تأرجحت أمام عينّي ذهاباّ وإياباّ.. متمسّكة بأطراف الكرسي الجلدي. خشيت أن تبتلعني في دوّامتها التي لم ولن تكتمل. أغمضت عينيّ هرباً، ولكن..
– افتحي عينيك، وركّزي معها.. يجب أن.. افتحيهما مريم..
عضضت على شفتيّ المرتعشتين بقوّة. وضع يده على يدي الخائفة، فاستسلم جسدي، وهربت تلك الشهقة الغائرة في صدري.
طلب منّي أن أتنفّس بعمق ثلاث مرّات لأهدأ:
– دعهم يغادرون..
– من هم؟
– أنت تعرف.. أولئك الذين يقفون خلف الأبواب والجدران والشبابيك..
بلع ريقه، وفضح نفسه المتوترة، فأتبعت:
– ذلك الجهاز يسجّل كلّ شيء.. سيسمعونه لاحقاً..
ابتسامة جانبية تحمل الكثير من الاستسلام:
– لا يسمعونك.. لن يسمعك أحد غيري.. الآن هنا أنا وأنتِ فقط..
خلال خمس دقائق فقط هدأ جسدي، واختفت كلّ تلك المخاوف والوساوس. لم يدخل فمي سوى ذلك الماء. نظرت لذلك الكوب الحقير، ونزلت دمعة فهمها، ولكنه قرر أن يتجاهلها.. عادت تتأرجح أمام عينيّ المخذولتين يميناً وشمالاً.. يميناً وشمالاً.. يميناً وشمــــــ….
*
أغلقت الباب خلفي. تلاشت أصواتهم. مشيت خطوتين عزلتاني عنهم تماماً. لم أعد أسمعهم.. أسعد لحظات حياتي كانت تلك الثواني التي أقف فيها خارج تلك الأسوار البيضاء العالية قبل أن أركب السيارة، وأطلب من السائق أن يأخذني بعيداً، ليضحك كعادته على طلبي في كلّ صباح، ويأخذني إلى الجامعة. في البداية اعتقدت أنه لا يفهم، ولكن مع الوقت أدركت أنه أيضاً لا يعرف طريق (البعيد)، وإلا لسبقني في الهرب.. لذا اكتفيت بـ (لنذهب)، فلم يعد يضحك أبداً.
*
– مريم.. منظر حقيبتك الجديدة مع فنجان القهوة جميل.. تعالي التقطي صورة من هذه الزاوية..
– واو.. شكراً حصة.. الصورة جميلة جداً.. سأرفعها على الإنستجرام.
نستمتع بالقهوة قبل موعد المحاضرة التالية. مزّقت تلك المتعة والسكون الداخليّ صورةُ معّرف ذلك الشخص بين التعليقات. صورةٌ كالكابوس. حطام ساعة منعكس في وجه المرآة:
– حصة.. (حطام ساعة) كتب تعليقاً على الصورة الجديدة..
تفاجأت، وسحبت الهاتف من يدي بسرعة، وقرأت بصوت عالٍ:
– صورة تافهة.. هل ستصبحين (فاشنيستا) لأنك فشلت في الدراسة؟ الحقي بأمك وأريحينا منك..
– لا يجب أن نسكت عن هذا الموضوع مريم.. ماذا يقصد بـ «الحقي بأمك»؟ يريدك أن تموتي.
لم أنطق بكلمة. أخذت الهاتف من يدها، وحذفت الصورة.. اقشعرّ جسدي:
– هل يعرفني؟ لماذا؟ لماذا يعرف ما حدث لأمي؟
*
– إلى متى سيتحمّل أخي؟
– زوّجوه. يحتاج امرأة في حياته. لم يقصّر فيها. لنكن واقعيين. مضت عشر سنوات. لا أمل في شفائها. من حقه أن يتزوج. الشرع حلّل أربعاً.
تصلنا أصواتهم عبر الباب المغلق، وكأن الأصوات تتعمّد أن تتسلّل إلينا مهما حاولنا تجنّبها. تعتصر كفّي بين يديها. عيناها غرقتا، وكأنّ البحر انحسر فيهما.. وتبتسم.. لا معنى لتلك الابتسامة، لأن عضلات وجهك فضحتك أمّي. كلمات دفنت في صدري ولم أقلها، خوفاً ربّما.
خرجت من الغرفة لأعطيها فرصة لينسلخ قناع تلك الأمّ الخارقة، وتعود بشراً ضعيفاً بجوف يحترق..
