لثلاثة أوجه معرفية؛ الوجه الأول: ترجمي؛ حيث ارتاد باكراً الإقبال على ترجمة الـ (Dasein) إلى مصطلح «الآنية»، والوجه الثاني: تفسيري/ تأويلي؛ حيث كان أول من قدَّم للمتلقِّي العربي شرحاً تفسيرياً، وبالتالي نقدياً، لمفاصل فلسفة هيدغر الوجودية، وعلاقتها بالنزعة الصوفية، أما الوجه الثالث: فتأصيلي؛ حيث إنه حفر في الذاكرة المصطلحية العربية الإسلامية بقطاعاتها الثلاثة، اللغوي والفلسفي والصوفي، باحثاً عن جذور استخدام مصطلح «الآنية» ودلالاته اللغوية والصوفية والفلسفية في تراثنا اللغوي والفكري العربي على نحو تأصيلي باكر الوجود.

  1. 2. في منتصف القرن العشرين، وبعد نشر بدوي لكتابه «الزمان الوجودي» عام 1945، اجتهد الفيلسوف المصري يحيى هويدي، وفي مقالة له نشرها تحت عنوان «فلسفة العدم»، بتقديم ترجمة مغايرة لمصطلح (Dasein)، تلك هي «وجود لذاته» مقابل ترجمته لمصطلح (Das Seinde) إلى «وجود في ذاته»([12]).

وفي أيلول/ سبتمبر 1963، كان الفيلسوف المصري «عثمان أمين» يكتب مقدِّمة لمؤلَّف صغير ضم ترجمة لنصين من نصوص هيدغر هما: «ما الفلسفة؟» و«هولدرلن وماهية الشعر»، وكانت ترجمتهما باكورة النُّصوص الهيدغرية المنقولة إلى العربية عندما كان عثمان منتدباً للتدريس في إحدى جامعات الجماهيرية الليبية.

في تلك المقدِّمة، توافر عثمان أمين على أول تعريب لمصطلحين مركزيين في فلسفة هيدغر، إذ أورد تعريباً لمصطلح (Sein) = (زاين)، وترجمه إلى «الكينونة»، وكذلك أورد تعريباً أيضاً لمصطلح (Dasein) = (دا – زايْن)، وترجمه إلى «الكينونة هنا والآن»([13]). وهو بذلك إنما تقدَّم بخطوة تعريبية كانت الأولى من نوعها لهذين المصطلحين، تلك الخطوة الأولى التي من شأنها الإقبال على ترجمة هذين المصطلحين بنحو يختلف عن ترجمتي عبد الرحمن بدوي ويحيى هويدي السابقتين، فضلاً على أنه ترجم عنوان كتاب هيدغر (Sein und Seit) إلى «الكينونة والزمان» مقابل ترجمة بدوي للعنوان نفسه إلى «الوجود والزمان». وعندما همَّ فتحي المسكيني بترجمة متن هذا الكتاب إلى العربية، لأول مرَّة، وبعد عقود طويلة من الزمان، إلى العربية عام 2012، آثر اصطفاء ترجمة عثمان أمين «الكينونة والزمان» ربما من دون أن يشير إلى تبعيته إلى عثمان في هذا الشأن.

  1. 3. بعد عام، وفي شهر حزيران/ مايو 1964، وعلى نحو مفاجئ، آثر الدكتور عبد الرحمن بدوي التقديم لترجمة مجموعة من نصوص هيدغر الفلسفية عن اللغة الألمانية، وهي: «ما الفلسفة؟»، و«ما الميتافيزيقا؟»، و«هيلدرلن وماهية الشعر». وكان الدكتور عثمان أمين قد ترجم النَّصين الأول والثالث في كتابه آنف الذكر عن اللغة الفرنسية، وبذلك وجدت نصوص هيدغر طريقها إلى العربية، ولأول مرة، منقولة عن الألمانية على يد الدكتور فؤاد كامل والدكتور محمود رجب.

