aljahet

الجاحظ وسردية «النخل» – إبراهيم محمود

تدخل الأشجار، بأنواعها وأجناسها في سباق المواقع، ولكل منها موقعها القائم، وما يرشدنا إليها تبعاً للبيئات، والثقافات الحاملة لها والذين يمثلونها، أو ينشغلون بأمر الشجرة هذه أو تلك، وطرق تواصلهم معها.

وربما كانت النخلة من بين أكثر الكائنات الشجرية، ولعلها أولها فرادة فيما يُنسب إليها من صفات، وما يذهب بها إلى عالم الغرائب، انطلاقاً مما تميّزت به تاريخياً من حضور متعدد الأشكال، وهي في تكوينها تمثّل تاريخاً لا يحسَم في أمر رواته إزاء المتردد عنها، أو المدون باسمها، وما يدخل في عهدتها قيمياً. إننا في تتبعنا لها أو في اهتمامنا بها، إنما نحاول تحرّي هذا البعُد السيري العائد إليها. إنها السيرة الثقافية التي تتأصل في التربة، ومن ثم تشمخ عالياً، وبين الأرومة الغائرة في الأرض والرأس القمعي، تتشكل حكايات وتترى مشاهد حية مؤرشفة في متن التاريخ، وفي الذاكرة الجمعية للذين عنوا ولما يزالوا يعتنون بها، وتتوزع تصورات تتقاسمها اعتماداً إلى المميّزة بها من «مناقب»، والمنسوب إليها من فوائد، وما ينتمي إلى العالم اللامرئي، والعلاجي والميثولوجي تأكيداً على أرومتها الجديرة بالتقدير من بين جملة العائلات النباتية أو الشجرية، وما هو احتياطي غير مسمَّى من جهة الدور الغذائي والمنحى الجمالي المختلف، وما هو منتظَر منها أكثر مستقبلاً ترجمة أمينة لماضٍ زاخر بما  هو «بطولي» صامت، ولكنه ملحوظ ومحسوس يبقيها حاضرة… إلخ، كل ذلك حفّزنا إلى كتابة هذا المقال، إلى القيام بما هو استقصائي وكشكولي، بنيوي ودلالي اعتماداً على كم لافت من المصادر وغيرها، وهي جغرافية وتاريخية وبيئية واجتماعية وثقافية وربما في سياق انتروبولوجي «إناسي»، يليق بمقامها واسمها.

لا تعود النخلة الاسم المفرد والدال على نوع واحد شجرياً وضمن العائلة الكبرى للنبات، إنما تلك التي تتقدم بما يؤهلها لأن تكون معنا وحيثما كنا، وهي بطريقتها هذه تفتح أكثر من محضر ضبط لتاريخ علاقة مع نوع يعدنا بهذا الذي يرقى بنا، بقدر ما يمكّننا من النظر فيه وفيما يخصنا بحكمة أكثر تبصراً، وهي في ميزتها الجمالية القائمة والمختلفة عن بقية شقيقاتها، وهي إذ تقدم بصفتها الأنثوية، فلأنها تمنح المرغوب فيه والمتنوع بسخاء، وهذا يمنحها علامة إضافية على صعيد المنشود صحياً أو وقائياً في الصحة، ويري فتنة اللامكتشف منه بعد..

نعم، أن نسمّي فقرة تقربنا من النخل اعتماداً على ذخيرة ثقافية ذات مدى واسع في العالم الإسلامي، فذلك يشير إلى جانب الضرورة، إنه عالم الثقافة العربية الإسلامية، وكيفية تأصيل الثقافة هذه لذاتها في مختلف مجالات الحياة.