– متى سأعود أنثى؟ متى سيطول شعري؟ لا أريد أن أغطي رأسي أمامه؟ تعبت…
الغريب في الأمر أنّ صوتها لم يصل إليهم أبداً. لم يتخطّ الأبواب التي تركتها مفتوحة قليلاً كي يسمعوها.. والأغرب أنّها عندما قالت همساً بصوت مغصوص بالكاد يسمع (موافقة.. تزوّج يا خليفة) سمعوها جيّداً.. حتى الذين كانوا في بيوتهم بعيداً جدّاً سمعوها.. لماذا؟
*
ساعة محطّمة في وجه المرآة.. هي الصورة الوحيدة في حسابه على الإنستجرام. حالة من الاضطراب والتوتر تتملكني عندما أرفع صورة جديدة في حسابي.. ماذا سيكتب؟ ارتفع معدّلي الدراسي، فهل سيذكر نجاحاتي بدلاً من ذلك (الرسوب) الشيء الوحيد الأسود في صفحتي الدراسية؟ سيفضحني أمام من يعرفني ومن لا يعرفني؟ لم أستطع النوم. حذفت الصورة..
زهرة صغيرة جدّاً تحدّت الجدار، وخرجت لترى النور. الحياة أجمل عندما أرى الجمال فيها.. كليك.. رفعتها على الإنستجرام، وكتبت تعليقاً أسفلها..
– صباح الخير جميعاً..
نسيت.. غفلت عن ذلك الكائن المترصّد لي..
ضحكة قصيرة أتبعها بتعليق:
– أيّ خير والبارحة كنتِ تبكين بسبب زواج أبيك؟
لن أهتمّ. كلماته لن تغيّر جمال هذا اليوم.. متفائلة.. نزلت من السيارة في طريقي إلى المحاضرة. تعثّرت قدمي. كدت أسقط..
– لماذا؟ لماذا يعرف كل شيء؟ أردت أن أكون سعيدة اليوم.
كليك.. التقطت صورة للسماء، ورفعتها في حسابي لأؤكّد له أنني سعيدة غير مكترثة بكلامه.. أمضيت اليوم أراقب الهاتف.. ماذا لو..؟ مضى اليوم طويلاً دون تعليق..
في الصباح الباكر قرأت:
– صورة بشعة كوجهك البشع صباح البارحة.. ربما هذا السبب في مرض أمّك..
وأتبع تعليقه بضحكة قصيرة مستفزة..
تشاجرت مع الخادمة لأنّها.. ربّما هي من ينشر أخباري وأخبار منزلنا بين الجيران..
لم أذهب إلى الجامعة بقيت في فراشي.. تكرّر الأمر كثيراً..
*
عمداً لبست فستاناً أسود، بعدما أجبرت على حضور زفافه. أقنعتني بأنه تزوج لأنها أرادت أن يفعل ذلك لمصلحتي. تضحك وهي تأكل وجبتها للمرة الأولى دون أن أتوسّل إليها أو يجبرها الطبيب. عندما خرجت من الغرفة سمعت صوت الأطباق تسقط على الأرض. يمكنني تخيّل ما حدث خلف الباب المغلق. لو فتحت الباب الآن فستغلق باب الحزن في قلبها مجاملة إلى أن يأكلها.. لو تركتها سينهشني شعوري بالذنب.. طلبت من الممرّضة ألّا تتركها وحدها هذه الليلة.
بعد حفل الزفاف لم أستطع أن أعود إلى ذلك المنزل معه، ولا مع أولئك الأقارب السعيدين بطريقة لا يمكنني استيعابها.. غادرت بعد حفل الزفاف إلى منزل صديقتي حصّة. بكينا سويّاً طوال الليل، وضحكنا صباحاً على عيوننا المحمرّة، وأنوفنا المنتفخة من كثرة البكاء.
*
أتناول الفطور في غرفتها الضيّقة كي لا أزاحم أخواتها في غرفة المعيشة التي بالكاد تكفيهم. وقفت أمام المرآة تضع القليل من المكياج قبل خروجنا لزيارة أمي.
– حصّة.. هاتفك لا تتوقف مسجاته..
– لا يهم.. سأقرؤها لاحقاً.. تعالي لأخفي السواد تحت عينيك بالمكياج..
أمسكت بهاتفها. فتحت الكاميرا. أنظر لوجهي الشاحب. لعينيّ اللتين زاد الكحل الذي ساح على خدّي ليلة البارحة السواد تحتهما..
– حصة.. أبدو كالباندا..
ضحكت وأنا ألتقط صورة لوجهي ستبقى لتذكّرني بهذا اليوم. فتحت (الواتس آب) لأرسلها لهاتفي، ولكن رعشة أصابت جسدي أنستني ما أريد. اقتربت منها أمام المرآة. رأت انعكاسي فابتسمت:
– تعالي.. سأخفي تلك الهالات..
رفعت الهاتف في وجهها:
– صورة (حطام ساعة)!
اختفت ابتسامتها لثوانٍ، وعادت مجدّداً، وبصوت ساخر قالت:
– حفظتها عندي.. ما المشكلة؟ الصورة منتشرة على الإنترنت.. لم تهتمّين كثيراً لتعليقاته التافهة؟!
أخذت الهاتف من يدي وهي تحدّث نفسها بصوت مسموع:
– من هذا المزعج الذي لا تتوقف رسائله منذ الصباح؟
*
يوم عاديّ جدّاً بعد تشخيصها بذلك المرض الخبيث قبل أربع سنوات من الآن..