في تقديمه لتلك المنقولات، أبقى بدوي على ترجمة (Dasein) بـ «الآنية»، منوِّهاً إلى أنه يدلُّ على «الوجود الإنساني، وجودنا نحن»([14]). وهذا يعني أن بدوي كان قد اطلع على محاولة يحيى هويدي وعثمان أمين الترجمية حتى خطا خطوته في هذا المجال عندما ترجم المصطلح إلى العربية. ولكن ماذا عن مساهمة الدكتور محمود رجب في هذا الشأن؟

في الكتاب ذاته، وقبل أن ندخل إلى ترجمة النُّصوص، كتب رجب دراسة بعنوان «لمحات عن فلسفة هيدجر»، وترجم مصطلح (Daseinsanalyik) الألماني إلى  العربية تحت مسمى «الموجود الإنساني أو الآنية»([15]). ومن ثم استخدم عبارة «ماهية الإنسان ووجوده هناك» بوصفها ترجمة عربية لمصطلح (Dasein)([16]).

في تلك التجربة، راح رجب يؤصِّل مصطلح «الآنية» في التراث اللغوي والفلسفي العربي، من خلال العودة إلى كتاب الكمشخانوي: «جامع أصول الأولياء»، الذي عرَّف مصطلح الآنية بحسب دلالته الصوفية بأنه «تحقق الوجود العيني من حيث رتبته الذاتية». وكذلك عاد إلى ما قاله الدكتور عبد الهادي أبو ريدة (1909 – 1991) في هامش الصفحة 97 وما بعدها من كتابه «رسائل الكندي الفلسفية» عام 1950، والذي توافر فيه على أصالة استخدام العرب لمصطلح «الآنية»([17]).

وما هو معلوم هنا، أن الدكتور عبد الهادي أبو ريدة كان أول من أصَّل عربياً هذا المصطلح في التراث الفلسفي، وأشار إلى أن الدكتور عبد الرحمن بدوي لم يبرِّر استخدامه «الآنية» كمقابل ترجمي لملفوظ (Dasein) الألماني([18]). وكانت محاولة أبو ريدة تلك قد جاءت بعد صدور كتاب بدوي «الزمان الوجودي» للتناول مصطلح الآنية. 

وفي عام 1966، عاد الدكتور فؤاد كامل واستخدم ملفوظ «الآنية» كترجمة لمصطلح (Le Dasein) الفرنسي في معرض ترجمته لكتاب ريجيس جوليفيه «المذاهب الوجودية.. من كيركجورد  إلى جان بول سارتر»([19]).

وعندما أصدر الدكتور محمود رجب كتابه «الميتافيزيقا عند الفلاسفة المعاصرين» عام 1970 بعد أن أعدَّه للنشر منذ عام 1966، وفي الفصل الخاص بمارتن هيدغر، استخدم عبارة «الآنية»، ووصف الآنية بـ «الإنسانية» كترجمة لمصطلح (Dasein)([20]). وترجم مصطلح (das Sein) إلى «الوجود»، بينما ترجم مصطلح (das Seiende) إلى «الموجود»([21]). ومن ثم يعود ليستخدم تعبير «الآنية» كترجمة لمصطلح (Dasein)([22]). ويكرِّر ذلك عندما يحدد بأن «اسم Dasein الوجود – هناك = الآنية»([23]). ويوضح بأن «الآنية ليست هي الإنسان؛ فثمَّ اختلاف بينهما، ومن الخطأ ترجمة Dasein بالحقيقة الإنسانية كما ترجمها هنري كوربان. وقد انتبه الدكتور بدوي إلى ذلك سنة 1945؛ فلم يترجم هذا المصطلح بـ (الإنسان)، وإنما بـ (الآنية)»([24]). أما الدكتور فؤاد كامل، فبقي عند ترجمة مصطلح (Dasein) إلى الآنية، وذلك في معرض ترجمته لنص محاضرة مارتن هيدغر «ما الميتافيزيقا؟»([25])، وسار على هذه الترجمة حتى النهاية.                                                                                                                                                                                      

