عبدالرضا حسن السجواني

مطاف – عبد الرضا السجواني

تضج أمواج البحر العود، فتزحف معانقة السيف في حنو. عائدة إلى أحضان البحر.. فتتذمر.. لتهرول نحو السيف مجدداً. لها هدير يداعب آذان قاطني البيوت المطلة على الخور النائمة مياهه على السيف. خاصة الذين يفترشون أسطح غرفهم في مثل هذا الجو القائظ. وأحياء البحر في سبات. والقوارب الصغيرة في إنكفاء حتى أرباع أجسادها على الرمال الكحلاء المتناثرة عليها الأصداف والقواقع الزاهية وبيوت صغار السرطانات العميقة. هدوء مستتب إلى حين موعد صياح الديكة.

 لليلة الثانية على التوالي.. فجراً. يراودني ذات الحلم. وأنتبه من نومي على هتافها المبحوح، متزامناً مع آذان الفجر. مستنجدة، وإذ هي في إرتماء عند مدخل السفينة الثكلى!

لم أتمكن من تمييز شخصها.. أو تحديد شكلها، للضياء.. وربما للبريق الذي يكسوها، مما أغشى عيني.  فما عدت أدرك من.. أو ما هي !

                                                          م

عدة مرات بلغت خمساً، وأنا أحث صديقي «سعيدان»، على المضي لاعتلاء منارة مسجد حينا التليد. وكان عمراناً لم يتجاوز العاشرة بعد. وكنا نسير مرتقين العتبات الصغيرة للمنارة العالية. وضمن حيز ضيق وخانق، نشعر جراءه وكأن رأسينا يدوران على جسدينا النحيلين. آخذة أرجلنا الضعيفة بالركوب على السلالم المهترئ في بعضها. لم يساورني الخوف في أي مرة من المرات الخمس، وإن شعرت بالرهبة في المرتين الأوليين. بينما «سعيدان» قد اكتنفه شيء من الخوف خاصة في المرة الأولى. إلا أنه لا يكف عن التذمر كلما دعيته إلى فكرة الولوج عبر بطن المنارة مجدداً. ولا أخفيكم سراً، إنه كان يعزف عن مرافقتي بعد توريطي إياه في المرة الأولى. إلا أنه يعدل عن قراره ولو بشيء من التذمر، عندما أسارع بملء جيبه إلى منتصفه بالبلي الملونة. لحظتها يخفت تذمره وإن لم يتلاشى .

وبشق الأنفس، كنا نخطو خطواتنا متمسكين بجدار المنارة كيلا نتعثر ونهوي من جهة ظهرينا، متحملين نصب العتبات العديدة، في هذا المحيط الملتوي المكسو ظلمة. توقاً إلى قمة المنارة، ذات الفتحات الثلاث. ومفضلتي تلك التي تطل على البحر العود. وهنا مكمن شغفي في رؤية السفينة الثكلى، والأمواج العالية التي تلطمها قريباً من صدرها المصدوع. أمضي وقتاً.. بحق، غاية في الاستمتاع. إذ أقعد في مواجهة البحر، تدغدغ النسائم المنعشة بشرتي ووجهي، مستغرقاً في تأملاتي، حتى أكاد أن أغفو. و«سعيدان» ملتهٍ بالأعطية من البلي. لولا إلحاحه الممل بالرحيل عن المنارة خوفاً أن يره أحد المارة من أهالي الحي فيخبر أمه – كونه لا يخاف من أبيه الطيب الوديع – كما يصفه دائماً. ولسبب آخر اعتيادي، وهو سقوط بعض البلي من يده وتدحرجها عبر العتبات إلى الأسفل. 

ولقد سألت أبي يوماً، عن سر هذه السفينة الراسية عند سيف البحر العود، فقال :

– لا نعرف عنها الكثير يا ولدي «حمود»

وأردف :

–  ولكن ما أخبرني به جدك يوماً أنها سفينة قد تعرضت لمكيدة وغدر على متنها. وكان ضحاياها عدد غير قليل يا ولدي وفر أصحابها مع الجائرين عليها، بعد أن رست مقدمتها في إلتحام بالرمال، متوقفة إلى اليوم.

ولكن، لم هذا الشغف المتزايد مني لها ولمثواها، وللبحر العود وأمواجه؟! كان هذا ما يساورني ويدعوني إلى التفكر، إلى أن رأيت في منامي ما رأيت .

ط

–  لا بد لي من المضي إليها ..

رد «سعيدان» في الحال :

–  بالله عليك لا تأخذني إليها

   مجدداً

–  ولن تغريني ببليك هذه المرة

وأضاف :

 – لو رآنا أحد ما وأخبر ذوينا ..

