كتبت الدكتورة مريم الهاشمي عن التحولات السردية في الأدب الإماراتي كتاباً مهماً، تناولَ أهم التحولات في الموضوعات؛ ثم التقنيات والبنى السردية الخاصة بالرواية الإماراتية، وعنوانه (التحوّلات السردية في الأدب الإماراتيّ – دراسة فنية)، وهو من منشورات مركز أبوظبي للغةِ العربية، وقد شجّعني ذلك على التأمل في التحولات السردية في القصة القصيرة الإماراتية، ذلك بالرَغم من أن بعضَ ما ذكرتهُ الدكتورة مريم عن الرواية الإماراتية ينطبقُ أيضاً على القصةِ الإماراتيةِ من حيث الطبيعة الأدبية الجامعة للنوعيْن، بالرَغم من افتراقِهما في القالب الصِياغيّ أو التكوين الشَكليّ، وعلى أيّةِ حال، فكلامي الآتي ليس سوى تأمُّلاتٍ انطباعيةٍ في الموضوع المذكور، وقد أسعى في المستقبل إلى التوسّع في توضيحِ هذه التأملات بصورةٍ أقربَ إلى المنهج النقديّ. أما الآن فأقولُ إجمالاً إن تحولات القصة القصيرة الإماراتية هي نِتاج التحولات السياسية التي شهدتها الإمارات منذ أواخر الستينيات، من الاجتماع الميمون لقادة الإمارات بجهود المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيّان، طيّبَ الله ثَراه، وصولاً إلى قيام الاتحاد وبناء الدولة، ثم الاهتمام بالقضايا القومية والدولية، وكذلك التحوّلات الاجتماعية، والتعليمية، والاقتصادية، والديموغرافية؛ سريعة التعاقب وكثيرة التنوّع التي شهِدَها مجتمعُ الإمارات، وقد أثّرت هذه التحوّلاتُ جميعاً في مَسار القصة القصيرة أكثرَ ما يكون من أشكال الأدب السرديّ في البدايات، إذ كانت القصةُ القصيرةُ الشكلَ السرديَّ المُفضَّلَ للأدباء الإماراتيين منذ نهاية الستينيات، وطيلة حقبة السبعينيات من القرن الماضي، حتى جاءت الرواية فيما بعد بزَخَمٍ كبير، واتخذت موقعاً ظاهراً في الساحةِ الأدبيةِ في الإمارات، وبإمكان المَرءِ أن يجدَ آثارَ تلك التحولات في سعي الأدباء الإماراتيين إلى كتابةِ قصةٍ ناضجةٍ بالمعنى المعاصِر أولاً، ثم تعدُّدِ اتجاهات القَصّ وأساليبهِ ثانياً، مثلَ الكتابة الواقعية المَشوبة بالكلاسيكية، غيرِ الخاليةِ في الوقت نفسهِ من التهكُّم (قصص محمد المرّ)، أو غيرِ المُتخلِّصةِ من سَطوةِ أسلوب الراوي العليم (القصة الأولى لشيخة الناخي)، واستعمال أسلوب التداعي الحرّ بوضوح (قصص سلمى مطر سيف)، ثم جاءت العجائبية، والواقعية السحرية، بالإضافةِ إلى الصياغات والسياقات الحداثية (قصص عبد الحميد أحمد)، واللغة المكثفة الرمزية، بالإضافةِ إلى التمحور حولَ ذاتِ الشخصية، بأبعادِها النفسية، والجنسية أحياناً (قصص عبد الله صقر)، ورسم أنواع الذات والنفس الإماراتية حالَ انغمارِها في الأحداث، في تُؤَدةٍ وتوصيفٍ لا يخلو من الشَجَن (قصص علي عبيد الهاملي ومريم جمعة فرَج)، وغيرها، مع التنبيه إلى أن هذه الأساليب قد تتداخَل في قصص القاصّ الواحد أو القاصّة الواحدة من هؤلاءِ الأُدباء. وكما تنوّعت الأساليب السردية تنوّعت الموضوعاتُ بدورها تنوّعاً عكسَ التأثرَ بالتحولات سابقة الذِكر، فمنها الحنينُ إلى ماضي الحياةِ الإماراتية، خاصةً علاقةَ الإماراتيين بالبحر، وقد تشهدُ أولُ مجموعةِ قصصٍ جماعيّةٍ نُشِرت في الإمارات (1986) على ذلك بعنوانها (كلنا.. كلنا.. كلنا نحبُ البحر)، ومن تلك الموضوعات المُهمَّشون في المجتمع، خاصةً العِمالةَ الوافدة، كما في (أشياء كويا الصغيرة) لعبد الحميد أحمد، و(إتهاد.. كليج.. بيان) لناصر الظاهري، ومنها أيضاً موضوع القضية الفلسطينية، كما في قصة (شادي) لعبد العزيز خليل، وقصة (الرحيل) لسعاد العريمي، كما كانت الذاتيةُ والوجدانية حاضرةً في قصصٍ أخرى كثيرة، ومن الطريفِ أن عناوينَ القصص ذاتَها، أو عناوينَ بعض المجوعاتِ القصصية في الثمانينيات قد أصبحت أُمثولاتٍ (أيقونات) في الأدبيات الإماراتية، مثل (الخشبة) لعبد الله صقر، و(الرحيل) لشيخة الناخي، و(السباحة في عَيْني خليجٍ يتوحَّش) و(على حافّةِ النهار) لعبد الحميد أحمد، و(طُفول) لسعاد العريمي، و(عندما تُدفنُ النخيل) لناصر الظاهري، و(الخروجُ على وَشْم القبيلة) لمحمد حسن الحربي، و(عصفور الثلج) لإبراهيم مبارك، و(علياء وهموم سالم البحّار) لجمعة الفيروز، وغيرها كثير، بل إن عنوانَ أولِ مجموعةِ قصصيّةٍ جماعيّة (كلنا.. كلنا.. كلنا نحبُ البحر) المذكورَ آنفاً؛ قد أصبحَ أُمثولةً لعناوين مجموعاتٍ قصصيةٍ لاحِقة، مثل (كلنا السِدرة.. كلنا نحبُ البحر)، ومثل (نشيدُ الساحِل.. صفيرُ البَرّ)، وهما مجموعتان حديثتان لمُختاراتٍ قصصيّة من الإمارات.
في العقديْن الماضييْن بدأت تحوّلاتٌ أخرى في الظهور، جاءَ معظمُها من الجيل الذي ظهرَ في الساحةِ الأدبيةِ الإماراتية مع بدايةِ القرن الجديد، ومن أهمِّ تلك التحوّلاتِ الجديدةِ في نظري طُغيانُ التأثر بالشِعر الحديث في الكتابةِ السَرديّة، وأعني طُغيانَهُ حتى على مَسارِ الأحداث القصصيّة، وعلى وضوح الحُبكة أحياناً كثيرة، وقد يعكسُ هذا ضعفاً لدى بعض الكُتّاب في صياغةِ قصتِه، ولعلّ هذا ما دفعَ بعضَهم أيضاً إلى المُغالاة في اقتباس العبارات والنصوص الأدبية، العربية والعالَمية، بل والدينيةِ أيضاً، لخلقِ (ديباجةٍ) تُوشّى بها مقدمةُ القصة، التي هي في غِنىً أصلاً عن ذلك. إن القارئَ الذي يدفعُ ثمناً نظيرَ حصولِهِ على قراءاتٍ قصصيّةٍ مُشَوِّقة، قد لا يحصلُ على بُغيتِهِ في مثلِ تلك القِصص، حيث تضعُ “الشِعريّةُ الحداثيّةُ” التي تصطبِغُ بها تلك القصصُ حواجزَ دُخانيّةً على مَجرى الأحداث، لا لِداعٍ سَرديّ، بل لرغبةٍ في مُجاراةِ لغةِ الشِعر الحديث، لتجميلِ الصياغةِ السرديّةِ بها، وربّما “غَيْرَةً” من جماليّات لغةِ ذلك الشِعر، لكنّ قارئَ القصةِ القصيرة – في غالبِ ظنّي – لا يبحثُ عن الشِعر، بل عن السَرد، والحَدَث، والعقبات والتعقيدات، وعن الذُروةِ في الحِكاية، فمِن أجل هذا جاءَ القارئُ هنا، فهو يريدُ التشويقَ والمُتعة، لا الشعورَ بالمَلَل، وأيُّ مَلَلٍ أكبرُ مما تُسبِّبُهُ قصةٌ ذاتُ لغةٍ مُكثَّفة، تتجمَّلُ دونَ حَدَثٍ أو هدَفٍ سرديٍّ واضح، ودون أن يُعلَمَ مَن يفعلُ ماذا، وأين ذلك، ومتى، وكيف، بل هي كتابةٌ في شِبهِ عَماء. ويجبُ عليَّ هنا أن أُبيِّنَ أنني لا أقصِدُ بكلامي السابق اللمساتِ الشِعريّةَ التي تأتي في الكتابةِ السرديّةِ عفوَ الخاطر، وبعبقريّةِ الكاتب؛ بل أقصِدُ تحويلَ مجرى القصةِ السرديّ عَمداً كي يكونَ شِعريّاً، وفي هذا السياق أتذكرُ حضوري ندوةً