  1. 4. عندما أصدر الدكتور عبد الغفار مكاوي كتابه «مارتن هيدغر.. نداء الحقيقة» ضمن «سلسلة النُّصوص الفلسفية» التي تصدرها دار الثقافة للطباعة والنشر في القاهرة عام 1977 – كتبه حتى عام 1975 – استخدم أيضاً مصطلح «الآنية»، ووضعها بين قوسين بعد مصطلح «الوجود الإنساني»([26]). ونراه يعود تالياً لتعريف المصطلح ذاته فيقول إن معنى كلمة (Dasein) «في لغتها الأصلية هو الوجود أو الموجود، ولكن هيدجر يقصد بها معنى مزدوجاً؛ الموجود العيني الفرد الذي يكون دائماً على علاقة بالوجود، وكينونة الوجود الإنساني التي ينظر إليها من خلال الموجود العيني»([27]).

هنا، لا يدخر مكاوي سراً إلا وأفشاه حول صعوبة ترجمة هذا المصطلح إلى العربية، فيقول: «إن هذه الكلمة، وفي منطوقها العربي أو أصلها الألماني، تثير غير قليل من سوء الفهم، ولو تحرينا الدقة، لترجمناها بالموجود – هناك، أي: الكائن المُلقى به في العالم، الموجود فيه دائماً، بالقرب من الأشياء، ومع غيره من الناس، الموجود المتميز عن سائر الكائنات في علاقته بالوجود، واهتمامه بالسؤال عنه، وحمله مسؤوليته على كتفيه»([28]). وفي معرض تحليله لحالة الآنية نراه يرجح ترجمة الـ (Dasein) إلى «الموجود الإنساني أو الآنية»([29]). وعلى هامش ذلك، يوضح مكاوي بأن معنى كلمة (Dasein) في «لغاتها الأصلية هو الوجود أو الموجود، لكن هيدغر يقصد بها معنى مزدوجاً؛ الموجود العيني الفرد الذي يكون دائماً على علاقة بالوجود، وكينونة الوجود الإنساني التي يُنظر إليها من خلال ذلك الموجود العيني. والآنية هي الترجمة التي اقترحها أستاذنا الدكتور عبد الرحمن بدوي للكلمة الأصلية، وهي من اصطلاحات الفلاسفة الإسلاميين، ومعناها، كما جاء في تعريفات الجرجاني، وفي اصطلاحات الصوفية لكمال الدين عبد الرزاق الكاشي: تحقيق العيني من حيث رتبته الذاتية. وهي تستعمل، عادة، في مقابل الماهية؛ أي إنها ترادف مجرد الوجود في مقابل الماهية؛ كما في نص لأبي البركات البغدادي: «الآنية وكذلك الوجود يشعرون بآنيته، وإن لم يشعروا بماهيته»([30])، وحديثه هنا يستند إلى تجربة عبد الرحمن بدوي في كتابيه «الموت والعبقرية» و«الزمان الوجودي» بما لا يخلو من اجتهاد.

  1. 5. في عام 1973، صدرت في بيروت الترجمة العربية الأولى من كتاب «هيدجر» الذي وضعته في عام 1957 الفيلسوفة الأمريكية مارجوري جرين (1910 – 2009). وكانت جرين قد درست مع مارتن هيدغر وكارل ياسبرز في ألمانيا. وربما تكون ترجمة هذا الكتاب إلى العربية أول كتاب مترجم يصدر عن فلسفة هيدغر!! ولكن اليقين عندي أنه من الكتب الرائعة التي لخصت فلسفة هيدغر بلغة مركزة وواضحة أقبل على ترجمته مجاهد عبد المنعم مجاهد (ولد في القاهرة عام 1934)، وصدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت خلال شهر آذار/ مارس من العام المذكور.

في ذلك الكتاب الصغير، أشارت المؤلِّفة إلى صعوبة ترجمة مصطلح (Dasein) إلى اللغة الإنجليزية وهي التي درست على يد هيدغر وكانت تراه بين يوم وليلة! تقول الكاتبة: «إن ما يهمنا هنا، هو النقطة التي وجد عندها هيدجر، وهو يبحث عن معنى الكينونة، إن من الجوهري، لهذه الغاية، هو أن نحلل ما قد يمكن تسميته الكينونة الإنسانية. وأنا أترجم هنا، وبهذا التعبير، المصطلح Dasein، وهذه ليست ترجمة سديدة، ولكني لا أستطيع أن أجد أفضل منها. إذن؛ فالوجود الإنساني هو الذي يشرع هيدجر في وصفه حيث إنه هو حامل ومرآة الكينونة العامة، وهو، على هذا النحو، تكون الكينونة التي يحملها ويعكسها»([31]).