   سنبرح من الضرب عندئذ

 – لا تزجني فيما لا أطيق ..

  وإلا لن أصاحبك

تتابعت أعذار رفيقي متعللاً، حتى صرخت عليه :

–  مهلاً… أنا لا أقصد المنارة

لحتئذ صمت «سعيدان»، فقلت له :

–  سنستقل القارب هذه المرة

–  وإلى أين نمضي؟

–  إلى البحر العود

–  وماذا نفعل هناك؟

 – لنلعب على السيف حيث الأصداف والقواقع ونجم البحر… وأردفت :

 – كما يفعل إخوانا وبقية الشبان وهم يسبحون كل يوم قبل آذان الظهر إلى تلك البقعة .

وكي أستدرجه بحبائل حيلتي:

–  سأعطيك نصف علبة من البلي

هنا لاذ رفيقي بالصمت فشعرت بالإرتياح .

وإنني عازم على الاقتراض من أخي الأكبر ثمن البلي كي أنجز مهمتي. لذلك النداء الملح، وكأنه آت من أعماق الحقيقة، بنبرته المفجعة. حاثاً لي بالتوجه إلى السفينة  .

أ

وبعد آذان العصر، توجهنا إلى حيث ترسو القوارب، واتفقنا مع «عبادي العبار» على أن يأخذنا إلى هناك شريطة أن يمر علينا بعد ساعتين من الزمان. ولو أنه لم يكف عن نثر نصائحه علينا :

–  ماذا تودون من زيارة هذا المكان ؟

فقلت له :

 – سعياً لجمع الأصداف ..

 – إذن ابتعدوا عن مياه السيف، فلربما لخمة نائمة في الرمال ويدوس واحد منكما على ذيلها حيث شوكتها السامة.

وأنا أرد عليه :

 – سنفعل ..

 -العبا فقط على رمال السيف واحذروا الأمواج 

 – لا تتأخرا عن «العبرة*»

كانت تلك آخر الكلمات التي قالها لنا وهو يرسو لننزل من قاربه. مشينا قليلاً لنصبح بمقربة من السفينة. مشدوها من هيأتها. فأخذت أمشي بمحاذاتها، في حين جلس «سعدون» على الرمال البيضاء الناعمة، ناثراً بليه الملونة، المتلألئة بضوء الشمس. متأملاً.. جاعلاً المتشابهة منها على حده والسرور بادٍ على محياه. وأنا في حيرة،  الإضطراب بان علي . والنداء يلح علي كياني، ينتزع فؤادي الي حيث مثواها، فقلت لرفيقي :

–  هل لك أن ترافقني إلى داخل السفينة .

رفع عينيه عن بليه قائلاً في امتعاض :

–  لا لا أنا أخاف ..

 – ليس إلى جوفها، فقط على ظهرها  

 – لا .. لا أقدر

فقلت في نفسي: إنها مهمتي وحدي إذن .

ف

اقتربت من السفينة في مواجهة لها. بدت لي حالكة، يكسوها الصدأ على آخرها. مرتمية على جانبها الأيسر. وبضعة طيور قد حطت على أعمدتها، تنظر إلينا ملياً.. على هذا الاقتحام المفاجئ. إنها ليست بالسفينة الصغيرة، إنها كبيرة.. لها اتساعها على ما يبدو. ولكن كيف سأعتليها؟

من حظي الحسن أن أمواج البحر بعيدة عنها اليوم. إذ المياه غير مضطربة تلاعبها الرياح كيفما بدا لها لاطمة صدرها. تفحصتها جيداً، فوجدت أن أيسر طريقة لتسلقها من جهتها التي تستلقي عليها. قامت الطيور من مكانها محلقة. وبحذر شديد، والمزيد من الشدة، تمكنت من التسلق متشبثاً بأي شيء طالته أصابعي –  بعد دورة مران صقلتني إياها بيوتات وخرائب الحي –  إلى أن تمكنت من رمي جسدي على متنها. من الوهلة الأولى، تدفق إلى رئتي ارتياح وشعور عميق من الغبطة. مشيت على ظهرها جائلاً بصري هنا وهناك. إنها مترامية الأطراف.. يسودها لون واحد، هو لون الصدأ.