نظّمها مركزُ أبوظبي للغةِ العربية ضمن فعاليات معرِض القاهرة للكتاب عامَ 2023، شاركَ فيها كلٌ من الأديبيْن الإماراتيّيْن عبد الحميد أحمد وناصر الظاهري، وكان من بين ما تحدّثا عنه في الندوة الأسلوبُ الشِعريّ في القصةِ القصيرة، وحين جاءَ وقتُ مداخلاتِ الجمهور الحاضر، استأذنتُ في أن أوضِّحَ وجهةَ نظري في هذا السياق، وهي ذاتُها المذكورة آنفاً بشأن طُغيانِ التأثر بالشِعر الحديث في الكتابةِ السَرديّة، وأردتُ أن أضرِبَ مثلاً مُضادّاً، بقصةٍ شابَتْها شِعريّةٌ في الصياغة، لكنها لم تُوغِل في ذلك بالشكل الذي يُشتِّتُ السرد، فحافظت على “السَرديّةِ الحَدَثيّة” التي تُحافِظُ بدورِها على مواضِع “قَدَمي القارئ” أثناءَ تَرحالِهِ في القصة، وكان ذلك المَثَلُ قصةَ (الصدى) لعبد الحميد أحمد نفسِه. بعدَ المُداخَلة علَّقَ الأستاذ عبد الحميد على كلامي قائلاً إن الأسلوبَ الشِعريّ قد يمتزِجُ بالأسلوب القصصيّ حسبَ حاجةِ القاصّ، كما علَّقَ الأستاذ ناصر الظاهري بدورهِ على كلامي قائلاً إن السياقَ أو مجرى الأحداث في القصة هو الذي يُحدِّدُ مقدارَ الحاجةِ إلى الأسلوبِ الشِعريّ في الكتابة، ومع موافقتي لهما فيما قالاه؛ ما زلتُ أرى أن الإيغالَ في الأسلوبِ الشِعريّ يُعطِّلُ السَرد، ويُقلِّلُ من جَودةِ القصة، وقد لاحظتُ مؤخَّراً شيئاً من التراجع عن الأسلوب الشِعريّ في القَصّ لدى بعض الكُتّابِ والكاتبات، وهو أمرٌ إيجابيٌّ من وجهةِ نظري، وعلى سبيل التمثيل لذلك أذكرُ الأديبةَ الإماراتية لُولْوَه المنصوري في مجموعتها القصصية الجديدة (عندما كانت الأرض مُربَّعة)، فقد لاحظتُ أن اللغة الشعريّة في هذه المجموعة أصبحت أقلّ مقارنةً بكتاباتِها السابقة، فقد جاءت قصةٌ واحدةٌ فقط في شكلٍ قريبٍ من قصيدة النثر، وهذا – بالنسبةِ لي – شيءٌ جيدٌ قامت به الكاتبة، فالأسلوبُ الشعريّ – كما لعلّي أوضحتُ من قبل – يُغرقُ الكتاباتِ الأدبيةَ في كثافةٍ من الصور الذهنية التي تُبعد السردَ عن المنطق الضروريّ لجَرَيان القَصّ، ولعلّ تقليلَ لغةِ الشِعر قد أتاحَ مجالاً للكاتبةِ كي تُنوِّعَ في صياغاتِها الأدبيةِ في هذه المجموعة، فقد لاحظتُ – على سبيل المثال – أن السردَ بصيغةِ الفعل المضارع أصبحَ أقل أيضاً في هذه المجموعة، بعدَ أن كان لهُ نصيبٌ كبيرٌ في كتاباتِها السابقة، بل في كثيرٍ من سُرودِ الأدباء والأديبات في الإمارات، وهو كذلك أمرٌ جيدٌ بالنسبة لي، أعني التقليلَ من استعمال صيغةِ الفعل المضارع في السرد، فالسردُ ليس نقلاً مباشراً للواقع كما تُنقل المباريات الرياضية، بل هو “حكايةٌ عما جرى”، تثيرُ الاهتمامَ التأمّلي، وليس الاهتمامَ المباشرَ الانفعاليّ، وإذا كان لا بدّ من استعمال صيغةِ الفعل المضارِع في السرد؛ فلْتكُن في حدود الحاجةِ إليها، لا أن تُصبِحَ هي الأساس، ولعلّهُ لذلك، وفي المقابل؛ حصلَ نوعٌ من التنويع أيضاً في ضمير السارِد، فقد جاءَ كثيرٌ من قصص هذه المجموعة بصيغة ضمير المتكلم قليلةِ الاستعمال، وجاءت قصةٌ قصيرةٌ جداً أشبهَ بالمُناجاة الذاتية (المونولوج)، وهذا التنويعُ أفضلُ بكثيرٍ من البقاءِ ضمنَ الأساليبِ الشائعة، لأنه علامةٌ على التحوّلِ نحو أُفقٍ جديد.