أما مجاهد عبد المنعم مجاهد نفسه، فقد آثر ترجمة مصطلح (Dasein) إلى «الوجود الإنساني – الآنية – الوجود هناك»([32])، وذلك في كتابه «هيدجر راعي الوجود»، التزاماً منه بالترجمات المصرية السابقة عليه لهذا المصطلح، وانطلاقاً من إشكالية ترجمته ليس إلى العربية فقط، إنما الإنجليزية أيضاً.

  1. 6. في عام 1986، ظهرت في تونس ترجمة ربما كانت الأولى لنص مارتن هيدغر «معضلة الحقيقة» نهض بها شهاب الدين اللّعلاعي الذي أوضح أنه انتهى من ترجمة هذا النَّص بين عامي 1983 – 1984، كما أنه يمثل النَّص الكامل لمحاضرة هيدغر عن نظرية أفلاطون في الحقيقة أو «ماهية الحقيقة» التي تعود إلى عام 1930، والتي طورها تالياً في عام 1943، تلك المحاضرة التي سبق وأن ترجمها الدكتور عبد الغفار مكاوي إلى العربية ضمن كتابه «نداء الحقيقة» عام 1977.

وإذا كنّا قد عرفنا موقف الدكتور مكاوي من ترجمة مصطلح (Dasein)، فإن اللّعلاعي يأخذنا إلى اجتهادات أخرى؛ فهو يترجم عنوان كتاب «الكينونة والزمان» إلى «كيفية وجود الموجودات والزمان»، وبذلك يترجم كلمة (Sein) إلى «كيفية وجود الموجودات»، ويترجم مصطلح (Da-Sein) إلى «مقام الانفتاح» أو «مقام كيفية الوجود التي تعني حرفياً الخروج عن الذات»، وبذلك فإنه لا يترجم مصطلح (Dasein) إلى «الوجود» إنما إلى «كيفية وجود الموجودات التي ليست شيئاً ما على غرار هذه الطاولة أو هذه المظلة، إذ تعني كلمة DaSein الألمانية كيفية وجود كل متواجد، وليست هذه الكيفية إلا العدم، أي إنها ليست متواجداً ما بحيث إن كيفية الوجود ليست إلاّ عدماً، وما كيفية وجود الموجودات إلاّ الانفتاح الذي يكون فيه المتواجد حاضراً جلياً، إذا إنها مصدر الهبة ولكن من دون أن تكون جوهراً قابعاً وراء أو تحت ما يظهر» ([33])