حطّمت معظم الأطباق في المطبخ. هربت الخادمة الجديدة إلى بيت عمّتي خولة خوفاً من غضبها غير المبرّر كما فعل من سبقوها. حبست نفسي في غرفتي، واستنجدت بوالدي كي يعود إلى البيت..
يحتضنها بين ذراعيه. يقبّل رأسها. ويخطّئ الجميع.. الأطباق قديمة تستحقّ السحق. الخادمة غير مهذّبة، ولا تطيع الأوامر.. وأنا (مريم) أستحقّ العقاب لأنني لم أبذل جهداً أكبر في دراستي.. يختلق الأعذار، وتقتنع هي نفسها بها وتهدأ..
طرقات على الباب:
– حبيبتي مريم.. افتحي الباب..
فتحت الباب، وغصت في أحضانه:
– هدأت؟ كانت منهارة تبكي وتصرخ بلا سبب.. أبي هربت الخادمة الجديدة..
ابتسم، ومسح على رأسي:
– حاولي تفهّمها. تمر بوقت عصيب عزيزتي. العلاج صعب عليها. لنصبر قليلاً..
رفعت رأسي أنظر إليه. أحياناً عندما أرتمي في حضنه أردّد معه جملته هذه، لأنها هي نفسها منذ عدة سنوات. نفس التعابير الحزينة. نفس العيون الذابلة. الشيء الوحيد الجديد الذي بدأت ألاحظه في هذا اليوم الذي اعتقدت بأنّه عاديّ جدّاً هو نبرة صوته المتعبة.. المتململة.. كانت قاسية نوعاً ما بالرغم من لطف الكلمات. كلّ الأيّام بعد هذا اليوم لم تعد عاديّة.
*
أجهشت بالبكاء. صرخت. بعثرت ملابسي. حطّمت عطوري.. كانت تقف في مكانها تنظر إليّ بتعجّب يثير جنوني أكثر. سحبت الوسادة كي ألقيها على وجهها. لم أنتبه، فدفعت إطار الصورة، وتحطمت. نسيت الوسادة ورحت ألتقط الزجاج المتناثر. تبتسم.. لماذا تبتسم؟ صرخت:
– أمي.. هل أنت سعيدة لأنك رحلت وتركتني؟
أمسكت زجاجة قرّبتها من وريدي، لكن يدها كانت أسرع:
– هل جننت مريم؟ كانت مزحة.. مجرّد مزحة..
– كيف لتلك الكلمات أن تكون مزحة؟ تلك الصور الجميلة التي كنت أنشرها، وأسلّي نفسي بها وبعدد المعجبين بها. تلك القهوة المرّة التي لا أطيقها وأتوارى بحزني خلفها. تلك الحقائب باهظة الثمن والتي لا تعني لي شيئاً، وشاركتك إيّاها.. كيف لتلك الكلمات الجارحة أن تكون مزحة؟
– لماذا تبالغين في ردّة فعلك؟ مجرّد تعليق أسلّي به نفسي.. الفراغ.. أنتِ أدرى..
– ربما أنقذتني من زجاجة تمزّق وريدي الآن، ولكن كلماتك تلك قتلتني منذ زمن.. اخرجي..
نفس اليد التي مسحت دموعي في عزاء أمي. نفس اليد التي احتضنتني وربّتت على رأسي. نفس اليد قتلتني ألف مرّة.. ذلك البرود الذي يعتلي تعابير وجهها يقتلني. صرخت مجدّداً:
– اخرجي.. أكرهكِ..
اقتربت مني. حاولت أن تضمّني إلى صدرها وهي تعتذر. دفعتها بعيداً. وعادت مجدّداً. زادت نبضات قلبي، واقشعرّ جسدي عندما اختفت ملامحها. اقتربت الساعة منّي، واختفت حصة.. صرخت بهستيريا أن تتركني، لكنها أصرّت، وهمست لي:
– أنا صديقة طفولتك.. هل يمكن لمزحة أن تفرّقنا؟.. سامحيني..
تلك الساعة الحقيرة أكلت صديقتي، وتأبى أن تتركني.. حوّطت عليها، ورحت أهزها:
– أين حصة؟ أعيدي صديقتي.. أعيديها..
دفعتها بعيداً بكلّ ما أوتيت من قوة. جلست على السرير. أغمضت عينيّ حين تخلّصت من قبضتها. تنفست بعمق، ورأيت انعكاس (حطام الساعة) في مرآة الدولاب.
*
أعاد التسجيل على مسامعي، وفي كل مرة كنت أسقط مغشياً عليّ.. وأنسى… يعيد على مسامعي أن صديقة طفولتي حصة ترقد في وحدة العناية المركزة..
– هل تنتظر منّي أن أصدم بالخبر؟ أخبرتك بأنّها قتلتني أولاً.. لا يمكنك معاقبة الأموات..
يصمت، وأصمت. لا يشغل بالي إلا تلك الساعة التي يلوّح بها أمام عيني..