صارت النخلة رمزاً دالاً على ما هو اعتباري، إن تذكرنا الزراعة هنا وصلتها بالمجتمع والمقام الاقتصادي للجماعة الفاعلة في التاريخ، كون الزراعة ممثّلة الوجه الناصع في المجتمع البشري غالباً، بأكثر من معنى بما أنها تجلو مجموعة أبعاد لها ارتباط بكيفية التعامل مع الأرض، واستثمارها، ومن يكون هؤلاء الذين يعملون، ومن هم القيمون عليها، والمستفيدون منها وما يتم إنتاجه أو إخضاعه لعمليات صناعية، وفي الحالات المختلفة يكون لدينا الإنسان الذي يجري الاهتمام به، وما في ذلك من مقاربة لبنية السلطة القائمة ونوعية العلاقات السياسية أو ما يكون عليه وضع أولي الأمر، وأي تربية تتمثل في بنية هذه العلاقات وما يرافقها أو يتبعها من ظهور أدبيات شتى تشير إلى ما هو فني ونقدي وفكري وثقافي عام كما هو الممكن تحريه في أساس أي مجتمع بشري، وما في كل متن وهامش من مستجدات تمثّل ما هو مختلف عليه، وما هو مطروح للتداول أكثر من غيره.

إن تاريخ النخلة ومكونات التاريخ هذا، لهو تاريخ تنوع العلاقات معها، وكيفية إدراجها في سياق العلاقة البينية، بين المالك الأصلي لها، ومن يروم فائدة منها، ولو في المجال الاستهلاكي، بين المعني بها كدلالة على رفاه أو وفرة اقتصادية أو ثراء، من خلال مردودها الاقتصادي وانعكاسها على الواقع المعيشي، والآخر ممن ينتمي إلى مجتمع مغاير، أو ما يأخذ صوب الأطر التنافسية وحتى الدعائية والإعلامية من باب التباهي أو التفاخر بها، وما في ذلك من تحديد قيمي وأخلاقي، تتراءى باسمه سلوكيات الأفراد ومدى ارتباطهم بمجتمعاتهم ونوع انتمائهم.

إن هذا الحضور اللافت للنخلة في الأدبيات الثقافية: العربية الإسلامية، حضور آخر بالمقابل، للمتصور عنها في هذا التنوع الجميل للأدب، والتجارب الفاعلة في فنون إدارة الأرض، والتقسيمات السياسية والجغرافية لها.

الجاحظ وسردية النخل:

إن الجاحظ (ت255هـ) والذي عمَّر مائة عام ونيفاً، يفيدنا في بعض النقاط ذات الصلة بالنخل والتمر، وهي نقاط تدخل فيها الطرافة والحكمة، إذ إن الجاحظ بادي الضحك فيما يشهره لنا، من خلال الضم اللافت بين المفارقات، حتى في أبسط الأمور، وللنخل مقال ومقام في أدبياته، من خلال طبيعة حياته، أو طريقة العيش لديه، أو ما يدخل في مضمار أدبيات النخلة الكبرى.

في كتابه «في الشارب والمشروب»، ثمة رحلة مغرية، جديرة بمتابعتها، في عالم الشراب ومصادره، وهو ما كان عليه التصدي لعالم كهذا في مدونته المعرفية، إلا شعوراً منه بأهمية موضوعه، وهو يلاحظ مدى الانشغال به في مجتمع العصر العباسي الذهبي، كما لو أن ذلك الإكثار من الشراب جاء تعبيراً عن البغددة في المعاش.

إن العلاقة بين الشارب والمشروب تتطلب دقة في المعاينة لكل من المشروب ونوعه أو صنفه ومادته، والشارب بدوره: من يكون، وأي يكون وكيف يكون الإقبال على المشروب ومع من وماذا يطرأ عليه في كل حالة.