  1. 7. وفي الوقت الذي تمسك فيه الدكتور سامي أدهم بتعريب مصطلح (Dasein) إلى الـ «دازاين»([34]) في عام 1993، كان الدكتور محمد محجوب قد أصدر في عام 1995 كتابه «هيدقر ومشكل الميتافيزيقا» عن دار الجنوب للنشر في تونس. وفي ذلك الكتاب، اجتهد بتقديم مقترح عربي لترجمة مصطلح (Dasein) إلى «المُوجِد»، وهي محاولة بدت جديدة في سياقها رغم الإيحاء الميتافيزيقي الذي يكتنف المصطلح العربي؛ يقول في هذا الصدد: «إن السؤال عن معنى الوجود هو إحدى خصائصه كموجود؛ فهو مكان انفتاح السؤال، وهو مكان التصادي وفسحة الملاعبة المتجاوبة بينه هو كموجود، وانكشافه إلى نفسه في معناه – كوجود. لذلك، نقترح، ومنذ الآن، أن نُترجم هذه الكلمة المفتاح في الفكر الهيدقري (Dasein) إلى عبارة عربية هي: المُوجِد»([35])، ولكن من دون مزيد تسويغ لاصطفاء هذا الملفوظ المترجم إليه اللفظ الألماني دون غيره. ويعود مرة أخرى إلى استخدام اللفظ المعرَّب للمصطلح ذاته حتى يقول مثلاً: «إن الأنطولوجيا الأساسية التي تنبع منها، هي وحدها دون غيرها، الأنطولوجيات الأخرى، إنما تتنزل ضمن التحليلية التوجُّدية للدازاين»([36])، وهذا النَّص إنما يعود إلى الفقرة الرابعة من كتاب هيدغر نفسه «الكينونة والزمان»، ليعود محجوب مرَّة أخرى ويستخدم ملفوظه المقترح «المُوجِد» في فصول كتابه الأخرى.
  2. 8. جرياً على ذلك، وفي عام 2007، كان الدكتور علي الحبيب الفريوي قد كتب مقدِّمة كتابه «مارتن هيدغر: نقد العقل الميتافيزيقي.. قراءة أنطولوجية للتراث الغربي»، ليصدر عن دار الفارابي في بيروت عام 2008. وفي التمهيد منه آثر ترجمة مصطلح (Dasein) إلى «المُوجِد»، وهي ترجمة مسبوقة في تاريخ التعامل العربي مع هذا المصطلح كما أسلفنا تبيين موقف محمد محجوب من حيث ترجمته من دون أن يضع الفريوي مقابله الألماني، إنما استخدمه في مسارد المصطلحات التي أوردها في نهاية الكتاب. أما في التمهيد فقال الفريوي: «إن الأنسب أن نفكِّر من داخل الميتافيزيقا حتى نتقن لعبة الخروج عنها، ولا يتحقق هذا الإمكان إلاّ إذا فكّرنا مجدَّداً، وبعمق، في وجود الإنسان. رسم هيدغر، لهذه الغاية، تخطيطة متماسكة حملها كتابه الوجود والزمان انقطاعاً لا يتجاور مع الأنطولوجيات القديمة، إنما يرسم معالم أنطولوجيا أساسية، تحتضن سؤال معنى الوجود، اهتداء بموجود هاد يحمل وعي وجوده بذاته، إنه يوجد دون الموجودات، وإنه قادر على تأكيد وجوده، مثل الإنسان موضوع الرهان الأنطولوجي، وحاملاً لما سماه هيدغر الموجد، يفهم الموجد وجوده الخاص ابتداء من وجوده الخاص بما هو موجود يسأل عن وجوده، ومتفهم لما يتحقَّق عبر إشكالية الاستسآل التي لا تنفصل عن سؤال الوجود؛ فتحليل بنية الموجد الأنطوقية – الأنطولوجية هي الخيط الهادي إلى عبور ضفة الميتافيزيقا التقليدية نحو أنطولوجيا أساسية»([37]).
  3. 9. وفي الوقت الذي ظلَّ فيه المترجمون العرب تتراوح اجتهاداتهم بين تقديم ترجمات عدة لمصطلح (Dasein) الهيدغري، آثر الدكتور فتحي المسكيني البقاء عند تعريب هذا المصطلح إلى «دازين»، وكان ذلك يتكرَّر في كل بحوثه عن فلسفة هيدغر حتى استقر عليه في ترجمته التاريخية لكتاب «الكينونة والزمان» عام 2012، بل عرب مصطلح هيدغر (Da – sein) إلى دازين أيضاً([38]). وتبعه في هذا المنحى الدكتور عمارة الناصر في ترجمته لكتاب هيدغر «الأنطولوجيا.. الهرمينوطيقا الواقعانية» عام 2015، إلاَّ أن تعريبه للمصطلح ذاته اتخذ رسماً آخر هو «دزاين» من دون تأكيده للفكرة وراء هذا الرسم الذي يختلف عن رسم الدكتور المسكيني، حتى يقول: «عندما نترجم كلمة Dasein إلى دزاين فهو دزايننا الخاص؛ هو كينونتنا الناطقة بالعربية، وليس شيئاً آخر غير ذلك، فما نفهمه عبر ترجمة نصوص هيدغر هو ما نكونه لحظة الترجمة، لحظة تمثلنا لما نفهمه، وذاك فخ ينصبه هيدغر لقارئه عبر حلقة الارتداد التي يتعذَّر الخروج منها دون إذن من هيدغر نفسه، إنه يسجننا داخل اللغة مما يجعل البعض يرى أن نصوصه ليست مُعطاة للترجمة»([39]).
  4. 10. في ترجمة أولى من نوعها إلى العربية، ينهض بها مترجم عراقي لكتاب مارتن هيدغر «مدخل إلى الميتافيزيقا»، آثر الدكتور عماد نبيل على ترجمة مصطلح (Dasein) بقوله «إن كلمة دازاين تُترجم بالعادة إلى الوجود، لكن هيدغر يقسِّم تلك الكلمة إلى مقطعين؛ المقطع الأول Da وتعني هناك، والمقطع الثاني sein ويعني وجود، ثم بعد ذلك يُعرِّف المقطعين ككلمة واحدة وهي «الوجود = هناك» في العالم. وعموماً، فإن هيدغر يعني بتلك الكلمة أيضاً وعي الإنسان، الوجود التاريخي الذي يتطلَّع دائماً هناك خلف أو أبعد من هنا أو أبعد من الحاضر»([40]).