 طفت متنقلاً من جهة إلى أخرى. وعيناي تعانق كل ما صادفها، ملتقطة التفاصيل. وخطوة خطوة، هبطت إلى الأسفل عبر السلالم المهترئة. وكلي حذر وتوجس، ودقات قلبي طبول في صدري تدق في تسارع متتابع. وصدى النداء يأسرني ويأخذني إلى منتهاه. أنظر كل جهة، والمياه التي تغوص قدماي فيها. أحسست أن لا طاقة لي على المضي بعد أن قطعت مسافة من جوفها. فاستقليت السلالم متوجهاً إلى الأعلى. فاكتشفت أنها ليست التي جئت عبرها إلى الأسفل وأنا أنظر إلى الجدار المصطبغ بلون آخر، والهتاف يطرق مسامعي..  فتضج به دواخلي وأنا في بحث عن.. عن أي شيء يدلني أو يوصلني إلى مبتغاي. هذا بعد أن مررت على أبواب قد أحكمها الصدأ تحاول في بعضها أن تسرد حكايات لم تدون بعد. كدت أن أبلغ سطح السفينة وقد لاح لي ضوء الشمس.. والهاجس ذاك يطغى بواقعه عليّ.. ولم أألف أي شيء بضياء…

إنها جهة أخرى تؤدي إلى أعلى. شدني منظر البحر الآسر في أمواجه المتلاحقة يتقدمها الزبد الأبيض الكثيف. وهي في زحف متباطئ إلى مثوى «سعيدان» المستغرق في لعبه مع البلي والأصداف  

رمت قدماي خطواتها من جديد.  يحدوني الأمل في تلبية نداء لا أعرف كنهه بعد. ترحل بي أفكاري بعيداً في تساؤل:  

– لم أنا بالذات تراودني هكذا أحلام؟

 – وما ماهية هذا الحلم ؟

كي يطوقني آسراً إياي إلى هذا الحد.

–  كيف أصرف ذهني عنه؟

–  وهل من سبيل إلى الخلاص؟

لأجوب أمكنة السفينة للمرة الأخيرة. قبل أن تنشر الشمس أشعتها الذهبية، ويحل الظلام. هبطت إلى الأسفل، من جهة أخرى، طائفاً ناحية ممرات أخرى وأنا أتساءل: أين مضى أهل هذه السفينة؟ وما حل بهم؟ وأين يمكثون؟

خطوات عصيبة، انتزعها بتثاقل من قدمي. تتبعها خطوات أخرى في مياه باردة، هي الأصعب من بين كل هيامي وجولاتي في أزقة الحي الضيقة، ودهاليز الليل.. وجوف المنارة. وما أن لاح لي ضوء، سارعت بالاتجاه إليه. إنه مدخل لسلم آخر يؤدي إلى ظهر السفينة. وصعدت على السلم بصرير ينتقل من سلمة إلى التي تليها. وقبل أن أصبح في منتصف طريقي من السلم. لفت انتباهي وكأني رأيت هذه الزاوية بمقربة من الباب في الأسفل!  ثم أكملت سيري ميمماً جهة السطح بسراب يشعرني بالضيق، بلا أثر لذات الضياء المبهر الذي يحجب تفاصيلها. وقعت عيناي على منظر البحر وأمواجه والنقاء المعهود. ورفيقي يهتف عليّ يحثني على الرحيل. وأنا خائر القوى.. حائر، لا أجيد الاهتداء إلى تعليل لما بدر من قبلي بعيد رؤيتي الحلم وحتى اللحظة. إلا أنني سارعت بالهبوط من على ظهر السفينة. ومضينا أنا ورفيقي وعلبة بليه. إلى حيث قارب «عبادي» وإحساس متهاد ضامر في دواخلي لا أهتدي لتفسير له… وحيث يجدف والقارب يشق سبيله، خطر عليّ أمر. أما كانت هيأتها في الحلم شبيهة من الحورية؟ كما وأن هناك فانوساً مشعاً في مقدم السفينة!

ومضى كل منا إلى بيته وقد بدأت الشمس بنشر أشعتها الذهبية. مصطبغة السفينة والأمواج القريبة منها بتلك الألوان. ويعتلي آذان المغرب قمة المنارة. لحظات وأرتحل في استسلام لسبات عميق. وإذا بي أرى كما يرى النائم في منامه. مكاناً جميلاً تزينه الأشجار، وفوقها الأطيار المغردة، محيطة به المياه الجارية.. الحانية. وإذا بعيناي تقعان على ضياء ساطع فغشي بصري فما عدت أرى وإذ هي تقول شاكرة :

 (أنا أعلم أنك قد زرتني. أخبرني  البحر.. الذي أخذني في أحضانه. وسأزورك في يوم شدتك)..

وانتبهت من نومي وصوت آذان الفجر مشرعاً.. وعندما حاولت أن أغمض عيني، تفكرت.. أما كان الذي مررت به بمثابة مطاف آسر مضى بتفاصيله بوتيرة معاكسة.. كانت تنبئ عما تنبئ !

     

  عبد الرضا السجواني

        2015

  * في الماضي كان قبالة حي المريجة بحران الصغير هو الخور والعود هو الكبير والذي يكون دائماً عميقاً.