يشير إلى المكروه في نوع محدد من المشروب، عندما يطرح جملة أسئلة عن صنعة المشروب، ومن ذلك (ولم كرِه المشروب..) ليتحدث تالياً، عما يغري في الإقبال عليه، وما يحصل للشارب من لذة (وإن شرف منه الصرف بغير مزاج، تحلل بغير علاج. ويكفي الأحزان والهموم، ويدفع الأهواء والسموم، ويفتح الذهن، ويمنع الغبن)، وما يتعرض له بالمقابل من سوء طباع (ومع كل ذلك فهو يلجلج اللسان، ويكثر الهذيان، ويظهر الفضول والأخلاط، ويناوب الكسل بعد النشاط…)، لينتقل إلى فصل منه، ومن ذلك (وأنواع ما يعالج من التمور والحبوب فشربها الداء العضال..)، ليتوقف عند بعض أنواع التمور هنا (وما تقول في الدوشاب البستاني، سلالة الرطب الجني بالحب الرتيلي، إذا أوجع ضرباً، وأطيل حبساً، وأعطي صفوة ومنح رفده..)، وكذلك حين يمضي بأسئلته بعيداً، وما فيها من عروض معروفة، للفت الأنظار والوقوف على حقائقها في المجتمع (وما تقول في المعتق من أنبذة التمر، فإنك تنظر إليه وكأن النيران تلمع من جوفه. قد ركد ركود الزلال حتى لكأن شاربه يكرع في شهاب، ولكأنه فرند «ما يُرى في صفحة السيف من أثر تموج الضوء» في وجه سيف، وله صفيحة مرآة مجلوة تحكي الوجوه في الزجاجة، حتى يهمَ فيها الجلاس؟!..)، ليكون ذلك في خدمة ما هو قائم فقهياً أو ما هو مبثوث في بنية ثقافة مجتمعية، وكما هو دوره في التعبير عن ذلك، وقد تنوعت الأشربة (وإن كان قصدي لذكرها في صدر الكتاب لأقف على حلالها وحرامها، وكيف اختلفت الأمة فيها، وسبب اعتراض الشك واستكمال الشبهة)1.

الجاحظ لا يحدد موقفاً مباشراً مما يتحدث عنه أو فيه، وإنما يضع موضوعه بين يدي قارئه، بقدر ما يترك المجال مفتوحاً أمامه، ليكون شريكه في تبين حقيقة القول. وما يعتمده في أسلوب الكتابة من خلال مخاطبة من يهتم بأمره، أو يريده ملتفتاً إليه، يتعلق بتنوع مجالات القول وتعدد أوجه الحقيقة رغم أنها واحدة، ولكن صورها ترسم خلافات تترى بين الناس، عائدة إلى أذواقهم وميولهم وأهوائهم ومواقعهم، وهذا ما يمكن تلمسه في نهاية رسالة، عندما يعتبر ما تطرق إليه دافعاً حيوياً من دوافع المعرفة التي تهمه في أمرها، كما يهمه أمر مجتمعه، وتحديداً أكثر عندما يحيل الموضوع بصدد المشروب ومن يشرب إلى عالم الفقه والمرجعية الدينية وكيفية تلقيها.

ويتضح مسلك الجاحظ في الكتاب، كما تتبين رؤيته لعالمه، من خلال هذا التوسع في حقل كتابته الواسع، كما لو أنه يستهدي بملاحظة خاصة إلى جانب الاجتهاد في تحري صنوف القول في القضية الواحدة، كما في (كتاب الحيوان)، وقد تداخلت ألوان من المعرفة: الشرعية أو النقلية والعقلية، إلى درجة صعوبة الفصل بينهما واقعاً.

إن هذا العالِم الإسلامي والبصري من جهة الإقامة، عندما يسرد حكاية الغراب وفصولها في مشاهد حية طريفة ولا تخلو من دقة في المعاينة والمقاربة لسلوك الغراب، وصلة ذلك بما يعتمل شعورياً داخلنا، لا يدعنا وشأننا، رغم المسافة التاريخية الواسعة فيما بيننا، وإنما يضفي جدة تخترق تاريخها السالف، في تحري الطباع.

ولعله في حديثه عن «عجيبة للغربان بالبصرة»  يحاول الدفع بموضوعه صوب الراهن المتجدد، ويبتغي منا إيلاء ما يقوله الأهمية التي تعنينا نحن، وكيف تكون الصلات بين الحيوان والنبات ونحن في الوسط الطبيعي نتحرك، كما ننظر ونتعلم (وبالبصرة من شأن الغربان ضروب من العجب، لو كان ذلك بمصر أو ببعض الشامات «بلاد الشام»: لكان عندهم من أجود الطلسم. وذلك أن الغربان تقطع إلينا في الخريف، فترى النخل وبعضها مصرومة «قطِع ثمرها»، وعلى كل نخلة عدد كثير من الغربان، وليس منها شيء يقرب نخلة واحدة من النخل الذي لم يصرم، ولو لم يبق عليها إلا عِذق واحد. وإنما أوكار جميع الطير المصوّت في أقلاب تلك النخل «أي السعف الطالع من قلب النخلة»، والغراب أطير وأقوى منها ثم لا يجترئ أن يسقط على نخلة منها، بعد أن يكون قد بقي عليها عذق واحد..).