وكان نبيل في مقدَّمة الكتاب المترجم قد ذكر المعطيات نفسها، لكنه أكَّد فيها بأنه يُترجم هذا المصطلح ككلمة واحدة إلى «الوجود – هناك – في – العالم»([41]). ولا يدخر الدكتور عماد نبيل جهداً مميزاً في ترجمة المصطلح ذاته بالرسم (Da-sein) إلى «الوجود الإنساني هناك في – العالم»([42]).

***

هكذا، وعبر خمسة وسبعين عاماً مرَّت حتى كتابة هذا البحث، تداول عشاق النَّص الفلسفي الهيدغري مهمة ترجمة وتعريب مصطلح (Dasein) كأنموذج مركزي في خطاب فلسفة هيدغر، والعصب الحيوي في بنية الفلسفة الهيدغرية، بدأت الرحلة ترجمية تأصيلية وتفسيرية تأويلية مع عبد الرحمن بدوي، ومرِّت بالاجتهاد ذاته لاحقاً لدى زملائه المصريين أو قل زملاء المدرسة المصرية في ترجمة هذا المصطلح التي وضعت الاجتهاد في ترجمته موضعاً علمياً مسؤولاً، وهو الاجتهاد الذي تنوَّعت مساراته بين تعريب وترجمة في المدرسة التونسية والجزائرية واللبنانية والمغربية والعراقية التي تصدَّت لترجمة هذا المصطلح على أعتاب المدرسة المصرية.

تكشف القراءة العربية في تمثيل ونقل هذا المصطلح إلى اللغة العربية بأنها ذات أفق تواصلي واضح المعالم مع خطاب ونصوص الفلسفة الألمانية في أكثر تجلياتها إبداعاً ذلك الذي يمثله ثعلب الفلاسفة في القرن العشرين مارتن هيدغر، وهي تواصلية فلسفية غير محاكاتية إنما تفاعلية كان الاختلاف الاجتهادي عنواناً بارزاً في مشهدها، بل هي تواصلية مغامِرة أيضاً كونها تحرَّت القبض على دلالة الترجمة استناداً إلى نصوص هيدغر نفسها، لكنه التحرِّي الذي بدا منقوصاً في ظل غياب ترجمة باكرة لنصي هيدغر الرئيسين وهما «الأنطولوجيا.. التأويلية والواقعانية» و«الكينونة والزمان»، والذي شرع هيدغر من خلالهما ببناء دلالة هذا المصطلح وفق رؤية أنطولوجية وليست ميتافيزيقية ذات منحى مثالي، ناهيك عن كتابه «مدخل إلى الميتافيزيقا» الذي توافر فيه هيدغر ذاته على تحليلات أخرى عميقة تتصل بمعنى الوجود ودلالاته الفلسفية بحسب رؤيته الأنطولوجية.

إن غياب قراءة شاملة لنصوص هيدغر، تلك التي تتعلَّق بدلالات مصطلح (Dasein)، أدى إلى التمسك بجانب واحد من دلالة المفهوم كما هو الشأن لدى عبد الرحمن بدوي الذي اصطفى مصطلح تراثي «الآنية» ليعبِّر به عن دلالة الـ (Dasein)، بينما الآنية تعبر، وبحسب نصوص هيدغر نفسها، عن معنى ما هو قائم هناك أو «القيمومة»، فالدلالة العرضية تحوَّلت إلى دلالة كلية لكنها لا تعبر إلاّ عن جانب واحد من دلالة هذا المصطلح.

وربما كان ذلك قد نبَّه الدكتور يحيى هويدي إلى ضرورة الذهاب صوب عمق الدلالة الخاصَّة بهذا المصطلح، وبحسب سياقات استخدام هيدغر نفسه لها، فآثر هويدي ترجمة المصطلح إلى «الوجود لذاته» ليقترب أكثر من روح المعنى فيه، وكان ذلك الاجتهاد له مكانته المهمة في هذا السياق؛ فهو يمثل قطيعة مع توجهات عبد الرحمن بدوي الخاصَّة بترجمة المصطلح كونه يعود إلى الدلالة الجوهرية فيه، وهو ما سوَّغ لنا، على سبيل المثال، باللجوء إلى اصطفاء ملفوظ «ممكن الوجود لذاته» كمقابل ترجمي لـ (Dasein) كما سنبين ذلك في دراسة لاحقة.

عدا ذلك، ظلت ترجمة هذا المصطلح رهينة الاستعانة بالبنية المركبة له بوصفه دالاً مكوناً من لفظين (Da-sein)، كما هو الشأن مع تجربة عماد نبيل أو الاستعانة بملفوظ واحد درجاً على تجربة عبد الرحمن بدوي كما فعل محمد محجوب عندما ترجمه إلى «الموجِد»، وتالياً علي الحبيب الفريوي بالملفوظ نفسه، وبين بدوي «الآنية»، والفريوي «الموجد»، راحت الترجمات تتموضع في سياقات دلالية تحفل باعتباره الوجود – هناك أو ماهية الإنسان هنا أو هناك، ناهيك على توافر عدد لا بأس به من مترجمي نصوص هيدغر على تعريب المصطلح إلى «دازين»، و«دزاين»، و«دازاين». وكل ذلك أثرى المشهد الترجمي العربي الخاص بنقل مفاهيم ومصطلحات مارتن هيدغر إلى العربية خلال الفترة التي تمتد إلى أربعينيات القرن العشرين.

[1]. د. عبد الرحمن بدوي: الموت والعبقرية، ص 20، وكالة المطبوعات، الكويت، ودار القلم، بيروت، 1945.

[2]. د. عبد الرحمن بدوي: الموت والعبقرية، ص 21 – 22.

[3]. د. عبد الرحمن بدوي: الموت والعبقرية، ص 22.

[4]. د. عبد الرحمن بدوي: الموت والعبقرية، ص 22.

[5]. د. عبد الرحمن بدوي: الموت والعبقرية، ص 22.

[6]. د. عبد الرحمن بدوي: الموت والعبقرية، ص 22 – 23.

[7]. د. عبد الرحمن بدوي: الموت والعبقرية، ص 23 – 24.

[8]. د. عبد الرحمن بدوي: الموت والعبقرية،  ص 25.

[9]. د. عبد الرحمن بدوي: الزمان الوجودي، ص 4 – 5، دار الثقافة، بيروت، ط 3، 1973.

[10]. د. عبد الرحمن بدوي: الإنسانية والوجودية في الفكر العربي، ص 80، وكالة المطبوعات، الكويت، ودار القلم، بيروت، طبعة 1982. 

[11]. د. عبد الرحمن بدوي: دراسات في الفلسفة الوجودية، ص 119، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1980.

[12]. كانت هذه المقالة قد نشرت في مجلة (الثقافة) المصرية، العدد (20)، آذار/ مارس 1950. وعاد ونشرها في كتابه: «نحو الواقع.. مقالات فلسفية»، دار الثقافة والنشر والتوزيع، القاهرة، 1986.