إن هذه العجيبة التي يشير إليها، ويظهرها مثال اللغز في أماكن أخرى «مصر وغيرها»، تجلو علاقة بين كائنين مختلفين في النوع، بقدر ما يشدنا إلى محاولة إماطة اللثام عن سلوك الغراب، وكيفية تعامله مع النخلة وثمرها.

ربما كان هناك دافع غريزي خاص بطبع الغراب والحس المتقدم غريزياً لديه في تحديد علاقته الحيوية بالنخلة، راسماً حدوداً لها، من خلال الممتد أمامه، وما يصله بالحياة، وموقعه بين الكائنات الحيوانية والنباتية.

الجاحظ يقرّبنا من العالم الغريزي المرسوم بإرادة إلهية، كما لو أنه يوضح بعضاً من العالق سابقاً، وهو يرى تجمع الغربان على نخلة واحدة، دون المضي أكثر مما قاله (ولو أن الله عز وجل أذن للغراب أن يسقط على النخلة وعليها الثمرة لذهبت، وفي ذلك الوقت لو أن إنساناً نقر العذق نقرة واحدة لانتثر عامة ما فيه، ولهلكت غلَّات الناس. ولكنك ترى منها على كل نخلة مصرومة الغربان الكثيرة، ولا ترى على التي تليها غراباً واحداً، حتى إذا صرموا ما عليها تسابقن إلى ما سقط من التمر في جوف الليف «اللب» وأصول الكرَب «أصول السعف الغلاظ العراض» لتستخرجه كما يستخرج المنتاخ الشوكَ «المنقاش الذي ينزع به الشوك»..).

لعله السؤال الجدير بالطرح، وهو: هل لدى الغراب غريزة متبصرة بما هو اقتصادي؟ إذ إنه يجتاح شجرة واحدة، وليس كل الشجر، تقديراً غريزياً منه، بضرورة الإحاطة الغريزية بالحاجة مستقبلاً، وللبقاء طبعاً.

فأن يقع الاختيار على نخلة محددة، ولدى الغراب تلك الفراسة الدقيقة في الاختيار، فلأنه، كما يبدو، يكون قد أحاط بعموم النخل، وقدّر حاجته غريزياً، بطريقته الغرابية الخاصة، ولا بد أن يكون التجمع على نخلة واحدة، الاحتفاظ بالبقية لوقت آخر، وتلك ذاكرة الغراب الغريزية أو الطبيعية وهي تصل ما بين عامة الغربان وبالجملة.

ولكن ملاحظة الجاحظ تهيب بنا إلى تبين نباهة الاقتصاد مما هو محسوس في الطبيعة وتحصيل معرفة أدق فيها.

وثمة مقابلة طريفة بين الغربان التي تألف المكان الذي ينتشر فيه النخل، وخلافه، وكيف يتم التعامل مع كل حالة، وحتى فيما يتعلق بسلوك الغربان في الحالتين، والملاحظة التي تمثّل وجهاً من وجوه المعرفية الحسية وفعل التمويه للنخل وتأثير ذلك في الغربان، وذلك في عنوان فرعي لافت وهو (حوار في نفور الغربان من النخل):

(فإن قال قائل: إنما أشباح تلك الأعذاق المدلاَّة كالخرَق السود التي تَفزع الطيرَ أن يقع على البزور، وكالقوادم السود التي تغرز في أسنمة ذوات الدّبَر من الإبل، لكيلا تسقط عليها الغربان. فكأنها إذا رأت سواد الأعذاق فزعت كما يفزع الطير من الخرق السود..)، فيرد الآخر عليه (قد نجد جميع الطير الذي يفزع بالخرق السود فلا يسقط على البزور، يقع كله على النخل وعليه الجمل، وهل عامة الطير وُطور«أو أوكار» إلا في أقلاب النخل ذوات الحمل..)، ليستمر الحوار، وصولاً إلى تبين مكانة البصر باعتبارها مدينة تمرية، عبر شواهد شعرية، ومن ذلك:

ومن زردَك مثل مكن الضبــــــــاب      يناوح عيدانـــــــه السيمكان

ومن شَكر فيه عشَّ الغـــــــــــــراب       ومن جيسران وبنداذجــــان… 2.

إن النبات مقحَم في العالم العقيدي، وفي تفعيل الأنسنة التي عرفها عصر الجاحظ، فهو لا يقول رأيه فقط، وإنما يرتقي إلى مستوى لسان حال ثقافة جمعية نسبية، تمثل جماعة قائمة مؤثرة في المجتمع: المعتزلة خصوصاً، ويكون للطرافة التي تتميز بها مؤلفات له، ذلك المغزى الدنيوي والنفسي، لتقبل المثار من خلاله أو باسمه هنا.

الجاحظ متغلغل بأثرياته النصية وهي في طابعها الاسكتشي أحياناً وهي في خفة المودع فيها، يقارب سمة المفارق في مجتمعه الرحب والذي يتقبل ألواناً مختلفة من الثقافات، فهو في إشارته إلى أحدهم في سياق المأكول، يذهب بقارئه إلى أبعد من حدود مجرد الأكل (وكان عبدالله بن حبيب العنبري، أحد بني سمرة، يقال له: آكل الخبز، لأنه كان لا يأكل التمر، ولا يرغب في اللبن، وكان سيد العنبر في زمانه، وهم إذا فخروا قالوا: منا آكل الخبز، ومنا مجير الطير! يعني ثوب بن شحمة العنبري، وهم – مثلاً- يقدمون اللحم على التمر، وبلسان أحدهم:

قَرتنــي عُبيدُ تمــــرها وقربتهــــــــــــا   سنامَ مُصراة ٍ قليـــــــــل ركوبهـــا

فهل يستوي شحـــــــــــمُ السنام إذا شتا   وتمــــرُ جُواثا حين يُلقي عسيبهـــا3

يقترب الجاحظ من مهام الانتربولوجيّ، لكنها أقرب إلى المصور النابه من سواه في موضوعات كهذه!

لسنا في مواجهة سجال حرفي، وإنما هو الاختلاف على موقع النخل في المكان، وكيفية التصرف مع الغراب، عبر إجراء تغيير على النخل، في أوقات محددة من باب الحماية، وسلوك الغراب المختلف في كل موقف، ولعله الاختلاف الأكثر براعة في المشاغل التي تهم المعنيين بما هو زراعي، وحاجات الناس وتدبير شؤونهم في سياق العلاقات مع ما هو بيئي أو حيواني، وأثر هذه التحولات في سلوكيات الناس تبعاً لنوعية أرزاقهم ومواصفاتها.

وإن الثعالبي (ت 429هـ) الذي يعاين النخلة من زوايا مختلفة، وهي شجرة لها موقعها وتصنيفها زراعياً، يحيلها إلى اللغة، بقدر ما تبرز اللغة شاهدة على مستوى التطور أو التحول في المفهوم المتعلق بالنخلة كاسم ومقام.

عندما يتحدث عن قصر النخل وطولها، وما في ذلك من تجسيد لدقة الملاحظة والتنوع في خاصية النخلة:

(إذا كانت النخلة قصيرة فهي الفسيلة والوديَّة، فإذا كانت قصيرة تنالها اليد فهي القاعد، فإذا صار لها جذع يتناول منه المتناول فهي جبَّارة، فإذا ارتفعت عن ذلك فهي الرَّقِلَة والعيدانة، فإذا زادت فهي باسقة، فإذا تناهت في الطول مع انجراد فهي سحوق..).

وما يشير إلى لائحة نعوتها، وهي في أمكنة مختلفة، والحالات التي تكون فيها أو عليها من جهة الهيئة:

(إذا كانت النخلة على الماء كارعة ومُكرَعَة، فإذا حملَت في صغرها فهي مهتجنة، فإذا كانت تُدرك في أول النخل فهي بكور، فإذا كانت تحمِل سنة وسنة لا، فهي سنهاء، فإذا كان بُسرُها ينتشر وهو أخضر فهي خضيرة، فإذا دقَّت من أسفلها وانجرد كرَبها فهي صُنبور، فإذا مالت فبُنيَ تحتها دكان تعتمد عليه فهي رُجبيَّة، فإذا كانت منفردة عن أخواتها فهو عَوَانة..).