[13]. مارتن هيدغر: في الفلسفة والشعر، ترجمة: د. عثمان أمين، المقدِّمة، ص 10، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة، 1963.

[14]. مارتن هيدغر: ما الفلسفة؟ ما الميتافيزيقا؟ هيلدرلن وماهية الشعر، ترجمة: فؤاد كامل ومحمود رجب، مراجعة وتقديم: عبد الرحمن بدوي، ص 9، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، 1974.

[15]. محمود رجب: المصدر السابق نفسه، ص 25.

[16]. محمود رجب: المصدر السابق نفسه، ص 39.

[17]. محمود رجب: المصدر السابق نفسه، انظر: الهامش رقم 3، ص 25.  

[18]. د. عبد الهادي أبو ريدة (محقق): رسائل الكندي الفلسفية، ص 98،  

[19]. ريجيس جوليفيه: المذاهب الوجودية.. من كيركجورد  إلى جان بول سارتر، ترجمة: د. فؤاد كامل، ص 69، الدار المصرية  للتأليف والنشر، القاهرة 1966. 

[20]. محمود رجب: الميتافيزيقا عند الفلاسفة المعاصرين، انظر: ص 43، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1970.

[21]. محمود رجب: المرجع السابق نفسه، انظر: ص 46.

[22]. محمود رجب: المرجع السابق نفسه، انظر: ص 71.  

[23]. محمود رجب: المرجع السابق نفسه، انظر: ص 71.

[24]. محمود رجب: المرجع السابق نفسه، انظر: ص 71، الهامش رقم 2. 

[25]. مارتن هيدغر: ما الفلسفة؟ ما الميتافيزيقا؟ هيلدرلن وماهية الشعر، ترجمة: فؤاد كامل ومحمود رجب، مراجعة وتقديم: عبد الرحمن بدوي، انظر: ص 115، وص 135، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، 1974.

[26]. د. عبد الغفار مكاوي: نداء الحقيقة، انظر: ص 11، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، 1977.

[27].  د. عبد الغفار مكاوي: المرجع السابق نفسه، ص 49، الهامش رقم 1.

[28]. د. عبد الغفار مكاوي: المرجع السابق نفسه، ص 49.

[29]. د. عبد الغفار مكاوي: المرجع السابق نفسه، ص 52.

[30]. د. عبد الغفار مكاوي: المرجع السابق نفسه، ص 49.

[31]. مارجوري جرين: مارتن هيدغر، ترجمة: مجاهد عبد المنعم مجاهد، ص 16، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1973.

[32]. مجاهد عبد المنعم مجاهد: هيدجر.. راعي الوجود، ص 79، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، 1983.

[33]. مارتان هايدقار: معضلة الحقيقة، ترجمة: د. شهاب الدين اللعلاعي، ص 22 – 23، الدار التونسية للنشر، تونس، 1986.

[34]. فرانسواز داستور: هيدغر والسؤال عن الزمان، ترجمة: د. سامي أدهم، ص 32، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1993.

[35]. محمد محجوب: هيدقر ومشكل الميتافيزيقا، ص 82، دار الجنوب، تونس، 1985.

[36]. محمد محجوب: المرجع السابق نفسه، ص 85.

[37]. د. علي الحبيب الفريوي: مارتن هيدغر: نقد العقل الميتافيزيقي.. قراءة أنطولوجية للتراث الغربي، ص 42، دار الفارابي، بيروت، 2008. 

[38]. مارتن هيدغر: الكينونة والزمان، ترجمة: د. فتحي المسكيني، مراجعة: إسماعيل المصدق، انظر: المقدِّمة، ص 20، دار الكتاب الجديدة المتحدة، بيروت، 2012.

[39]. مارتن هيدغر: المصدر السابق نفسه، انظر: المقدِّمة، ص 14.

[40]. مارتن هيدغر: مدخل إلى الميتافيزيقا، ترجمة: د. عماد نبيل، ص 208، دار الفارابي، بيروت، 2015.

[41]. مارتن هيدغر: المصدر السابق نفسه، المقدِّمة، ص 12.

[42].  مارتن هيدغر: المصدر السابق نفسه، ص 222.