وما تتميز به النخلة جهة المراحل التي تمر بها، أو التسلسل في عملية النمو، ووصف كل مرحلة:

(أطلعت، ثم أبلحت، ثم أبسرت، ثم أزَّهت، ثم أمعَت، ثم أرطبت، ثم أتمرت..)4.

الثعالبي في اجتهاده اللغوي، أو مكاشفته اللغوية للنخلة، ونقلها من إطار الحسي، باعتبارها شجرة، إلى المدونة اللغوية، مهما كان مصدر اجتهاده، يعلمنا فيما قام به، بالمرتبة اللافتة تلك التي احتلتها النخلة، وتنامي الاهتمام بها في المجتمع على صعيد التنوع الغذائي، وصلة كل ذلك بالحاجات المتزايدة إلى الاستهلاك لأن ثمة تطوراً يسمى.

إن الاختصار المحسوس للنخلة وهي تمر في مراحل مسماة، أشبه برموز كيميائية دالة على رقي الملاحظة هنا.

وهو الرقي الذي يستمد خاصيته الاجتهادية، وحتى العبادية المعبّرة من دعامة دينية: عقائدية. إنه الواجب الذي يعزز موقع الكاتب في مجتمع عرِف بحدوده الإمبراطورية وهو يعتز كما يتعزز به في قراءته الميدانية5.

لكن الجاحظ يتضمن رؤية الثعالبي اللغوية ويتعداها، ففيه يقف اللغوي مسانداً الفقهي إلى جانب التاريخي والاقتصادي والعجيب الغريب ترجمة لعالم كان يتحرك على أكثر من مسار تصوري واعتقادي، وهو في إطار سردية النخل شأنه في ذلك شأن جملة موضوعاته وضِع لنفسه لبنات عالم يشر إليه، ولكل موضوع بصمة تتداخل مع سواها، وأن يتحدث الجاحظ عن النخل حديث شاهد عيان من جهة «ولكم عايش البيئة النخلية العراقية خصوصاً»، وحديث متحرَّ للتحولات الثقافية ذات الصلة، وحديث متلقط أخبار، وحكايات، وما يندرج في مجال الغفل من الاسم.. إلخ، إن كل ذلك يضعنا إزاء رجل مأهول بثقافة جامعة، كما لو أن الذي أودعه نصه، هو ما أراده من نصّه «النخلاوي» أن يودعه أهميته، مكانته، كما هو مقرؤنا اليوم!

مصادر وإشارات:

1- الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب البصري: رسائل الجاحظ، شرحه وعلَّق عليه: محمد باسل عيون السود، منشورات: محمد علي بيضون، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1/ 2000،ج4، ص202- 204-206-208-215..

2- الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: كتاب الحيوان، تحقيق وشرح: عبد السلام هارون، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط3/1969، م3، ص 453- 456.

ويأتي ياقوت الحموي على ذكر هذه العجيبة الجاحظية، من خلال ثلاث أعجوبات «حسب تعبيره» بالبصرة، وهذه الأعجوبة الثالثة هي تلك التي أوردها الجاحظ في سياق نصه الموسوم، كما جاء ذلك في كتابه الموسوعي المعروف بـ (معجم البلدان)، دار الفكر، دار صادر، بيروت، د. ت، م1، ص439-440.

3- الجاحظ: البخــــلاء، كتاب السفير، منشورات دار المدى/ 2003، ص 292.

4- الثعالبي، أبو منصور عبد الملك بن محمد: فقه اللغة وسر العربية، تحقيق: سليمان سليم البواب، منشورات دار الحكمة، دمشق/1984، ص 322.

5- ثمة كتب متخصصة في النخل، ألّفت قديماً، تعبيراً عن الحاجة إلى معرفة مكتوبة للاستفادة منها، ولأن ما كان معايشاً قد جسّد الاهتمام الكبير بالنخل، ومن هذه الكتب (النخل والكروم) لأبي سعيد عبد الملك الأصمعي / 216 هجرية وكتاب) النخل( لأبي حاتم سهيل السجستاني / 255 هجرية، ولم أتمكن من الحصول عليها، للاستفادة منها في بحثي، ولهذا أورد أسماءها، وهي منقولة من موقع (ماجدة مكتوب) السالف ذكره.

إبراهيم محمود – دهوك